بقعة أصبحت (كعرش الله تعالى).. دم وثأر ضَمَّنه الله تعالى الأرض ومن عليها.. سماء لم تُرى حمرتها قبل قتل الحسين (عليه السلام).. أجساد ممزقة.. رؤوس مرفوعة على الرماح.. سبايا.. يتامى.. ملائكة تضج وعرش في السماء يتزلزل..
أيا حسين.. أيا أبا عبد الله.. أقسم عليك بجبار السماوات والأرض، لِمَ كل هذا؟
الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السلام): “إنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر”
إصلاح في الأمة؟ أمر بالمعروف ونهي عن المنكر؟
سيدي يا حسين، أو هذا يستدعي كل ما قدمت من تضحيات جسام؟ أو هذا يستدعي إراقة دم كما جرى في كربلاء؟ أمِنَ الضروري أن تسبى النساء وتيتم الأطفال؟
الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السلام): “ألا ترون أن الحق لا يعمل به، وأن الباطل لا يتناهى عنه، فليرغب المؤمنون في لقاء الله عز وجل. فإني لا أرى الموت إلا سعادة، والحياة مع الظالمين الباغين إلا برما”
مطلوب من كل مؤمن ومؤمنة المحافظة على إحياء كربلاء بتعليق السواد وإقامة المجالس وتسيير المواكب والإطعام وما نحو ذلك، ولكنها كارثة كبرى إذا كان هذا هو حد طموحنا الكربلائي الحسيني!!
نعم، هذا مطلوب جدًا، وفيه –إن شاء الله تعالى- عظيم الأجر والثواب، إلا أنه ليس مما يطلب لنفسه كما يظهر، بل هو مطلوب لتحريك الروح الكربلائية في قلوب المؤمنين بما يبعثهم ويدفعهم لتحقيق عنوان أصيل، هو: طلب الإصلاح في الأمة، وأؤكد (في الأمة)، والطريق إلى ذلك بحسب الإفادة الحسينية الصريحة: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
فإذا خلت الشعائر الحسينية من فريضتي (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) فإنها في الغالب أقرب إلى الرسم منها إلى المضمون والروح، وهذا خلل عظيم جدًا ينبغي إصلاحه بمبادرات صادقة وقوية.
كربلاء.. إنها نهضة رسالية وحراك طليعي رائد من المفترض –كما أفهم- أن يكون البكاء والسواد والمواكب وغير ذلك من الشعائر المؤيدة بآراء فقهية، كلها من أجل إشعال جمرته، جمرة العطاء الرسالي على طريق الإصلاح في (الأمة).. وعليه:
ما لنا وكربلاء، إن لم نكن من الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر؟
ما لنا وكربلاء، إن لم نكن ممن يصرون على تغيير أنفسهم أولًا؟
ما لنا وكربلاء، إن لم تكن مساجدنا عامرة مكتضة بالمؤمنين، متراصة في صفوفها؟
ما لنا وكربلاء، إن لم نكن ممن يدمنون طلب العلم.. قراءة.. كتابة.. استماعًا.. محاورة.. نقدًا..
ما لنا وكربلاء، إن لم نتنبه إلى مثل الأحاديث التالية عن أهل بيت العصمة (عليهم السلام):
- عن علي بن أبي زيد، عن أبيه قال: “كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) فدخل عيسى بن عبد الله القمي، فرحب به وقرب من مجلسه، ثم قال: يا عيسى بن عبد الله ليس منا – ولا كرامة – من كان في مصر فيه مئة ألف أو يزيدون وكان في ذلك المصر أحد أورع منه”
- عن أبي الحسن (صلوات الله عليه) قال: “ليس منا من لم يحاسب نفسه في كل يوم، فإن عمل حسنًا استزاد الله، وإن عمل سيئًا استغفر الله منه وتاب إليه”
- عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: “يا شيعة آل محمد، اعلموا أنه ليس منا من لم يملك نفسه عند غضبه، ومن لم يحسن صحبة من صحبه، ومخالقة من خالقه، ومرافقه من رافقه، ومجاورة من جاوره، وممالحة من مالحه، يا شيعة آل محمد اتقوا الله ما استطعتم، ولا حول ولا قوة إلا بالله”
- قال الرضا (عليه السلام): “المؤمن الذي إذا أحسن استبشر، وإذا أساء استغفر، والمسلم الذي يسلم المسلمون من لسانه ويده، ليس منا من لم يأمن جاره بوائقه”
- قال أبو عبد الله (عليه السلام): “ليس منا من لم يصل صلاة الليل”
نحتاج جدًا إلى إيجاد كربلاء في ضمائرنا، في عمقنا الثقافي.. نحتاج إلى تحملها مسؤولية عظمى إنما تدور الرحى على مدى انفتاحنا عليها واستيعابها استيعابًا رساليًا طليعيًا صحيحًا..
وخاتمة الكلام حديث عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام)، ولندقق في مضامينه جيدًا:
عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال أبي يومًا وعنده أصحابه: من منكم تطيب نفسه أن يأخذ جمرة في كفه فيمسكها حتى تطفأ؟
قال: فكاع الناس كلهم ونكلوا، فقمت وقلت: يا أبة أتأمر أن أفعل؟ فقال: ليس إياك عنيت إنما أنت مني وأنا منك، بل إياهم أردت (قال:) وكررها ثلاثًا، ثم قال:
ما أكثر الوصف وأقل الفعل، إن أهل الفعل قليل إن أهل الفعل قليل، ألا وإنا لنعرف أهل الفعل والوصف معًا، وما كان هذا منا تعاميًا عليكم، بل لنبلو أخباركم ونكتب آثاركم.
فقال: والله لكأنما مادت بهم الأرض حياءًا مما قال، حتى أني لأنظر إلى الرجل منهم يرفض عرقًا، ما يرفع عينيه من الأرض، فلما رأي ذلك منهم قال:
رحمكم الله فما أردت إلا خيرًا، إن الجنة درجات فدرجة أهل الفعل لا يدركها أحد من أهل القول، ودرجة أهل القول لا يدركها غيرهم. قال: فوالله لكأنما نشطوا من عقال”
إن كنا ممن يريد كربلاء، فأي درجة في الجنة لمن كان لكربلاء مريدًا؟ أهي درجة أهل القول والوصف، أم أنها درجة أهل الفعل؟
السيد محمد علي العلوي
29 ذو الحجة 1433هـ/ 14 نوفمبر 2012م