كيف ينبغي للإنسان أن يفكر؟ وكيف يحدد ما يعتنق من عقائد؟ من أين يبدأ؟ وما هي أدواته؟
أسئلة تدور جميعها في فلك (الإنسان)، فهو المحور ومنه المنطلق بلا شك، فإذا أردتُ البدء بدأتُ من نفسي، وإن أردتُ الفهم بدأتُ منها، وهكذا هي المعادلة لمن أراد النجاة..
ما أنا؟
أنا إنسان مركب من عقل وشهوة، فإن سحقتُ شهوتي لصالح عقلي أكون قد خالفت الطبيعة التي خلقتُ عليها، وبالمثل لو سحقتُ عقلي لصالح شهوتي، أما الحكمة ففي إطلاق الشهوة تحت قيادة العقل، وبالتالي عدم السماح لها فيما يخالف موازينه، فالغلبة ينبغي أن تكون للعقل بتقنين نشاط الشهوة، وعلى أية حال فإن الإنسان يعيش صراعًا داخليًا دائمًا بين قوتي العقل والشهوة، وهذا قائِمٌ عليه الدليل بالوجدان.
حتى يتمكن الإنسان من ضبط إيقاع الصراع بين قوتي العقل والشهوة فهو في حاجة إلى قانون أو منظومة من القوانين التي تحترم طبيعته البشرية فلا تتعامل معه على أنه مَلَك من السماء ولا على أنه بهيمة همها علفها وإشباع فرجها، وهذا النوع من القوانين دفع المجتمع البشري نحو البحث والنظر طلبًا للراحة النفسية والاستقرار بعد مر الصراع الداخلي، فنتج عن البحث مجموعة هائلة من المذاهب التي ادعيت السماوية لبعضها وأنكر بعض آخر أمر السماء من أصل..!!
هناك من يدعو إلى الحرية المطلقة، وهناك من يقيدها، وهناك من يفصل فيها، وعندما أقول: (الحرية المطلقة) فإن ما أعنيه بالإطلاق هو التحرر من الغير في الأحكام والتشخيصات الموضوعية، وقد انتهج هذا النمط الفكري جماعة أطلقوا على مذهبهم اسم (اللا دين)، وفي الواقع أنه دين أسموه باللا دين ليقعوا في أحضان ما فروا منه، وواضح أن هذا المذهب يخالف الطبيعة البشرية التي تعلن عن حاجتها الماسة لقوانين تقيها مهاوي الانزلاق في الجربزة تارة وفي الشره تارة أخرى.
وهناك من يدعو إلى ما يدعو إليه اللا دينيون ولكن بإدخال بعض التعديلات، فيقولون بإطلاق الحريات على المستويين الاقتصادي والسياسي، ولو أنك تسايرهم قليلًا لوجدت كل زوايا ومفاصيل الحياة داخلة تحت نفس العنوانين، فلا دين ولا تربية ولا اجتماع ولا رياضة إلا والحاكم فيها السياسة والاقتصاد، هذه دعوة الليبراليين الذين يمثلون وجهًا آخر للعلمانية من جهة ويفتحون الأبواب للحداثة المطلقة من جهة أخرى، ولا يؤدي هذا المذهب الفكري في نهاية المطاف إلا إلى إقصاء كل من يرفع راية تميزه عن الآخر خصوصًا إذا كانت راية دينية، ولنا في فرنسا خير دليل، فهي الدولة الرائدة علمانيًا وحداثيًا وليبراليًا، ولذلك انتهت قوانينها إلى منع الحجاب والصليب ونجمة اليهود، فعادت العلمانية والحداثة والليبرالية استبدادًا وقسرًا لتعلن وثنيتها صريحة وبلا مجاملة.
