مسائل في التغيير الجذري.. (8) “استراتيجية العمل المرحلي”

بواسطة Admin
0 تعليق

هذا شاب لم يبلغ منتصف العشرين يمر أمام رجل أربعيني أو خمسيني وبنطاله لا طاقة له على ستر ملابسه الداخلية، ويعلو البنطال قميص ضيق فوقه شعر بتسريحة (اللاتسريح) مستريحة على رأس يصعب على الأربعيني أو الخمسيني فهم ما يحمله من أفكار وثقافات، ولذلك تراه مستنكرًا مستهجنًا شاجبًا مظهرَ الشاب، وهذه حالتي عندما التقي الشباب وفي الواقع أجد نفسي رافضًا للبسهم غير قادر على التماس مخرج لما هم عليه!! ولن أقدر، فثقافتي وقفت سدًا منيعًا عصيًا على ثقافة نهاية الثمانينات ومن بعدها التسعينات والألفين إن تخترقه، وهذه الأخيرة استلمت مواليد تلك السنوات خامات أولية سلطت عليها برامج دقيقة من خلال عدة وسائل تأتي في مقدمتها الآلة الإعلامية وما تقدمه من مسلسلات وأفلام ومسرحيات وبرامج كلها تستهدف صياغة إنسان جديد بما يتوافق مع ما يراد لشريحة معينة من المجتمع البشري أن تكون عليه، ومثل ذلك موجات الموضة في الستينات والسبعينات وما رافقها من ثقافات أسست لمدارس فكرية طارئة في انتشارها لا في أصل وجودها مثل الشيوعية والتقدمية والقومية وما نحو ذلك مما كان الكبار في حينها رافضين لها.. وهكذا هي المجتمعات تسير مدفوعة بدوافع منها حالة التعاند الثقافي والفكري بين الجيل والآخر، وسؤالنا: لماذا هذا النوع من التعاند وكيف يتكون؟

أشرت في السطور السابقة إلى أن أي موجة ثقافية جديدة تجد محل عملها الأجدى بين صفوف الخامات الطرية والتي يمثلها الأحداث عادة، عن الإمام الصادق (عليه السلام) لأحد أصحابه: “أتيت البصرة؟ قال: نعم، قال عليه السلام: كيف رأيت مسارعة الناس في هذا الأمر ودخولهم فيه؟ فقال: واللَّه إنهم لقليل، وقد فعلوا وإن ذلك لقليل، فقال (عليه السلام): “عليك بالأحداث، فإنهم أسرع إلى كل خير.”

هكذا تكون المعادلة: مثال: أريد للمجتمع أن يكون مائعًا بلا قيم. ماذا أصنع؟

الجواب: اتصل بصغار السن اتصالًا ظاهرًا وخفيًا، ليلًا ونهارًا، وبما يحبون وبالطريقة التي يهوون ومرر رسائلك الثقافية في عمق قوابلهم عن طريق برنامج تلفزيوني، صور ملونة، رحلات ومخيمات، ولا تنسى التحفيز بالجوائز الجميلة ومن الأفضل أن تكون ذات قيمة أيضًا، لن تفشل إذا نجحت في السيطرة على نقاط الاستقابل والتحفيز عند الحدث ومررت من خلالها كل ما تريد حتى تشكل الثقافة المبتغاة في ضمن برنامج زمني مدروس بدقة، وبتشكلها تكون قد باعدت الشاب ثقافيًا عن كل من يكبره سنًا بجيل أو حتى بنصف جيل[1]، ولن يفهم الكبار الصغار ولن يقبل الصغار الكبار وسوف تكون (اللاقيمة) هي (القيمة) الحاكمة!!

هكذا يكون العمل الاستراتيجي والذي تتبناه القوى العالمية مما ساعد فعليًا في سيطرتها على العالم من خلال سيطرتها على شريحة الشباب التي كبرت فصارت رجالًا ونساءًا يدافعون عن كل ما تريد القوى الكبرى تثبيته، وباب تفصيله واسع جدًا..

