منذ وعيت وأنا أسمع عن الوحدة والتقريب في قبال الفتنة وشق الصف والخصومات، ولم أفهم من هذه المصطلحات -ربما لقصور عقلي- غير أن متكلم يجب أن يصمت وآخر ليس لأحد الحق في الرد عليه فضلًا عن إسكاته، وإلا فالصف يشق وتتشرذم الأمة ويضيع المجتمع..!!
مصطلحات طالما أتعبتني، فهي تبعث على شعور عنيف إما بالإنهزامية والإنعزال الفكري وإما بالتناقض بين قوة العقل المودعة من الله تعالى في الإنسان وبين وجوب الصمت حفاظًا على وحدة الصف وتجنبًا لتهمة الفتنة وتشظية المجتمع، وليس من مخرج غير الإيمان المطلق بالتسليم التام للقاعدة الجماهيرية التابعة، وفي المجتمع المتدين فهي وفقًا لقاعدة (قلدها عالم واطلع سالم).
وبالرغم من هذا المستوى من الخضوع إلا أن الخاضع يواجَه بطرح آخر يفقده توازنه الثقافي بكل ما تحمل الكلمة من معنى، وهو طرح التعددية وحرية الرأي وأهمية النقد.. وتضيع البوصلة!
تأصيلات ينبغي لنا التأكيد عليها قبل البدء:
أولًا: ينبغي لنا الترفع عن اتهام بعضنا البعض جرحًا وتمزيقًا وتسقيطًا، فالأصل بين المؤمنين المودة والمحبة والغيرة، ولا ينهدم إلا ببينة واضحة لا تحتمل التأويل، مع التثبت من أن تبنيها خال من دوافع الحسد والعصبيات والتصنم الفكري.
ثانيًا: من المهم جدًا أن ندرك وعلى نحو واع عدم إمكانية الإطلاق في احترام الرأي الآخر، فهناك رأي سخيف وهناك رأي سفيه وهناك رأي حقير أيضًا، والميزان في كل ذلك كليات أخلاقية وضوابط تخص كل دائرة فكرية تكون محل توافق (وليس بالضرورة اتفاق) زمانًا ومكانًا، ومن يشذ عنها فهو غير محترم في محل الشذوذ.
ثالثًا: قبيح جدًا أن نفهم الآخر بالطريقة التي نريدها نحن، بل والأكثر قبحًا الإصرار على فهمنا حتى مع نفي المتحدث له، ولذلك فإن الحوار هو المخرج الآمن دائمًا لتصحيح الأفهام وعدم الإنحراف في التعاطي مع الآخر.
رابعًا: من النادر جدًا أن يصح القبول بالمطلق أو الرفض بالمطلق، فمن لا أتوافق أو لا أتفق معه في الثقافة أو الفكر أو ما شابه فليس بالضرورة أن أرفضه بكله، بل الصحيح أن (أشطب) محل الخلاف وأنظر في باقي نتاجه، وكذلك فإن من أتفق أو أتوافق معه في الثقافة أو الفكر أو ما شابه فليس بالضرورة أن أقبله بكله، بل الصحيح أن يكون الميزان دائمًا هو الحق وما تقبله قاعدة الثوابت والقناعات الخاصة.
خامسًا: لكل أمر وجوه عدة، وقد أرى من وجه لا تراه أنت، وقد ترى من وجه لا أراه أنا، ولذلك لا يمكن أن أدعي مطلق الحق، وبالمثل فأنت لا يمكنك ادعاء مطلق الحق أيضًا.
هذه بعض الأصول التي ينبغي لنا البناء عليها في تأسيسنا لمجتمع يأخذ طريقه نحو النضج الثقافي وهو الأساس لكل نضج وكمال.
نأتي الآن إلى قضية الوحدة و(شق الصف)، والبداية بطرح السؤال التالي:
ما هي الطبيعة البشرية في قضايا الفكر؟
لا أتصور اختلاف اثنين في أن التعدد الثقافي متحقق حتى في مداخل البيت الواحد بين الآباء والأبناء وبين الأبناء فيما بينهم، فالثقافة خيوط متشابكة تتشكل في (الأنا).. جينات، تجارب، ملاحظات، نفسيات، وما إلى ذلك، فالاختلاف إذن هو الأصل في المجتمع البشري، ومن يحاول الحصر في حارة واحدة بإطار واحد فسعيه غبي بلا أدنى شك.
