أقول (الرئيس) لأنني معارض بقوة لمصطلح (القائد) في غير المعصوم من نبي أو إمام، وقد وجب التنويه قبل البدء..
قال الإمام الصادق (عليه السلام): “المؤمن أعظم حرمة من الكعبة”، ومن الواضح أن المؤمن محفوظ الكرامة سواء كان فلاحًا أو طبيبًا أو عالم دين أو غير ذلك، فهو بمجرد أن يقر بالعقائد الحقة كان مؤمنًا وثبتت بين المؤمنين حرمته بلا شك، وليس من المعقول والحال هذه أن يهان مؤمن بحجة حفظ كرامة أو مكانة مؤمن آخر، فهذا تناقض ونقض صريح لا يحتمل كثير جدال.
ولكننا نقر أيضًا بأن مكانة المؤمن تعلو كلما كان في تقواه أعلى وفي ورعه أشد، وقد قال المولى تبارك ذكره (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ)، ولكن هذا أيضًا لا يبرر إهانة من هو دونه بحجة الدفاع عنه، فقضية الفرز مهمة والأهم منها الحذر من خلط الأوراق وتمييع الحدود.
عندنا كشيعة إمامية أن الولاية لله تعالى وللرسول (صلى الله عليه وآله) ولأولي الأمر من آل محمد (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين)، وفي زمن الغيبة فإن الولاية تضيق في “فأما من كان من الفقهاء صائنًا لنفسه، حافظًا لدينه، مخالفًا على هواه، مطيعًا لأمر مولاه، فللعوام أن يقلدوه” وهو تصريح مباشر من الإمام الحسن العسكري (صلوات الله وسلامه عليه)، وبالرغم من ضيقها إلا أنها تبقى وبحسب معايير واضحة وموازين صارمة في طول ولاية المعصوم (عليه السلام)، وبالتالي فإن التوفر من فقيه على مثل هذه المواصفات الدقيقة يتبعها تنصيبه رئيسًا على من هم دونه، ومن الواضح أن المقام مقام تشخيص موضوعي صرف، إذ أن ترجيح فقيه على آخر وبنفس الموازين إنما هو تكليف بالنظر ولا يمكن أن يكون بالفرض، وعليه فإن زيدًا من المؤمنين قد يرى الرياسة في بكر وبحسب الموازين المقررة، في حين أن عمرًا قد يرى آخر وبنفس الموازين، ولا إلزام ولا فرض على الأمة بإمضاء اسم بشخصه على الجميع إلا إذا كان منصبًا من الله تعالى كما هو الحال من الأئمة المعصومين (عليهم السلام).
وإذا كان الأمر كذلك فإن أحدًا لا يتمكن من سلب الآخر حق اختيار الرئيس، وإلا فمن حق الآخر سلبه نفس الحق، ولا مبرر إلا وهو مكابرة وغرور.
تلك القاعدة الأصل وعليه يرجى البناء، إلا أن هناك من يعمل بكل جد واجتهاد لتحطيمها وجعلها مصدرًا للتقزز والنفور، وهؤلاء على قسمين أساسيين:
القسم الأول: أناس يمتهنون الهدم ويحترفون التدمير دون مراعاة لغير البث المتواصل لسموم الكلمة الحمقاء المنفرة المقززة حتى لمن يتفق معهم في الخطوط العامة للفكرة أو النظرية، وهؤلاء ليسوا إلا ثلة مستبدة حتى لو ادعت الوعي والتعددية، وهي قمعية وإن صدر عنها ما يشير إلى انفتاحها، وفي كثير من الأحيان تتستر خلف ستار كسر الأصنام ولكن ستارها عقلية صنمية لا ترى غير نفسها ولا تعترف بأحد سواها، وأما ميلها فلنفسيات مأزومة على شاكلتها.
القسم الثاني: وهم في الغالب المنتجون والمكونون للحالة الثقافية التي تشكلت عليها فئات القسم الأول، وهؤلاء هم المقدسون الذين يريدون إمضاء رئيسهم على كل المجتمع ولهم في ذلك طرق وسبل ومناهج لا تقل تنفيرًا للعقلاء من طرق وسبل ومناهج القسم الأول، ومنها منهج التسويق غير المنطقي وغير المبرر لرئيسهم أو رمزهم، فالذي نعلمه بأن الكلمة هي التي تبرز الإنسان، والموقف هو الذي يقربه أو يبعده من الناس، ولا حاجة إلا أن تعلق صوره في كل مكان وتنظم فيه القصائد وتقال فيه الأشعار، وبالرغم من أن مثل هذه التصرفات جائزة في نفسها إلا أن حكمها الأخلاقي يتغير إذا ما نظرنا إلى أثرها الثقافي والتربوي بين عموم الناس.
