جلس معلم القرآن بين مجموعة من تلاميذه الصغار تاليًا عليهم بعض من آيات الكتاب العزيز ليعلمهم ويشد عقولهم على كلام الله تبارك ذكره، وبعد أن انقضت الحصة الأولى من الدرس أخرج كل واحد من الصغار كيسه الذي يحمل فيه وجبة إفطاره، وكان من بينهم طفلان أحدهما ابن لعائلة ميسورة الحال والآخر لأخرى فقيرة معوزة، ومن كيسه أخرج الأول قطعة من الخبز الطازج مع شيء من العسل الطبيعي وبعض الجبن، أما ابن الفقراء فلم يكن في كيسه غير القليل من الخبز الناشف!!
نظر الطفل الفقير إلى زميله الغني وقال: هل تعطيني قليلًا من العسل أمسح به على خبزتي؟
من المعروف أن أبناء الدنيا لا يعطون إلا بعد التأكد من المقابل، ويبدو أن الطفل الغني كان قد تأثر بهذه الثقافة المنتشرة، ولذلك رد على زميله ابن الفقراء قائلًا: نعم، أعطيك القليل من العسل بشرط أن تقوم بين التلاميذ ماشيًا على أربع مقلدًا لصوت الحمار.
وبالفعل، قبل الفقير بالعرض وأخذ يمشي على أربعه بين التلاميذ وهو ينهق كالحمير.. وفاز في نهاية المطاف بـ(لحسة) عسل لم تستقر في بطنه غير ساعات قبل رحيلها إلى عالم (البواليع) حالها حال قطعة الخبر الناشف التي أكلها!!
قال معلم القرآن وقد علاه الأسف: لو أنه اكتفى بقطعة الخبر الناشف لما كان اليوم حمارًا ولجنب نفسه لقب (الحمورية) الذي سوف يلتصق بناصيته وذريته!!
بعد سنوات من رحيل الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) عن هذه الدنيا الفانية وتحديدًا في عهد الخليفة الأموي عثمان بن عفان، صدر قرار رسمي بنفي الصحابي الجليل أبي ذر الغفاري إلى الشام، ولأنه الغفاري الرسالي الذي لا يتوقف عن العمل والدعوة إلى الحق فقد مارس دوره هناك بين أهل الشام حتى شكاه معاوية إلى عثمان، فقام هذا الأخير بنفيه إلى الربذة وهو موقع بين مكة والمدينة لا سكان فيه، إلا أن أبا ذر بقي كما هو ولم تؤثر فيه تلك الإجراءات الرسمية التي مورست ضده بكل عنف وشراسة، فما هو السبب؟ وما هو الفرق بينه وبين ذلك الطفل الذي امتدت عيناه إلى العسل؟
الفرق أن الغفاري رفض أن يكون حمارًا. (نقطة ونهاية سطر)
كان مالكًا لنفسه ولم يسمح لها أن تكون رقًا لغير الله تعالى وفي خدمة الأطهار محمد وآله الأخيار (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين)، ولذلك فإنه لم يفرق معه أن يكون في المدينة أو في الشام أو الربذة، بل ولم تغيره محاولات الإذلال التي كان منها أنه نقل من الشام إلى الربذة على مركب وعر حتى تسلخ فخذاه!!
هل تعلم كيف يلتف الثعبان على فريسته؟ ولو أنها لم تمكنه منها فهل يقدر على عصرها واستنزاف قواها؟
يحكى أن شابًا مؤمنًا ورعًا متقيًا كان قد تزوج ورزق بطفلة أسماها (مِنَّة)، وكان أبو مِنَّة يعمل محاسبًا في شركة كبرى للاستيراد والتصدير، وكان لأبي مِنَّة مشكلة واحدة طالما أخذت مساحة من تفكيره، وهي أنه يسكن في بيت واحد مع أبويه وأخ وأختين، وكانت له غرفة وحمَّام..!!
في يوم زاره أحد المسؤولين في الشركة التي يعمل بها وبعد (قصيدة) من المدح والثناء اقترح عليه وظيفة أخرى في شركة خاصة به يتمكن من القيام بها صباحًا وهو في دوامه الرسمي، وسوف يعيطه مبلغًا جيدًا في مقابل عمله الجديد، وافق الرجل المؤمن وبدأ حياته الجديدة التي يستغرق أيامها العمل والكد.. بعد فترة عُرِضَ عليه بيت وسيارة في مقابل المزيد من العمل وبذل الجهد في سبيل تحسين الأوضاع المالية للشركة التي يعمل بها..
اعتاد صاحبنا على تقاضي مبالغ مالية مطلع كل شهر ليصرفها على نفسه وزوجه وابنته مِنَة، ولأن مِنَّة تكبر ومعها تكبر الأسرة والمسؤوليات فقد تحولت حياة (مؤمننا) إلى استمرار من الكد حتى بات (ثورًا) يدور ومعه الساقية ليروي بالماء أرض غيره (السيد) صاحب اليد العليا..
أتدرون بحاله اليوم؟ أصبح الشاب المؤمن رجلًا شب وشاخ لا يتمكن من رفع رأسه لأنه لم يعد بل لم يكن مالكًا لنفسه..
وفي السطر الأخير أسلم على سيدي ومولاي أمير المؤمنين (عليه السلام) وهو المؤسس الأول لقاعدة الحرية الكبرى حين قال: “احتج لمن شئت تكن أسيره، واستغن عمن شئت تكن نظيره، وأحسن لم شئت تكن أميره”.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
السيد محمد علي العلوي
23 ذو الحجة 1433هـ/ 8 نوفمبر 2012م