من المؤكد أن: خير الكلام ما قل و(دل)، وليس ما قل (فقط)، فمجلدات 43 فقهية استدلالية كتبها الشيخ محمد حسن النجفي (قدس سره) هي في الواقع قليلة دالة بالنسبة لموضوعها، ولو أنه زاد على 43 فلربما كان قد خرج عن حدود (خير الكلام ما قل ودل)، فالقليل الدال إنما يكون كلذلك بالنظر إلى موضوعه، وليست القليل هو ما يحددها المتاح من الحروف في كل تغريدة على موقع التواصل الإجتماعي (Twitter).
هذا أولًا، وأما ثانيًا فمن مبادئ احترام العقول وتقديرها أن تقدم لها الفكرة مشفوعة بمقدمة، مدعمة بأدلة، فتكون بين يدي القارئ بما يُمْكِنُه فهمها ومناقشتها وما نحو ذلك، وأما أن تختصر الفكرة في (تغريدات) مما يضطر صاحبها إلى التقصيص و(التلشيط) فهذا في الواقع مما نعارضه لتسببه في كوارث ثقافية لا زلنا نعاني منها الأمرين، وبيان ذلك في التالي:
مثال أول:
ميثاق العمل الوطني.. بماذا نصوت؟ (أعطونا الزبدة).. (احنا ما نفهم في هالأمور).. (هذا مو شغلنا)..
مع العلم أن ما ورد في الميثاق سهل بسيط لا يحتاج إلى فلاسفة لفهمه، ولو أن جماهير الشعب قرأت الميثاق وفتحت المجالس لمناقشته وتقليبه بعقول متوثبة متقدة لما صوت عليه 20% منهم!!
مثال ثاني:
ها نحن في كل سنة نشد الأحزمة ونتجهز لمواجهة معركة (الهلال)، وقبل كل رمضان وشوال نعيد نفس الكلام وبنفس الحدة وبنفس زاوية (الجهل) مع ما يكون من اختلاف في إثبات الهلال من عدمه. هذا ولو أن الناس تقرأ بضع صفحات حول طبيعة الإختلاف ودور المبنى الفقهي لكان منهم أن تجاوزوا هذه المشكلة من عشرات السنين، ولكن الحاصل أن الغالبية منا تريد (الزبدة)!!
مثال ثالث:
لا أتمكن من إحصاء المرات التي سمعت فيها نقلًا من أحد (…) وعندما رجعت إلى المصدر وقفت على ألوان من التدليس والكذب والدجل، وعندما أتقدم لبيان الحقيقة فإنني أجابه بتيار (ممانع) قوي لا يتردد في الإساءة إلي.. لماذا؟ لأن القائل كان (فلان)، وهو لا يكذب، بل وحتى عندما أطلب منهم الرجوع إلى المصادر فإنهم يمتنعون لأنهم يرفضون التشكيك في (فلان) أو (فلان) أو (فلان)، وقد كان قبل قرابة الخمس سنوات أن نسبت فتوى محددة لمجموعة فقهاء يصل عددهم إلى المئة أو أكثر، وعندما رجعت إلى كتبهم ومواقعهم الإلكترونية الرسمية اكتشفت أن ما لا يقل عن 80% كان كذبًا! ولو أن الناس تقرأ وتتبع لما وقعت في شراك مثل هذه الألاعيب.
وما أكثر الاقتطاع من الكلام، فيحذف القبل و(يسحق) البعد، ويؤخذ موضع الحاجة للتهمة والتشهير.
مثال رابع:
مقال من صفحتين (A4).. لا يقوى من يدعي الوعي على قراءته، ومن شدة وعيه وفنة وربما (فهلوته) فإنه يقرأ سطر من فوق وسطرين من المنتصف ومثلهم من الخاتمة، وليته يصمت من بعدها، إلا أن الأدهى تقدمه لطرح الإشكالات وربما الإتهامات والدفع بالضد.. ولو أنه قرأ المقال بالكامل لوجد الكاتب متفقًا معه أصلًا!!
فلندقق قليلًا..
عندما يتبنى إنسان فكرة لغيره دون الإحاطة بمقدماتها والأدلة عليها فإنه في الواقع لا يتبنى الفكرة، ولكنه يتصنم على الولاء لصاحبها، ولذلك لا تجد منه إلا التعصب والتذمر والبدء غالبًا بضرب من يخالفه وتضعيفه بأساليب وقحة سخيفة قبل أن يدخل معه في حوار ممل سمج (يرفع الضغط)، ولو أنه كان فاهمًا مقتنعًا ببعث من الدليل والبرهان بالفكرة التي يحمل رايتها لما اضطر لضرب من يخالفه ولما شعر بحاجة إلى تعصب أو عصبية.
القرآن.. قراءة بلا تدبر..
كتاب.. القراءة مملة..
مقال.. المقال طويل و(ما لنا زاغر)..
طيب، على أي أسس يقوم الحوار إذا كان المتحاورون لا يستندون لا إلى رؤية قرآنية، ولا إلى نظريات علمية، بل ولا حتى إلى أفكار تامة.. كيف يمكن لمثل هذه الحوارات أن تثمر؟
يا أيها القارئ لهذه السطور.. فلنقرأ ولنقرأ ولنقرأ، ولنرفض أن تكون القراءة هواية، فهي ضرورة إنسانية بكل ما تحمل الكلمة من معنى، فليشعر الواحد منا بالخزي والعار إن لم يقرأ في اليوم خمسين صفحة من كتاب، وليشعر بالخجل إن لم تتبلور الأفكار في ذهنه بشكل يومي..
وكلمة أخيرة أعني بها البعض..
هناك شريحة تعشق القراءة جدًا، ولكنها لا تقرأ لتفهم، بل تقرأ لتصارع وتحارب وتتجرأ على الآخرين، وهؤلاء أكثر شرًّا ممن لا يقرأ..
السيد محمد علي العلوي
27 ذو الحجة 1433هـ/ 12 نوفمبر 2012م