بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمَّد وآله الطيبين الطاهرين
تاهتْ جَمَاعَاتٌ يوم اضطرَّوا لأفهامهم الخاصَّة في تفسير نصوص الكتاب العزيز بعد تضييعهم لِعِدْلِهِ النَّاطق بتفسيره وبيان مقاصده، فصاروا بين متشدِّدٍ جامد، ومتمايع تذروه رياح العصور ليوافقها بإسلامٍ لا يُشْبِهُ الإسلام.
قد لا نعتني كثيرًا بمن حكم على نفسه بالتِّيه والضياع، ولكنَّنا نقف بِثقلَيِّ إسلامنا في وجه ما يتسرَّب إلينا مِن فساد كلِّ مَن شَرَّق وغَرَّب مِمَّنْ أضاعوا وضَيَّعوا، ومن ذلك كلامهم في تغطية المرأة لشعرها أمام الأجنبي، وهو ما سمعناه يتردَّد بين بعض مجاميع النساء المؤمنات بأنَّه لا دليل مِنَ القرآن الكريم على وجوبه!
نتعرَّض في هذه المقالة لبيان الأمر وتعرية واقع ما عليه أصحاب هذه الدعاوى الفاسدة. وأوَّل ما نبدأ به التنبيه على خطر التعبير عن المعاني بغير ما جاء في النصوص الشريفة.
القناع والغطاء والخمار:
أمَّا (الحجاب) فأعمُّ مِن غطاء الرأس، والقناع، والخمار، بل هو كل ما يستر شيئًا عن شيء، قال تعالى (وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ)[1]، وقال سبحانه (وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ)[2]، ولكنَّ الروايات الشريفة جاءت بتحديدات واضحة، فعبَّرت عن مراد الله تعالى بالقناع تارة، وتغطية الرأس أخرى، والخمار، لتبين موضوع المسألة وهو خصوص رأس المرأة.
إنَّ لكلمة (حجاب)، وإنْ كان الانصراف اليوم لخصوص تغطية المرأة لشعرها، إلَّا أنَّ نفسَ طبيعة العموم تصرف عن مركز الكلام وهو رأس المرأة.
ونحن نؤكِّدُ دائمًا على أهمية استعمال الألفاظ الواردة عنهم (عليهم السَّلام) دون تصرُّف بتغيير إلى ما نراه مرادفًا، فضلًا عن غيره من التصرُّفات.
المعنى في اللغة:
قال في مقاييس اللغة: “القِنع، وهو مستديرٌ من الرَّمل. والقِنْع والقِنَاع: شِبْهُ طَبَقٍ تُهدَى عليه الهديَّة. وقِناعُ المرأةِ معروفٌ، لأنَّها تُدِيرهُ برأسها. ومما اشتُقَّ من هذا القِناع قولُهم: قَنَّع رَأْسَه بالسَّوطِ ضَربًا، كأنَّه جَعَله كالقِناعِ له”[3].
وفي تاج العروس: “والمِقْنَعُ والمِقْنَعَةُ بكَسْرِ مِيمِهما الأُولَى عن اللِّحْيَانِيِّ: ما تُقَنِّعُ به المَرْأةُ رأْسَهَا ومَحَاسِنَها، أيْ تُغَطِّي، وكذلِكَ كُلُّ ما يُسْتَعْمَلُ به مَكْسُورُ الأوّلِ يأتِي على مِفْعَل ومِفْعَلَة.
والقِناعُ بالكَسْر: أوْسَعُ مِنْهَا، هكذا في النُّسَخِ، أي منَ المِقْنَعَةِ كما في اللِّسانِ وفي العُبَابِ: مِنْهُمَا بضَمِيرِ التَّثْنِيَّة، وقالَ الأزْهَرِيُّ: لا فَرْقَ عِنْدَ الثِّقَاتِ بينَ القِنَاعِ والمِقْنَعَةِ، وهُوَ مِثْلُ اللِّحَافِ والمِلْحَفَةِ”.[4]
وفي لسان العرب: “والخِمَارُ للمرأَة، وَهُوَ النَّصِيفُ، وَقِيلَ: الْخِمَارُ مَا تُغَطِّي بِهِ المرأَة رأْسها، وَجَمْعُهُ أَخْمِرَةٌ، وخُمْرٌ، وخُمُرٌ. والخِمِرُّ، بِكَسْرِ الْخَاءِ وَالْمِيمِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ: لُغَةٌ فِي الْخِمَارِ”، وفي لسان العرب أيضًا: “قالَ أَبو سَعِيدٍ: النَّصِيف ثَوْبٌ تتجلَّل بِهِ المرأَة فَوْقَ ثِيَابِهَا كُلِّهَا، سُمِّيَ نَصِيفًا لأَنه نَصَفٌ بَيْنَ النَّاسِ وَبَيْنَهَا فحَجز أَبصارهم عَنْهَا، قَالَ: وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ مَا قَالَهُ قَوْلُ النَّابِغَةِ: سَقَطَ النَّصِيف، لأَنَّ النَّصِيف إِذَا جُعِلَ خِمارًا فَسَقَطَ فَلَيْسَ لستْرِها وجهَها مَعَ كشفِها شعَرها مَعْنًى، وَقِيلَ: نَصِيف المرأَة مِعْجَرُها”[5].
فالمدار هو تغطية المرأة لرأسها، وفي ذلك جاءت النصوص الشريفة، منها ما عن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) في ما رآه في معراجه، قال: “امرأة معلقة بشعرها يغلى دماغ رأسها”، فسألته الزهراءُ فاطمةُ (عليها السَّلام) عن سبب ذلك، قال (صلَّى الله عليه وآله): “يا بنيتي، أمَّا المعلقة بشعرها فإنَّها كانت لا تُغطِّي شعرها من الرجال”[6].