نعم، فليعلق من يشاء صور جيفارا –مثلًا- ويكتب تحتها عبارة من قبيل: (قائد ثورة كوبا)، وما نحو ذلك من عناوين لا تفرضه على الجميع ولا تسلب حقًّا من أحد، وهذا مقبول بلا شك كما ولا يبعد أن ندافع عنه وعن غيره مما يماثله، أما أن يسبغ على شخص بعينه من العناوين والألقاب –حتى وإن كان مستحقًا لها- دون مراعاة لوجودات رئاسية أخرى –وإن كانت ضيقة في جماهيريتها- فهذا يولد ردات فعل غير منضبطة غالبًا، وبالتالي تشكل أنوية متفرقة تكون فرقًا من القسم الأول لتبدأ من بعدها جولات المواجهة والضرب من فوق الحزام ومن تحته.
إن ظاهرة (التسويق) للشخصيات هي في الواقع تضر بنفس الشخصيات المسوق لها ولو بعد حين، والمشكلة أنها ظاهرة تولد مشكلات في عقب مشكلات وتأزيمات في إثر تأزيمات حتى تضيع البوصلة ولا نشعر بأنفسنا إلا ونحن في دوامة لا يعرف لها رأس من (كرياس)!!
فليلاحظ القارئ الكريم ذلك التحسس الغريب العجيب من أي نقد يوجه إلى شخصية يتخذها البعض رئيسًا، فالنقد لا يفهم نقدًا ولا حتى رأيًا، ولكنه يوجه ويواجه في الغالب كظاهرة تسقيط وتهمة تنبعث من أحقاد وكراهيات، والحق أن الحالة ابتداءًا ليست أكثر من رأي أو نقد يوجه بشكل طبيعي، ولكن ارتفاع درجة الحساسية هي التي توجه البوصلة إلى مجموعة من التوهمات سرعان ما تتحول إلى وقائع وحوادث تسيل على ناصيتها دماء السمعة والسيرة!
هناك في الواقع من لا يعطيك المجال لاحترام رمزه، فهو ضدك إلا أن تحترمه كما يريد هو وكيفما يشاء، وما إن تبدي احترامك وتقديرك دون خلط بحق النقد وإبداء الرأي، فإنك حينها منافق حاقد لا تفهم ولا تعي، وأنت شاق للصف وضارب لأعمدة الوحدة.. وأهلًا بقائمة لن تهدأ إلا بالقضاء عليك بين الناس وتحويلك في نظرهم إلى عدو (مدسوس)..
أيعقل أن نكون على هذا المستوى المتدني من أخلاقيات الوعي ونحن أمة العظماء من آل بيت الرسالة ومعدن النبوة؟
تعال أيها القارئ الكريم ودلني على آلة إعلامية بشراسة الآلات الإعلامية التي ترافق بعض الرؤساء، كانت تعمل بعشر طاقتها لأحد المعصومين (عليهم السلام) أو أحد أصحابهم النجباء.. هل تجد من ذلك شيئًا؟
يا أخي الكريم تعال إلى أبي ذر الغفاري.. رجل لا يملك غير عمامته وعصاه وقميص وسروال ورداء، لا ملك له ولا عقار ولا مال، إلا أنه ملك قلوب المؤمنين دون أن تعلق له صورة أو ينصب له كرسي أو يزين لمجلسه منبر، وهكذا كان المقداد وسلمان ومالك وغيرهم من أعاظم الأصحاب (رضوان الله تعالى عليهم أجمعين)..
وتعال يا أخي لنبحث قليلًا في أصل الظاهرة الإعلامية (المبالغ فيه).. أوليست من موروثات الأمويين والعباسيين؟ ألم يكن الشعر ونظم القوافي تخص بها مجالس و(تكيات)؟ أوليست التماثيل والمنحوتات كانت مما يتقرب به إلى السلاطين والملوك؟
لماذا؟ لأنهم أقل من يقدموا أنفسهم للناس ثقافيًا وعلميًا وفكريًا، ولذلك كانت الآلة الإعلامية الشرسة موظفة للعصف بالعواطف والأخذ بالنواصي والأقدام نحو تقديس المروج إليه والجمود على عنوانه الصنمي.
أبو الحسن الأصفهاني، الأنصاري الأعظم، الفاضل القطيفي، الحدائقي، ابن ميثم، الإصفهاني، وغيرهم من عظماء المذهب الحق، إنما ظهروا وبروزا وسكنوا العقول والقلوب لا بإعلام ولا ببذل مال، ولم تكن غير مصنفات نحتوا فيها خلاصة الفكر فسرت في العقول وكأنها الزلال البارد للراوية..
همسة في السطر الأخير..
عندي وعند غيري الكثير من الرؤى والنقود، إلا أننا نخاف، نعم نخاف من طرحها مع أننا صادقون جدًا في التأكد من نقاء سرائرنا وخلو قلوبنا من كل ضغينة أو حقد، إلا أن ثائرة (المتصنمين) مخيفة جدًا، فهم أول ما يبدأون به الضرب في الشخصية وإهانتها وجرحها بقسوة، قبل أن يرموا بها بعيدًا..
كلي رجاء أن نعي قليلًا ونفهم معنى احترام الرموز والرؤساء، ونفهم أنهم لا يحتاجون منا إلى تسويق وإعلام وصرف الأموال على طبع صورهم وما شابه، فهم بيننا ثقافة وفكرًا وموقفًا، فلنهدأ قليلًا..
السيد محمد علي العلوي
26 ذو الحجة 1433هـ/ 11 نوفمبر 2012م