بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمَّد وآله الطيبين الطاهرين
تَنْبِيهُ الألِبَّاءِ لِفَهْمِ مَقَالَةِ الكَشْفِ وَالإجْلَاءِ
مَنَّ اللهُ سَبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَيَّ بِبَعْضِ التَّعْلِيقَاتِ عَلَى مَقَالَةِ (الكَشْفُ وَالإجْلَاءُ عَنْ حُكْمِ المَقَامِ فِي كَرْبَلَاء)[1]، وإنِّي إذْ أحْمَدُهُ تَبَارَكَ ذِكْرُهُ وَأُثْنِي عَلَيهِ أبْعَثُ بِبَالِغِ الشُّكْرِ وَالامْتِنَانِ لِلأكَارِمِ الَّذينَ شَرَّفُونِيِ بِتَعْلِيقَاتِهِم، ثُمَّ أقُولُ مُوضِّحًا..
ملاحظتان:
1/ لَمْ تَكُنْ كِتَابَاتِي لِمَقَالَةِ (الكَشْفُ وَالإجْلَاءُ) لِمُنَاقَشَةِ الفَاضِلِ (صَحِبَتْهُ عَينُ اللهِ تَعَالَى لَيْلًا وَنَهَارًا)، وقَدْ قُلتُ هُنَاكَ: “مِنَ الأهَمِّيَّةِ بِمَكَانٍ وَعيُ المُؤمِنِينَ بِطَبِيعَةِ وُجُودِ مَسَالِكَ عِلمِيَّةٍ تَتَقَرَّرُ عِنْدَ البَاحِثِينَ وَالعُلَمَاءَ وَالمُفَكِّرِينَ بَعْدَ بَحثٍ وَتَحْقِيقٍ، والاخْتِلَافُ بَينَهَا لَيسَ مِن ذَاكَ المُخرِج عَنْ جَادَّةِ الحَقِّ مَا لَمْ يَكُنْ للأهْوَاءِ دَخْلٌ فِي البَينِ، فَالأفْهَامُ مُتَفَاوِتَةٌ وَمَا يَظْهَرُ لِبَاحِثٍ قَدْ لَا يَظْهَرُ لِغَيرِه. لِذا فَمِنَ الحِكْمَةِ فِعْلًا أنْ يَهنَأ المُؤمِنُ بِالهُدُوءِ فِي مَوارِدِ الاخْتِلَاف مُحْسِنًا الظنَّ باللهِ تَعالى أنْ يَعْذرَهُ فِي الخطأ مَا دَامَ مُلْتَزِمًا بِجادَّة العِلْم وَأدَواتِهِ”.
أمَّا مَا بَعَثَنِي لِكِتَابَةِ هَذَا (التَنْبِيه) فَهُوَ مَا وَجَدتهُ مِنْ تَفاوتٍ بَينَ مَا فَهِمَهُ بَعْضُ الأجِلَّةُ وَبَينَ مَا كَتَبْتُهُ وَحَاوَلْتُ تَوضِيحَهُ في مَقَالَتِي، وإنَّمَا أعْزُو ذَلِكَ إلَى ضَعْفٍ فِي بَيَانِي. وَلَا حَولَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاللهِ العَلِيِّ العَظِيمِ.
2/ لا فَائِدَةَ مِنْ قِرَاءَةِ هَذِهِ المَقَالَةِ قَبْلَ سَابِقَتَهَا.
