مسائل في التغيير الجذري.. (6) “حكومة الأصل”

بواسطة Admin
0 تعليق

العسكري مسلوب الإرادة تمامًا، فهو لا يحتاج عقله إلا في تنفيذ الأوامر التي تأتيه ممن هو فوقه، وهذا الأخير لا يعمل عقله إلا في تنفيذ أوامر من يرئسه، وهكذا إلى الرأس الأكبر الذي لا قدرة له على التحرك إلا بأوامر من أسياده الإقليميين والدوليين والعالميين..

أما الليبرالي فهو على العكس تمامًا، إنه شخصية ترتكز على أصل قريب في الممارسة بعيد في الحدود، وهو أصل (منع المنع) الذي يقتضي إباحة كل شيء بضمانات دستورية يضعها مجموعة من الليبراليين ويجملونها بعبارات تسويقية مثل (الديموقراطية) و(المدنية) وما شاكل، ومن مرتكز (منع المنع) انحرف المسلمون منهم بتوظيفهم وتوجيههم للقرآن بحسب مشتهياتهم حتى قالوا بأنه لم يحرم الخمر مباشرة ولذلك ففي حرمته كلام، كما وأنه لم يأمر بالحجاب لا نصًا ولا صيغة، ولذلك فلا حجاب، وأيضًا لم يفرق القرآن بين الرجل والمرأة إلا في جهة التكوين الجسماني ولذا فهي على حد المساواة المطلقة معه في غير التكوين الجسماني وبعض ما يقتضيه في أضيق نطاق..

إنني أشبه العسكريين بمن يمارس عليهم قانون ما يسمى بـ (السلامة الوطنية) حيث حبس إرادة الإنسان ومنعها من الانطلاق إلا في حدود معينة، وأما الليبراليين فأشبههم بنفس قانون ما يسمى بـ (السلامة الوطنية) إذ أنه قانون انتهاك القانون، ولذلك فإن العسكر والليبرال كلهما يشكلان خطرًا ثقافيًا كبيرًا على الإنسان؛ فأولئك على حد التفريط وهؤلاء غارقون في الإفراط.

وحتى يخرج الإنسان من مثل هذه المطبات اقتضت الحكمة ضرورة التأصيل بمجموعة من القواعد الكبرى التي من شانها أن تكون للفكر سكة تؤمنه شر الانزلاق، وهنا كلام في نقطة مهمة، هي: من القادر على مثل هذا العمل التأصيلي؟

الجواب: الحاكم يؤصل لرئيس وزرائه، وهذا الأخير للوزراء، وكل منهم لوزارته، ثم المدراء والرؤساء والمشرفين، ومن المفترض أن يقبل الأدون بتأصيلات الأعلى على اعتباره الأدرى، ولن ندخل في جدليات هذا البحث، إذ أنني لم أورده إلا مثالًا مبسطًا للعلاقة بين الدراية والتأصيل حتى أقول تاليًا (فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ).. (فَتَعَالَى)، (اللَّهُ)، (الْمَلِكُ)، (الْحَقُّ)، (لا إِلَهَ)، (إِلاَّ هُوَ)، (رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ)، فهل من الممكن أن يكون هناك من هو أدرى من الخالق بخلقه؟ من الله بهذا الوجود؟

يستنفر الأب إذا حاول أحدهم التدخل في قوانين بيته وما أصل هو له منذ اللحظة الأولى من زواجه، ولكن هذا الأب نفسه لو كان عسكريًا أو ليبراليًا فإنه لا يأبه ولا يكترث بالله مالك الملك رب السماوات والأرض عندما يتجرأ بالتدخل بل والانقلاب على قوانين القرآن الكريم وتأصيلاته (أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ)، والحال أن: (وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ).

فلنطرح الآن بعض الأمثلة على ضرورة الرجوع والاحتكام إلى الأصول والقواعد التي جعلها الله تعالى نظامًا ومرجعًا لكل من أراد الخير في الدنيا والآخرة:

  • يقول تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيدًا)، فالأصل إذن حرمة التحاكم إلى الطاغوت ووجوب الكفر به إلا في حدود ما يقتضيه الإضطرار (إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ) فقط دون زيادة أبدًا، ومن ملاكات حرمة التحاكم إلى الطاغوت ووجوب الكفر به عدم تقويته وإعطاءه صبغة شرعية يستقوي بها على العباد. لاحظ بأنك الآن قادر على البناء بالتأسيس على الأصل الواضح في الآية الكريمة، ولا تغفل أصولًا أخرى قد تكون ضرورية في مواصلة بنائك.
  • ويقول تبارك ذكره: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا)، فالأصل عدم الظن، والأصل عدم التجسس، والأصل عدم الغيبة، وبذلك لا يجوز للأبوين –مثلًا- أن يظنا في أبنائهما إلا مع البينة، والبينة قد قررها الشرع كل بمورده، كما ولا يجوز تجسس الزوج على زوجته أو الزوجة على زوجها –مثلًا- إلى في موارد ضيقة وبدليل شرعي يدفع إشكال مخالفة الأصل، وأيضًا تحرم الغيبة إلا في مقامات معينة وبدليل شرعي أيضًا.
  • ويقول جلَّ شأنه: (وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ)، وحتى نستنهض في عقولنا الأصل من هذه الآية الكريمة فإننا نبحث عن علة (وَلَن تَرْضَى)، فتكون هي الأصل عندما تتقدم المنظومة الفكرية لأي إنسان سواء كان يهوديًا أو نصرانيًا أو حتى مسلمًا، وأما تحديد الآية لليهود والنصارى فهو من باب ذكر المصداق الأتم ولا دلالة فيها على الحصر، وعليه فإن الأصل المستفاد هو: لن يرضى عن المؤمن من يكون على دينه وفي معتقده كما كان اليهود والنصارى من عصبية وإقصاء للآخر وتفرد بالرأي وسعي دائم للسيطرة والاستبداد.. وربما كانت هناك أجزاء علة اخرى تبحث في موضعها.

ألفت نظر القارئ الكريم إلى ان الأصل ليس حالة جامدة أبدًا، بل مرنة في التراجع عند طروء أي دليل يصرف عنه بشرط اتصافه بالقوة في دليليته وحجيته، فالأصل إذن يقوم بدورين أساسيين هما: الإرشاد والتوجيه من جهة، ورسم الإطار الفكري العام من جهة اخرى، وهذه الأصول في مجموعها هي الداعية بقوة إلى نفي الإطلاقات ورفضها من أي كان ورودها، والسبب أن الإطلاق ناقض للأصل بطبيعته؛ حيث أن الأصل يقيد الإطلاق دائمًا، فلا حريات مطلقة ولا مساواة بمطلقة كما يفهمها الناس اليوم، ولا تعددية مطلقة، ولا ولاية مطلقة…، وتبقى الحكومة للأصل ما لم يرد دليل صارف عنه.

تطبيقًا أقول: إن من أخطر ما نواجهه في نتاجات ثورة 14 فبراير، الوقوع في شراك الإفراط والتفريط وعدم الاعتناء بالأصول المقيدة والمؤطرة لحركة الإنسان الفكرية، وهذا إن لم نلتفت إليه ونوليه أكبر العناية فالمآل غالبًا إلى صراعات ونزاعات ثقافية وفكرية من شأنها أن ترجعنا إلى أجواء استبداد أشد وطأة من استبداد السلطة الحاكمة، فنكون قد وقعنا في ما هو أكثر شرًا مما تخلصنا للتو منه.

همسة تأصيلية: (ليس من نظام فكري أو نظام حكم أكثر استبدادًا وقمعًا “مؤدبًا بعض الشيء” من النظام الليبرالي الذي يدعو إلى نفسه بما لم يدع به غيره، ومن يخالف فهو في نظر الليبرالي: رجعي، متخلف، مأزوم، معقد، جامد، صنمي، ظلامي.. وإن كان متدينًا أضيف إليه: يعبد العمامة، يقدس رجال الدين تقديسًا أعمى، إمعي..، هل سمعتم مثل هذه الألفاظ في شدتها من غير الليبرالي أو اليساري أو المتأثر بأمثالهم ثقافة وكفرًا؟)

فلنهذب بقوة نحول الأصول التي يقدمها لنا القرآن الكريم والعترة الطاهرة نورًا وهدى.. وختامها: (أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ)، وإن كنت رافضًا لمقالي فأقول لك كما قال القرآن الكريم: (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ)، ثم أعقب: (وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ).

هذا هو إسلامنا العظيم قادر وبإصوله النورية على استيعاب الجميع طالما أنهم يحترمون الأطر العامة لإنسانية الإنسان، وهذا أصل أيضًا أفاده أمير المؤمنين (عليه السلام) عندما قال: “إما أخ لك في الدين، وإما نظير لك في الخلق”.  

 

السيد محمد علي العلوي

2 ربيع الثاني 1433هـ / 24 فبراير 2012م

مقالات مشابهة

اترك تعليق


The reCAPTCHA verification period has expired. Please reload the page.