وبالرغم من هذه الحقيقة الأصيلة إلا أن الطبيعة التنظيمية التي يقوم عليها هذا الوجود تأبى ترك المجتمع هكذا تتقاذفه الثقافات والأهواء دون ضبطها جيدًا، وهنا يأتي دور الدوائر الثقافية التي أؤكد على أهمية الإلتفات إليها جيدًا، وملخصها أن الإنسان ينتمي في وجوده الفكري إلى مجموعة من الدوائر تنتظم من الأكبر إلى الأصغر، فالمسلم يتعامل مع البوذي –مثلًا- بما يوافق الأطر العامة للدائرة الأكبر وهي دائرة (الإنسان) بما هو إنسان، وتضبط في هذه الدائرة القضايا الأخلاقية من صدق وأمانة وحفظ وعون وما إلى ذلك، وإلا فلا مسوغ أبدًا للتعامل بينهما من منطلقات فقهية أو عقدية أو ما شابه، ومن هذه الدائرة ينتقل المسلم في تعامله مع المسيحي –مثلًا- إلى دائرة أضيق، وهي دائرة الإيمان بالله سبحانه وتعالى وبالنبي المسيح (على نبينا وآله وعليه أفضل الصلاة والسلام)، وفي هذه الدائرة تتسع القواطع المشتركة بما يوافق المبدأ والمعاد وما شابه، ومنها ينتقل المسلم إلى دائرة أضيق عندما يكون تعامله مع المسلم المؤمن بالله تعالى ربًا، وبمحمد (صلى الله عليه وآله) نبيًا، ومنها إلى اخرى في تعامل الشيعي مع الشيعي –مثلًا-، وهنا محل كلامنا تحديدًا..
السؤال: إلى أي مدى يتمكن الشيعي من التعاطي الإيجابي مع الشيعي الآخر؟
الجواب: واضح أن التعاطي على مستوى الخطوط العامة (أكرر: العامة) للعقيدة هو الأكيد بين أبناء المذهب الشيعي، ومن الممكن جدًا الإختلاف فيما يتفرع عن العقيدة من أمور كثيرة، وطالما أنها مما لا يخرج عن الملة فمجال الحوار العلمي والمحاججة البرهانية مفتوح بل ومطلوب لأنه منطلق إثراء للثوابت العقائدية عمومًا، ومن المفروض قطعًا الخروج عن حد الإحترام في إطار الاختلافات فيما يتفرع على الأصول العقائدية، ومن يصر على التنازع في مثل هذه الميادين فهو مدان إبداءًا.
وأما في ميدان الفقه فقد فتح التشيع باب الإجتهاد على مصراعيه وضبطه بضوابط واضحة هي في الواقع محل اتفاق، وبفتح باب الإجتهاد فإن التوجه من المكلف بغطاء شرعي لا بد أن يكون محترمًا من الجميع في جميع الأحوال؛ إذ أن المصحح للعمل والمحقق للمعذرية إنما هو التزام الرأي الفقهي لمرجع التقليد، ومن يخرج عن هذا الإطار كائن من كان فهو مدان ابتداءًا، ومن المفترض أن نلزم أنفسنا بعدم النزول إلى منزلقات التفسيق والحكم على الآخرين بالإنحراف والضلال وما شابه، إلا في حدود ضيقة جدًا تضبط بضوابط دقيقة، وإن لم نلتزم وأوجد كل واحد منَّا لنفسه طريقًا لتفسيق الآخر فلنتجهز إذن إلى تيه حقيقي على مختلف المستويات.