القُوَّةُ الدَّلَالِيَّةُ لِلأمْرِ بِالانْصِرافِ وَالنَّهْي عَنْ اتِّخَاذِ التَّقْدِيرِ المُخْتَارِ وَطَنًا:
قُلْنَا فِي (الكَشْفُ وَالإجْلَاءُ) تَحْتَ عُنْوَانِ (نُكْتَةٌ دَقِيقَةٌ): “نَرَىَ فِي هَذَا الاخْتِتَامِ عِنايَةً زَائِدَةً عَلَى مَوضُوعِ الخِطَابِ، وَالزَّائِدُ بَعْدَ امْتِنَاعِ كَونِهِ لَغْوًا فَهُوَ إمَّا قَيدٌ وإلَّا فَحُكْمٌ لِمَوضُوعٍ جَدِيدٍ، والأوَّلُ مَدْفُوعٌ بِعَدَمِ المُجَانَسَةِ بَينَ فِعْلِ الزِّيَارَةِ العِبادِيَّةِ مِنْ تِلاوَةٍ لِمَأثُورِ وصَلَاةٍ وَدُعَاءٍ، وَبَينَ عَدَمِ البَقَاء؛ أمَّا الأوَّل فَمَقُولٌ لِلفِعْلِ، بَينَمَا الثَّانِي فَمَقُولٌ لِلوَضْعِ، والأنْسَبُ أنْ يَكُونَ مَعْرُوضُهُ البَقَاءَ، وَبِذَلِكَ يَتَّضِحُ افْتِقَارُ البَقَاءِ إلى ما يُسَوِّغُهُ، وَقَدْ تَعَيَّنَ فِي أفْعَالِ الزِّيَارَةِ، ولَا يَخْرُجُ شَيءٌ دُونَ دَلِيلٍ خَاصٍّ”.
تَوْضِيحٌ:
نَصُّ الرِّوَايَةِ الشَّرِيفَةِ: عَنْ أبِي عَبْدِ اللهِ (عَلَيهِ السَّلَامُ)، قَالَ: “إذَا أرَدْتَّ زِيَارَةَ الحُسَينِ (عَليهِ السَّلَامُ) فَزُرْهُ وَأنْتَ كَئِيبٌ حَزيِنٌ مَكْرُوبٌ، شَعِثٌ مُغْبِرٌ، جَائِعٌ عُطْشَانٌ؛ فَإنَّ الحُسَينَ قُتِلَ حَزيِنًا مَكْرُوبًا شَعِثًا مُغْبِرًا جَائِعًا عُطْشَانًا، وَسَلْهُ الحَوائِجَ، وَانْصَرِفْ عَنْهُ وَلَا تَتَّخِذْهُ وَطَنًا”[2].
سُؤَالُ البَحْثِ: مَا هُوَ الدَّاعِي لِقَولِهِ (عَلَيهِ السَّلَامُ) بَعْدَ بَيَانِهِ لِأعْمَالِ الزِّيَارَةِ آمِرًا: “وَانْصَرِفْ عَنْهُ”، وَنَاهِيًا: “وَلَا تَتَّخِذْهُ وَطَنًا”؟
فَهَلْ أنَّ البَقَاءَ وَاتِّخَاذَ المَكَانِ وَطَنًا مُتَوَهَّمُ الوُجُوبِ الشَّرْعِيِ فِي أذْهَانِ الشِّيعّةِ أو بَعْضِهِم؟
لَا يُدَاخِلُنِي شَكٌّ فِي انْتِّفَاءِ مَنْ لَا يَقْطَعُ بِعَدَمِ وُجُودِ مِثلِ هَذَا التَّوَهُّمِ فِي ذِهْنِ أحَدٍ مِنَ الشِّيعَةِ، وَلَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى اللَغْويَّةِ، فَلَا يَبْقَى غَيْرَ كَونِهِ أمْرًا وَتَكْلِيفًا بِالانْصِرَافِ، وَنَهْيًا فِي عَقِبِهِ عَنْ اتِّخَاذِهِ وَطَنًا، وَهَذَا النَّهيُ عَنْ التَّوَطُّنِ مُظْهِرٌ لِمَبْغُوضِيَّة البَقَاء.
إذَنْ هُنَاكَ تَكْلِيفٌ مُبَايِنٌ لِأعْمَالِ الزِّيَارَةِ، وَهُوَ التَّكْلِيفُ بِالانْصِرَافِ. فَهَلْ يُمْكِنُ أنْ يَكُونَ مِنْ نَفْسِ أعْمَالِ الزِّيَارَة؟ أي: إنْ أرَدتَّ الزِّيَارَةَ فَمِن أعمَالِها أنْ تنصَرِفَ بَعْدَ قِراءَتِهَا وَصَلَاتِهَا وَطَلَبِكَ لِحَوَائِجِكَ. وإنْ أرَدْتَّ البَقَاءَ فَلَا تأتِهِ زَائِرًا!