المشكلة التي أريد إثارتها في هذه السطور هي كيف أن الحكومات ومراكز التخطيط والقرار كلها تعمل بشكل منظم يعتمد المرحلية ركيزة في قياساته فيجني بذلك النجاح تلو النجاح، في الوقت الذي لا نقوى فيه على تحمل برنامج ثقافي مدته ثلاثة أشهر، ويصيح صائحنا: لا وقت عندنا.. سوف يأكلنا الآخرون.. هم يسيرون بخطى سريعة وأنت تريدنا أن نبقى في برنامج لثلاثة شهور!! وتمضى الأيام والليالي والسنين وشهورها ونحن من سوء إلى أسوء ومن حفر إلى أخرى، فنقول: لو أننا بدأنا بالشهور الثلاثة ثم تلتها ثلاثة وثلاثة، ألم نكن اليوم في حال أفضل مما نحن فيه؟ أذكر مثالًا:

عندما بدأت موجة التجنيس في البحرين قلت لبعض الأخوة من العلماء والمثقفين: لن تتوقف الدولة عن التجنيس ولو أنكم حشدتم لمليون مسيرة احتجاج، والسبب أن هذا التجنيس (السياسي) مشروع رئيسي في الصورة العامة لمخطط السلطة، ولن تتخلى عنه أبدًا، لذا فإنني أقترح الإسراع في التعاون من أجل إعداد فرق شبابية تعمل جهدها في تحييد الشارع (المجنس)، وليكن هدفنا 5% منه، ألا نملك همة لتحييد 5% من المجنسين؟ إن لم يكن في قدرتنا ذلك فهذه مصيبة كبرى، ولكننا قادرون –إن شاء الله-، وهذه الـ 5% من الطبيعي أن يكون لها حضورًا اتصاليًا وتواصليًا مع لـ 95% الأخرى، وتدور العجلة ونأمن بشكل جيد شر ما يراد من التجنيس..

ماذا كان جواب الأخوة؟ قالوا: “يا سيد الحكومة شغالة وانت جاي تبغي تسوي صداقات مع المجنسين؟؟”

طيب، ما الضرر في تبني مشروع لن يكلفنا الكثير، بل أنه في أسوء الحالات سوف يفتح لنا أفق على ثقافة المجنسين، وهذا أيضًا حسن..

مثال آخر: كان في بعض السنوات إقتراح مشروع بتبنى تفعيل قول الإمام الصادق (عليه السلام): تسعة أعشار الرزق في التجارة” لما فيه من فوائد عظيمة يتركز أغلبها في تكوين قاعدة ثقافية تؤهل الناس للاستغناء عن الآخر السيء ويحقق أكبر قدر ممكن من الإكتفاء الذاتي، ولو أن هذا المشروع أخذ طريقه إلى النور لكانت قضية مثل (الإضراب العام) سهلة لا تحتاج إلى جهد في التحشيد، ولكنها أيضًا رُفِضت وردت بسبب عدم وجود العزيمة على صناعة واقع جديد، والارتباط الوثيق بأخلاقية الانفعال دون أخلاقية الفعل.

إننا اليوم نعاني كثيرًا بسبب قطع الآخرين مسافات كبيرة في مخططاتهم المرحلية التي جنوا ولا زالوا يجنون ثمارها، أما نحن ففي تعب متعاقب جراء بقائنا في ساحة الترقب والاستعداد الدائم للانفعال فقط!

بلى، فالعمل المرحلي له ثمن لا بد من دفعه في البداية، وقد يكون كبيرًا، ولكن القطع بأنه سوف يعوض مضاعفًا بخيرات مستمرة لا آنية كما يرغب من الثورة قطاع كبير من أبناء هذا الجيل والجيل السابق، وربما نالوا ما يريدون وربما انتصرت الثورة انتصارًا حسابيًا كما يرى الأخوة السياسيون، ولكن السؤال: هل يستمر النصر أم أنه آني سرعان ما ينقلب علينا خسائر يصعب تحملها؟

الجواب الثاني –وللأسف- هو الأقرب للتحقق إذا لم نتخلص من الإصرار على الثورة مجردة عن النهوض الثقافي، فثورتنا ينبغي أن تكون ثورة ناهضة، أي أن تكون مزيجًا متوازنًا بين الثورة بمعناها الإصطلاحي ممزوجة بعمل ثقافي مدروس نضمن به استمرار الثورة واستعدادها للقيام متى ما اعترض كرامة الإنسان منتهك.

هنا أقول: سوف تمر الأيام وتنقضي لياليها، ولن يبقى قويًا لسنوات قادمة إلا من يعمل لهذه الغاية، ولا يعمل لها إلا من يركز على الترسيخ الثقافي وليس فقط تكريسه آنيًا، وإذا لم تعمل الثورة على هذا المحور الأصل فستكون هي من تهاون بدماء الشهداء.. فلنعي المعادلة حتى لا نندم في الغد القريب

السيد محمد علي العلوي

4 ربيع الثاني 1433هـ / 26 فبراير 2012م

 

[1] – الجيل 33 سنة وليس كما يظن البعض بأنه 10 سنوات

 

مقالات مشابهة

اترك تعليق


The reCAPTCHA verification period has expired. Please reload the page.