ومن ميدان الفقه ننتقل إلى أكثر الميادين حساسية وهو الميدان السياسي، وفي الغالب أن التعددية تظهر في أقوى صورها هنا، في السياسة ورؤاها وما تحتمل من أطروحات ونظريات وما شابه، ولأن مجال الاختلاف مفتوح بين أبناء المذهب الواحد في فروع العقيدة وفي القضايا الفقهية فكيف لا نجيزه فيما هو أدون؟
من الطبيعي جدًا أن تُقرأ الساحة السياسية بحسب المكون الثقافي والفكري للقارئ، ولأن الإختلاف طبيعي جدًا والحال هذه، وبما أنني لا أقبل لأحد أن يجبرني على رؤيته ويفرض علي رأيه، فمن الواجب الأخلاقي والعلمي والأدبي أن لا أملي عليه آرائي ولا ألزمه بشيء منها طالما أنه غير مقتنع بها، ولا مسوغ لذلك على الإطلاق، وحتى تضبط هذه المسألة بشكل جيد فإنني أطرح هنا أمرين:
الأول: تشكيل التجمعات السياسية ضرورة لا بد منها، سواء كانت تلك التجمعات أحزابًا أو منظمات أو جمعيات أو غير ذلك، فالمهم أن تكون لكل جماعة تتفق أو تلتقي في خطوط ثقافية وفكرية أساسية تجمعًا خاصًا تعرف به، وحق الاثنين هنا هو عين حق المليون والمليونين، وحتى لو كان في البلد ألف حزب أو جمعية فإن التنافس المفترض إنما هو تنافس فكري يعتمد القوة في البرهان والتمكن من الطرح.
الثاني: أن يطرح كل تجمع رؤاه الفكرية بكل وضوح وشفافية وجرأة بما يمكن الجميع من قراءته قراءة صحيحة، وبذلك تفتح أبواب التنقل وتبرز ضوابط الإنتماء.
سؤال: هل في ذلك إضعاف للأمة أو المجتمع أو الوطن أو ما شابه؟
الجواب: (لا) بملء الفم، فالوحدة ليست في الإصطفاف الجماهيري، ولا القوة في الإلتفاف لمجرد الإلتفاف، بل الوحدة في أن يكون المجتمع عصيًا على الإختراق مع تأكيده على التعددية بكل ما تحمل الكلمة من معنى، وتأكيده على احترام الخيار الجماهيري لطبيعية غلبته دائمًا، وكل ما ينبغي من الجميع تصحيح الخطأ بالطرق المتعقلة، ودعم الصح بالطرق المتعقلة أيضًا، ومن أشد الأمور عيبًا بل ولا أتردد في الحكم عليها بالإثم الأخلاقي والأدبي العظيم أن تحاول جهة السيطرة على الجماهير بالإثارات العاطفية وتوظيف الخطاب المهيج للغير والمشاعر وما نحوها، فهذه والله (بكسر الهاء) جريمة تحتاج منا إلى معالجة فورية.
أين شق الصف إذن؟
الجواب: بكل بساطة أقول قاطعًا بأن شق الصف إنما هو في إثارة التخويف من (شق الصف) بالدعوة إلى جهة واحدة وإجبار الجماهير على اتباع رئيس واحد تصريحًا أم ضمنًا، فكل ما يخالف الطبيعة البشرية هو الذي يؤدي إلى شق الصف وتشظي المجتمع.
كلمة أخيرة:
طالما أن المجال للاجتهاد والاختلاف مفتوح وتقرره الطبيعة البشرية، فالخطأ إذن وارد جدًا، وحتى ننطلق من أخطائنا نحو التكامل بتصحيحها، فليس من طريق أكثر جدوى من النقد والاهتمام به بل والمبالغة في الاهتمام بتنميته وتقويته في ثقافة المجتمع، ومن يرفض النقد أو يحرمه بشكل من الأشكال، فهو الذي يشق الصف ويمزق الوحدة.
هكذا أرى الأمر، ومن الشاكرين أكون لو أن القارئ الكريم يتفضل بالكتابة في هذا الموضوع مكثفًا، فنحن في حاجة ماسة إلى تصحيح المفاهيم من جهة والتأصيل من جهة أخرى.
السيد محمد علي العلوي
27 ذو الحجة 1433هـ/ 12 نوفمبر 2012م