لَا أتَصَوَّرُ قَائِلًا بِذَلِكَ.
لَا أدْرِي إنْ كَانَ القَارِئُ مُتَّفِقًا مَعَ هَذَا المِقْدَارِ مِنَ التَّوضِيحِ أو لَا! وَلَكِن عَلَى فَرْضِ مُوَافَقَتِهِ أسْألُهُ عَنْ نَتِيجَةِ وَمُحَصِّلَةِ فَهْمُهُ؟
أمَّا مُحَصِّلَةُ فَهْمِيَ القَاصِر فَهْيَ أنَّ البَقَاءَ يَفْتَقِرُ إلى مُسَوِّغٍ شَرْعِي قَدْ تَعَيَّنَ فِي الزِّيَارَةِ وَاعْمَالِهَا.
إنَّ الأمْرَ بِالانْصِرَافِ وَالنَّهْيَ عَنْ اتِّخَاذِ المَكَانِ (المُعَيَّنِ) وَطَنًا إلْزَامٌ شَرْعِيٌّ تَأسِيِسِيٌّ (إثْبَاتُ الانْصِرَافِ وَنَفْيُّ اتِّخَاذِهِ وَطَنًا) وَهَذَا مَا يُعْطيِهِ عِلْمِيًّا قُوَّةَ الحُكُومَةِ عَلَى غَيرِهِ مِنَ الأدِلَّةِ مَا لَمْ يَرِدْ مُعَارِضٌ لَهُ سَواء عَلَى نَحوِ البَدْويَّةِ أمْ الاسْتِحْكَامِ.
إذَنْ فَكُلَّمَا وَقَفْنَا عَلَى نَصٍّ فِي مَوضُوعِهِ عَلِمْنَا بِأنَّ دَلِيلَ الأمْرِ بِالانْصِرَافِ وَالنَّهْي عَنْ اتِّخَاذِهِ وَطَنًا نَاظِرٌ إلَيهِ نَظَرَ بِنَحوِ التَّضيِيقِ غالِبًا وَالتَّوسِعَةِ فِي مَوَارِد خاصَّةٍ لسْنَا بِصَدَدِهَا.
إذَا فَهِمْتَ ذَلِكَ فَقَدْ فَهِمْتَ إذَنْ عَدَمِ صِحَّةِ النَّظَرِ فِي النُّصُوصِ الوَارِدَةِ فِي المَوضُوعِ مُسْتَقِلَّةً عَنْ دَلِيلِ (إثْبَاتُ الانْصِرَافِ وَنَفْيُّ اتِّخَاذِهِ وَطَنًا)، فِيمَا يَصُحُّ العَكْسُ بَعْدَ القَطْعِ بِعَدَمِ المُعَارِضِ البَدْوي فَضْلًا عَن المُسْتَحِكِمِ وَلَو وجْدَانًا.
فَرْضُ الحَمْلِ عَلَى التَّقِيَّةِ:
إنَّ فَرْضَ الحَمْلِ عَلَى التَّقْيَّةِ يَفْتَقِرُ فِعْلًا إلَى بَيَانٍ وَتَوضِيحٍ؛ حَيْثُ إنَّ جُمْلَةً مِنْ أعْمَالِ الزِّيَارَةِ الَّتِي أمَرَ بِهَا الأئِمَّةُ الطَّاهِرُونَ (عَلَيهِمُ السَّلَامُ) تَسْتَغْرِقُ وَقْتًا طَويِلًا لَا يُلَائِمُ مَا يًنْبَغِي أنْ يَكُونَ عَلَيهِ المُتَلَبِّسُ بِالتَّقِيَّةِ.