أما بالنسبة للأديان السماوية فالمسيحية قد اختارت لنفسها الكنيسة وعدم الاشتغال بغير ما يخص الصلوات وترانيمها، وذلك بعد أن كان لها الحكم (الغاشم) في أيام محاكم التفتيش التي أذاقت الناس علقمًا، وأما اليهودية فلها الحكم بمقاييس الرأسمالية التي طالما آمنت بها منذ غابر الأزمان، غير أنها بنكهة حاخامية تسوغ لليهودي ما لا تسوغه لغيره، وتقر له من الغايات ما تبرر به ألوان الوسائل، وعليه فلا كلام لنا لا عن المسيحية ولا عن اليهودية، فلننتقل مباشرة للإسلام..
ترى مذاهب (السُنَّة) وجوب الالتزام بأحكام الشريعة من جهة والانقياد المطلق لـ (ولي الأمر) الذي هو الحاكم المسلم، وأي تعارض في الرؤى فالغلبة (بحكم الدين) تكون لـ (ولي الأمر)، وواضح أن الانقياد المطلق لا يتحقق إلا بالانصياع لـ (الولي) في الموضوعات وما يتبعها من أحكام قد يتفرد بها نفس الولي الذي تَحْرُمُ معارضته وإلا كان خروجًا عليه فتترتب من الأحكام ما قد تُذهِبُ برقاب وأعناق، ولسنا هنا في حاجة إلى إثبات أن نفس فكرة (ولي الأمر) لا يمكن إلا أن تكون وثنًا لا يفهم معنىً لا لدليل ولا لبرهان حتى لو كان حسيًا.. فهو في نهاية المطاف.. وثن!!
نرجع مرة أخرى مذكرين..
يحتاج الإنسان إلى ما يقنن أفعاله، كما أنه في حاجة مماثلة لما يطلق له العنان لممارسة الفكر والنظر، ومن هنا جاءت الشريعة الإسلامية السمحاء لتفرض على الإنسان مجموعة من القوانين والأحكام الشرعية بمواضيع صرفة ليس من حق أحد التدخل فيها أو الاجتهاد بأي مستوى من مستويات التشخيصات في قبالها، ومثال ذلك: الصلاة والصوم والحج والحجاب وما شاكل..
وفي الجانب الآخر أعطى أحكامًا لكل وقائع الحياة تاركًا أمر التشخيص لنفس المكلف، فقال مثلًا: كل ما يوهن الدين فهو حرام.
وترك تشخيص موضوع الوهن للمكلف الذي ما إن يشخصه على أنه مما يوهن الدين صار لزامًا عليه النهي عنه بشرط أن يكون الآخر ممن يتفقون معه في التشخيص، وهكذا تدور المعادلة بين إلزام في الأحكام وإطلاق عنان في غير الصرف من المواضيع، والمرتكز في ذلك هو أن المعصوم فقط قادر على التشخيص المطابق للواقع، وغيره قد يصيب وقد يخطئ، وبالتالي لا يمكن إلزام الأمة بتشخيصاته.
وأما في القضايا الكبرى التي تمس مصلحة الأمة، فالمرجع فيها إلى ذوي الاختصاص الذين يرفعون الأمر إلى مجلس متكامل من الفقهاء العدول ليقرروا ما ينبغي أن يكون وفقًا لأعلى مستويات الإصابة التي يحققها مبدأ الشورى. وهذا ما توجه إليه الرؤية الإسلامية (الشيعية) بعد زمن المعصومين (عليهم السلام) وفي ظل غيبة الإمام المهدي المنتظر (روحي فداء لتراب نعليه).
من هنا وبناءً على ما تقدم فإنني أحذر من غير الإسلام الصحيح الذي يحترم كل التوجهات طالما أنها لا تشهر سيفًا في وجه العدل والإنصاف وإقامة الحق، فالإسلام يدعو للصلاة ولكنه لا يجبر أحدًا عليها، وهكذا في كل ما لا يشكل تعديًا على حريات الغير، ومبحث الحريات عريض تدعمه الأدلة العقلية قبل النقلية.
أما إذا انجر الناس وراء عناوين الديموقراطية و(أخواتها) فليحفظ القارئ الكريم كلامي على رف الذكريات ليستحضره بعد حين ويدعو لي بالخير حيًا كنتُ أو ميتًا.
السيد محمد علي العلوي
29 صفر 1433هـ / 23 يناير 2012م