وَكَيفَ كَانَ، لِي نَظَرٌ فِي زِيَارَةِ الإمَامِ الحُسَينِ (عَلَيهِ السَّلَامُ) وَمَسْألَةِ التَّقِيَّةِ، وَعَلَى أيَّةِ حَالٍ فَإنَّ الوَقْتَ الَّذِي تَسْتَغْرِقُهُ أعْمَالُ الزَّيَارَةِ لَا يُلَائِمُ مَا تَقْتَضِيِهِ التَّقِيَّةِ، وَأيُّ تَفْسِيرٍ فَهُوَ فِي حَاجَةٍ إلى اسْتِدْلَالٍ وَاضِحٍ بَعِيدًا عَنْ التَّقْدِيرَاتِ المُخَالِفَةِ لِلأصْلِ.
المَسَاحَةُ المأمْورُ بِالانْصِرَافِ عَنْهَا وَالكَونِ خَارِجَهَا:
لَمْ أقُلْ بِعَدَمِ التَّوطُّنِ فِي عُمُومِ كَرْبَلَاء، بَلْ قُلتُ تَحتَ عُنْوَانِ (فَإنَّ المُتَحَصَّلَ عِنْدَ النَّظَرِ القَاصِرِ هُوَ): “أوَّلًا: تَحَقُّقُ تَمامِ امْتِثَالِ الأمْرِ بِالانْصِرَافِ بِتَجَاوزِ الفَرَاسِخ الخَمْسَةِ لِحَرِيِمِ القَبْرِ”. وقُلَتُ قَبْلَ ذَاكَ: “بَقِيَ إذَنْ حَرِيمُ القَبْرِ، ومَا بَعْدَهُ مِنْ عُمُومِ كَربَلَاء، أمَّا حَرِيمُهُ وَهُوَ خَمْسَةُ فَرَاسِخ كَمَا بَيَّنَتْهُ مَرْفُوعَةُ مَنْصُورِ بنِ العَبَّاس فَهِي مَا يُتَصَوَّرُ أنْ تَكُونَ مَوضِعًا لِلتَوَطُّنِ، ومَا بَعْدَهَا مِمَّا كانَ قُرَىً مَأهُولَةً مُتَنَاثِرَةً تُعْرَفُ بِكَرْبَلَاء، فَمَعَ وجُودِهَا وَعَدَمِ تَنَاولِ البَيَانَات الشَّرعِيَّة لِحُكْمِ تَوطُّنِها فَلَا مَورِدَ لِلشَّكِّ، وإنْ طَرَأَ نُفِيَ بِالأصْلِ”.
تَوضِيحُ: إنَّ المساحةَ الَّتي يَتَنَاولُهَا النَّصُّ (بَالانْصِرَافِ وَعَدَمِ اتِّخَاذِهَا وَطَنًا) إنَّمَا هِيَ الخَمسَةُ فَرَاسِخَ الوَاقِعَةُ حَرِيمًا لِلقَبْرِ الشَّرِيفِ، أمَّا مَا بَعْدَهَا مِن عُمُومِ كَرْبَلَاء فَلَا إشْكَالَ فِي جَوَازِ تَوَطُّنِهَا، وإنْ شُكَّ فِي ذَلِكَ نُفِيَ الشَّكُّ بِأصْلِ البَرَاءَةِ، وَهْوَ مَجْرَىً لَهُ لِوجُودِهَا، أقْصُدُ مَا بَعْد الفراسِخ الخَمسَة، وَعَدمِ تَنَاوُلِ النَّصِّ لَهَا.
الغَاضِرِيَّةُ وَنَينَوَى:
اتَّضَحَ أنَّنَا لَمْ نَقُلْ بِتَحَدُّدِ كَرْبَلَاء بِالخَمْسَةِ فَرَاسِخ، بَلْ قُلْنَا بأنَّ القُرَى بَعدَ الخَمْسَةِ فَرَاسِخ هِيَ مِنْ كَرْبَلَاءَ، وإنَّمَا الأمْرُ بِالانْصِرَافِ تَنَاوَلَ مَا هُوَ واقِعٌ دَاخِلَ حُدُودِ الفَرَاسِخَ الخَمْسَةِ، فَإنْ كَانَ مَوْقِعُ نَينَوَىَ وَالغَاضِرِيَةِ فِي زَمَنِ النَّصِّ خَارِجَ هَذَا التَّحْدِيدِ فَلَا كَلَام، وَأنْ كَانَ دَاخِلَهُ فَقَدْ رُخِّصَ فِيهِمَا بِدَلِيِلٍ خَاصٍّ.
وَلَا يُتَوَقَّعُ القَولُ بِنَاقِضِيَّةِ ذَلِكَ لِمَا قَدَّمْنَا؛ إذ قَد بَاتَ وَاضِحًا مَعْنَى الحُكُومَةِ وَقوَّةِ الحَاكِمِ فِي نَظَرِهِ الدَّلَالِيِّ لِغَيرِهِ مِمَّا يَقَعُ مَحْكُومًا ضَرُورَةً، إلَّا أنْ تُنْقَضَ الحُكُومَةُ، وَحِينَهَا نَرْجَعُ إلَى أوَّلِ الكَلَامِ وَمَرْكَزِ الاسْتِدْلَالِ. وَالفَهْمُ فِي المَقَامِ لَيْسَ بِعَزِيِزٍ.
ثُمَّ إنَّ التَّحْدِيدَ بِخَمْسَةِ فَرَاسِخَ مَبْنِيٌّ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ هُنَاكَ حَيثُ قُلِنَا:
“وَعَنْ مُحَمَّدِ بِنِ إسْمَاعِيلَ البَصْرِيِّ، عَمَّنْ رَوَاهُ، عَنْ أبِي عَبْدِ اللهِ (عَليهِ السَّلَامُ)، قَالَ: “حُرْمَةُ قَبْرِ الحُسينِ فَرْسَخٌ فِي فَرْسَخٍ مِنْ أرْبَعَةِ جَوانِبِهِ”[3].
وَعَنْ مَنْصُورِ بنِ العَبَّاس، يَرْفَعُهُ إلى أبِي عَبْدِ اللهِ (عَليهِ السَّلَامُ)، قَالَ: “حَريِمُ قَبْرِ الحُسينِ (عَليهِ السَّلَامُ) خَمْسُ فَرَاسِخ مِنْ أرْبَعَةِ جَوانِبِ القَبْرِ”[4].
“وَالوَجْهُ فِي هَذِهِ الأخْبَارِ تَرَتُّبُ هَذِهِ المَواضِعِ فِي الفَضْلِ، فَالأقْصَرُ خَمْسُ فَرَاسِخَ، وَأدْنَاهُ فِي المَشْهَدِ فَرْسَخٌ، وَأشْرَفُ الفَرْسَخِ خَمْسٌ وَعشْرُونَ ذِرَاعًا، وَأشْرَفُ الخَمْسِ وَعشْرِينَ ذِرَاعًا عشْرُونَ ذِرَاعًا، وَأشْرَفُ العشْرِينَ مَا شَرُفَ بِهِ وَهُوَ الجَدَثُ نَفْسُهُ”[5].
أقُولُ:
يَظْهَرُ مِنَ التَّعْقِيبِ بِالنَّهيِّ عَنِ (اتِّخَاذِهِ وَطَنًا) حُكُومَتُهُ عَلَى غَيرِهِ مِنَ الأخْبَارِ الشَّرِيفَةِ؛ إذْ إنَّ وُقُوعَ البَقَاءِ مُجرَّدًا مُتَصَوَّرٌ عُرْفًا في كَافَّةِ المَوَاطِنِ، وَلَيسَ كَذَلِكَ في بَقَاءِ المَبيِتِ وَبَقَاءِ التَّوَطُّنِ لانصِرَافِهِ عَنْ الأوَّلَينِ الجَدَثِ وَمَوضِعِ القَبْرِ، وإنْ أمكَنَ فهُوَ لَيْسَ بِمَا يَسْتَدْعِيِ بَيَانًا.
بَقِيَ إذَنْ حَرِيمُ القَبْرِ، ومَا بَعْدَهُ مِنْ عُمُومِ كَربَلَاء، أمَّا حَرِيمُهُ وَهُوَ خَمْسَةُ فَرَاسِخ كَمَا بَيَّنَتْهُ مَرْفُوعَةُ مَنْصُورِ بنِ العَبَّاس فَهِي مَا يُتَصَوَّرُ أنْ تَكُونَ مَوضِعًا لِلتَوَطُّنِ، ومَا بَعْدَهَا مِمَّا كانَ قُرَىً مَأهُولَةً مُتَنَاثِرَةً تُعْرَفُ بِكَرْبَلَاء، فَمَعَ وجُودِهَا وَعَدَمِ تَنَاولِ البَيَانَات الشَّرعِيَّة لِحُكْمِ تَوطُّنِها فَلَا مَورِدَ لِلشَّكِّ، وإنْ طَرَأَ نُفِيَ بِالأصْلِ”.
فإمَّا أنْ تُضَيِّقَ إلَى فَرْسَخٍ أو مَا دُونَه مِنَ التَّحْدِيدَاتِ الوَارِدَةِ فَتَقُولُ حِينَهَا بِتَصَوُّرِ اتِّخَاذِ مَا تَسْتَقْرِبُهُ مِنْ تَحْدِيِدٍ وَطَنًا فَيَنحَصِرُ الخِلَافُ فِي التَّحْدِيدِ لَا فِي أصْلِ الاسْتِدْلَالِ.
مَسْألَةُ أقْصَىَ الإقَامَةِ:
وَقَعَ الكَلَامُ فِي أقْصَى الإقَامَةِ بِنَاءً عَلَى كَونِ انصِرَافِ الزَّائِر إلى القَبْرِ الشَّرِيف مِنْ دَاخل خُصُوصِ التَّحْدِيِدِ المُخْتَار، أمَّا إذَا كان مِنْ خارِجِه فَلَيس مَحل كَلَامِنَا، فَقُلْتُ تَحتَ عُنْوَانِ (فَإنَّ المُتَحَصَّلَ عِنْدَ النَّظَرِ القَاصِرِ هُوَ): “ثَالِثًا: أقْصَى الإقَامَة ثَلَاثَةُ أيَّامٍ مَشْرُوطَةٌ بِالصَّومِ إذَا حَمَلْنَا مَحَلَّ الخُرُوجِ إلى الزِّيَارَةِ عَلَى كَونِهِ حَرِيمَ القَبْرِ الشَّرِيفِ”.
مَسْألَةُ تَوَطُّنِ العُلَمَاءِ وَسُكْنَاهُم كَرْبَلَاءَ:
تَوَخَّيْتُ المَوضُعِيَّةَ فِي مَقَالَةِ (الكَشْفُ وَالإجْلَاءُ)، وَلَا يَخْفَى عَلَى الألِبَّاءِ الفَرْقُ بَينَ مَقَامِ البَحْثِ العِلْميِ وَمَقَامِ الإفْتَاءِ؛ أمَّا ثًانِيهُمَا فَشَأنُ الفَقِيِهِ الجَامِعِ لِشَرَائِطِ الفَتْوَى، وَلَيسَ كَذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ لِلأوَّل وَهُوَ مَقَامُنَا وَمَادَّتُهُ مَا يَصْلُحُ أنْ يَكُونَ دَلِيلًا يَقبَلُهُ البَحَثُ.
إذَا فُهِمَ ذَلِكَ فَإنَّ الفَقِيهَ قَدْ يَعدلُ عَن نَتيجَةِ بَحثِهِ لِمَا يُوافِقُ مَا عَلَيهِ مَشهُورُ أقْرَانِهِ، ومِنَ الوَاضِحِ كَونُ العُدُولِ بَعْدَ البَحْثِ وَقَبْلَ الإفْتَاءِ.
ثُمَّ إنَّ بَعْدَ التَّتَبُّعِ بِهَذَا النَّظْرِ القَاصِرِ لَمْ أقِفْ عَلَى مَنْ بَرَزَ فِي بَحْثِهِ تَنَاولُ مَسْألَةِ اخْتِتَامِ الإمَامِ لِكَلَامِه بالأمْرِ بِالانْصِرَافِ وَالنَّهْيِّ عَنْ اتِّخَاذِ المِقْدَارِ المُحَدَّدِ وَطَنًا، والحَالُ أنَّهُ مَرْكَزُ كَلَامِنَا.
مَسْأَلَةُ قَدَاسَةِ كَرْبَلَاءَ:
كَتَبَ بَعْضُ الأفَاضِلِ (أدَامَ اللهُ تَعَالَى بَرَكَاتِهِم) حَولَ قَدَاسَةِ كَرْبَلَاءَ وَكَونِهَا أرْضًا مُبَارَكَةً وَأنَّ ذَلِكَ كَافٍ فِي إثْبَاتِ مَحبُوبِيَّةِ نُزُولِهَا والسُّكْنَى فِيهَا وَاتِّخَاذِهَا وَطَنًا، وَالحقُّ أنَّ مَا يَرَاهُ النَّظْرُ القَاصِرُ أنَّ “الإقَامَةَ عِنْدَ الإمَامِ الحُسينِ (عَلَيهِ السَّلَامُ) رَجَاءُ الطَّاهِرينَ (عَليهِمُ السَّلَامُ) لَو لَا مَوانِعُ الظُرُوفِ، وَمُنَى المُؤمِنِ لَو كَانَ أهْلًا وكُفُوًا لَهَا”، غَيْرَ إنَّ هَذِهِ المَرْغُوبِيَّةَ شَيءٌ وَتَحْقِقَ مُتَعَلَّقِهَا شَيءٌ آخَر.
ذَكَرْتُ هُنَاكَ رِوَايَات شَرِيفَةٍ تُبَيِّنُ مَا لِأرْضِ كَرْبَلَاءَ مِنْ قَدَاسَةٍ خَاصَّةٍ وَعَظَمَةٍ لَا نَظِيرَ لَهَا، وَقَدْ خَطَرَ بِبَالِي مَا أرْجُو أنْ يَكُونَ نَافِعًا فِي تَقْريِبِ الفِكْرَة، وَعَلَيَّ أنْ أُكَرِّرَ بِأنَّ مَا سَأذْكُرُهُ الآنَ إنَّمَا هُوَ لِتَقْرِيبِ الأمْرِ وَلَا عِلَاقَةَ لَه لَا بِقِيَاسٍ وَلَا شَيءٍ مَنْ ذَلِكَ، فتأمَّلْ رَحِمَكَ اللهُ تَعَالَى..
خَطَرَ بِبَالِي مَا يَجَبُ مُرَاعَاتُهُ لِحِفْظِ خُصُوصِيَّةٍ شَرْعِيَّةٍ لِلمَسْجِدِ؛ إذ يَحْرُمُ تَنْجِيِسُهُ أو إدْخَالُ النَّجاسَةِ بِحَالٍ، ويُكرَهُ فِيهِ الكَلَامُ بِغَيرِ الذِكْرِ وَمَا فِيِه رِضاه سُبْحَانَه، وَغَير ذَلِكَ مِنْ أحْكَامٍ وَآدَابٍ لَا يَتَهَاونُ الشَّرْعُ فِيهَا.
إنَّ المُقْبِلَ عَلَى كَرْبَلَاءَ مُقْبِلٌ عَلَى أرْضٍ بَيَّنَ الإمَامُ السَّجَّادُ شَيئًا مَنْ حَقِيقَتِهَا فِي قَولِهِ (عَلَيهِ السَّلَامُ): “اتَّخَذَ اللهُ أرْضَ كَرْبَلَاء حَرَمًا آمِنًا مُبَارَكًا قَبْلَ أنْ يَخْلُقَ اللهُ أرْضَ الكَعْبَةِ وَيَتَّخِذَهَا حَرَمًا بِأرْبَعَةٍ وَعِشرِينَ ألْفَ عَامٍ، وَإنَّهُ إذَا زَلْزَلَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى الأرْضَ وَسَيَّرَهَا رُفِعَتْ كَمَا هِيَ بِتُرْبَتِهَا نَورَانِيَّةً صَافِيَةً، فَجُعِلَتْ فِي أفْضَلِ رَوْضَةٍ مِنْ رِيَاضِ الجَنَّةِ وَأفْضَلِ مَسْكَنٍ فِي الجَنَّةِ لَا يَسْكُنُهَا إلَّا النَّبِيُّونَ وُالمُرْسَلُونَ – أو قَالَ: أُولُو العَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ – وَإنَّهَا لَتُزْهِرُ بَينَ رِيَاضِ الجَنَّةِ كَمَا يُزْهِرُ الكَوكَبُ الدُّرِيُّ بَينَ الكَوَاكِبِ لِأهْلِ الأرْضِ، يُغْشِي نُورُهَا أبْصَارَ أهْلِ الجَنَّةِ جَميِعًا، وَهِيَ تُنَادِي: أنَا أرْضُ اللهِ المُقَدَّسَةِ الطَّيِّبَةِ المُبَارَكَةِ الَّتِي تَضَمَّنَتْ سَيِّدَ الشُّهَدَاءِ وَسَيِّدَ شَبَابِ أهْلِ الجَنَّةِ”[6].
وعَنْ هَارُونَ بْنِ خَارِجَةَ، قَالَ: “سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّه (عَلَيْهِ السَّلَامُ) يَقُولُ: وَكَّلَ اللَّه بِقَبْرِ الْحُسَيْنِ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) أَرْبَعَةَ آلَافِ مَلَكٍ شُعْثٍ غُبْرٍ يَبْكُونَه إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَمَنْ زَارَه عَارِفًا بِحَقِّه شَيَّعُوه حَتَّى يُبْلِغُوه مَأْمَنَه، وإِنْ مَرِضَ عَادُوه غُدْوَةً وعَشِيَّةً وإِنْ مَاتَ شَهِدُوا جَنَازَتَه واسْتَغْفَرُوا لَه إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ”[7].
هَلْ يَتَصَوَّرُ المُقْبِلُ عَلَى كَرْبَلَاءَ شَيئًا مِمَّا عَلَيْهِ وَهُوَ فِي مِثْلِ هَذِهِ القَدَاسَةِ العُظْمَى؟ هَذَا مَا يَفْهَمُهُ حَقَّ الفَهْمِ أئِمَّةِ الهُدَى (عَلَيهِمُ السَّلَامُ)، وَمَن يَضْمَنُ جَوارِحَهُ وَجَوَانِحَهُ أنْ لَا يَرْتَكِبَ بِشَيءٍ مِنْهَا مَا يَهْتِكُ بِهِ الحُرْمَةُ العَظِيِمَةُ لِكَرْبَلَاءَ المُقَدَّسَةِ؟
وَلِمَ امْتَدَّ حَرِيِمُ القَبرِ الشَّرِيفِ إلَى خَمْسَةِ فَرَاسِخ؟
إنَّ هَذَا الوَاقِعَ يُقَرِّبُ الفَهْمَ مِنْ بَعْضِ مَقَاصِدِ الأمْرِ بِالانْصِرَافِ بَعدَ أعْمَالِ الزِّيَارَةِ وَالنَّهْيِ عَنِ اتِّخَاذِ المسَاحَّةِ المُقَدَّرَةِ وَطَنًا. وَحَقًّا أرْجُو تَأمُّلَ المَسْألَةِ وَالانْتِّبَاهِ إلَى الفَرْقِ بَيْنَ التَّرْغِيبِ وَبَينَ تَحْقِيقِ مُتَعَلَّقِهِ.
وَكَتَبَهُ حَامِدًا شَاكِرًا
السَّيِّدُ مُحَمَّدُ بنُ السَّيِّدِ عَلِيٍّ العَلَويِّ
13 صَفَر 1445 لِلهِجْرَةِ
البَحْرَينِ المَحْرُوسَةِ
……………………………………………………….
[1] – الموقع الإلكتروني للمقالة: https://alghadeer-voice.com/archives/6175
[2] – كامل الزيارات – جعفر بن محمد بن قولويه – ص 252
[3] – كامل الزيارات – جعفر بن محمد بن قولويه – ص 456
[4] – كامل الزيارات – جعفر بن محمد بن قولويه – ص 456
[5] – مصباح المُتَهَجِّد – الشَّيخ الطُّوسِي – ص 732
[6] – المصدر السَّابِق
[7] – الكافي – الشيخ الكليني – ج 4 – ص 581