والروايات الشريفة تبين مرَّة وجوب تغطية المرأة لرأسها، وأخرى وجوب تغطيتها لشعرها، فيتضح عدم تعلَّق الحكم على وجود الشعر، إلَّا إذا كانت الحكومة لروايات تغطية الشعر، وهي ليست كذلك؛ إذ أنَّ النصوص الشريفة لم تتعرَّض لخصوصية في الشعر يترجَّح معها كون روايات تغطية الشعر مبينة لمقدار الموضوع، لذا فحتَّى لو كانت صلعاء وجب عليها تغطية رأسها، وكذا لو كان شعرُها خشنًا أو بحال لا يثير الرجال.
والروايات الشريفة في ما نحن فيه طائفتان:
الأولى: متى يجب على الجارية القناع؟:
والجارية في قبال الغلام، وهي البنت الصغيرة التي لم تبلغ، أمَّا الأمَةُ في قبال العبد، فهي جاريةٌ وإن كانت عجوزًا.
- عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السَّلام)، قَالَ: “لَا يَصْلُحُ لِلْجَارِيَةِ إِذَا حَاضَتْ إِلَّا أَنْ تَخْتَمِرَ، إِلَّا أَنْ لَا تَجِدَه”[7]؛ فيما لو قلنا بأنَّ الحيض هو البلوغ.
- عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَجَّاجِ، قَالَ سَأَلْتُ أَبَا إِبْرَاهِيمَ (عليه السَّلام) عَنِ الْجَارِيَةِ الَّتِي لَمْ تُدْرِكْ، مَتَى يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُغَطِّيَ رَأْسَهَا مِمَّنْ لَيْسَ بَيْنَهَا وبَيْنَه مَحْرَمٌ، ومَتَى يَجِبُ عَلَيْهَا أَنْ تُقَنِّعَ رَأْسَهَا لِلصَّلَاةِ؟
- قَالَ (عليه السَّلام): لَا تُغَطِّي رَأْسَهَا حَتَّى تَحْرُمَ عَلَيْهَا الصَّلَاةُ”[8]، أي كنايةً حتَّى تحرم عليها الصَّلاة للحيض، أو أن تحرم عليها دون قناع.
- عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السَّلام) أنَّه قال: “على الصَبيِّ إذا احتلم الصيامُ، وعلى الجارية إذا حاضت الصيامُ والخمارُ، إلَّا أن تكون مملوكةً؛ فإنَّه ليس عليها خمار، إلَّا أنْ تُحِبَّ أنْ تختمر، وعليها الصيامُ”[9].
الثانية: ما يحلُّ وما يحرمُ النظرُ إليه من المرأة:
- عَنِ الْفُضَيْلِ بْنِ يَسَارٍ، قَالَ: “سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّه (عليه السَّلام) عَنِ الذِّرَاعَيْنِ مِنَ الْمَرْأَةِ أهُمَا مِنَ الزِّينَةِ الَّتِي قَالَ اللَّه تَبَارَكَ وتَعَالَى: (ولا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ)؟
قَالَ (عليه السَّلام): نَعَمْ، ومَا دُونَ الْخِمَارِ مِنَ الزِّينَةِ، ومَا دُونَ السِّوَارَيْنِ”[10].
- عَنْ مَرْوَكِ بْنِ عُبَيْدٍ، عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (عليه السَّلام)، قَالَ: قُلْتُ لَه: مَا يَحِلُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يَرَى مِنَ الْمَرْأَةِ إِذَا لَمْ يَكُنْ مَحْرَمًا؟
قَالَ (عليه السَّلام): الْوَجْه والْكَفَّانِ والْقَدَمَانِ”[11].
- وعن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) أنَّه قال: “وَمَنِ اطَّلَعَ في بيتِ جَارِهِ فَنَظَرَ إلى عَوْرَةِ رَجُلٍ، أو شَعْرِ امْرَأةٍ، أو شيءٍ مِنْ جَسَدِهَا كانَ حَقًّا على اللهِ أنْ يُدْخِلَهُ النَّارَ مَعَ المُنَافِقينَ الذينَ كَانُوا يَبْتَغُونَ عَورَاتِ النَّاسِ في الدُّنْيَا، ولا يَخْرُجُ مِنَ الدُّنْيَا حَتَّى يَفْضَحهُ اللهُ وَيُبْدِي للنَّاسِ عَوْرَتَهُ في الآخِرَةِ”[12].
ونلحِق بها ما يجوز للمرأة إظهاره أمام الأجنبي، فعن مسعدة بن زياد، قال: “وَسَمِعتُ جعفرًا (عليه السَّلام) وَسُئِلَ عَمَّا تُظْهِرُ المَرْأةُ مِنْ زِينَتِهَا.
قال (عليه السَّلام): الوجه والكفين”[13].
- تفسير قوله تعالى: (وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ …)[14].
قال في جوامع الجامع: “والخُمُر: المَقَانِعُ، جَمْعُ خِمَار. أُمِرْنَ بإلقَائِهَا عَلَى جُيُوبِهِنَّ لأنَّهَا لو كَانَتْ وَاسِعَةً تَبْدُو مِنْهَا نُحُورُهُنَّ. وَكُنَّ يُسْدِلْنَ الخُمُرَ مِنْ وَرَائِهِنَّ فَتَبْقَى مَكْشُوفَةً، فَأُمِرْنَ بِسَدْلِهَا مِنْ قُدَّامِهِنَّ حَتَّى تُغَطِّيهَا”[15].
وقال في مجمع البيان: “والخُمُر: المَقَانِعُ، جَمْعُ خِمَار؛ وَهُوَ غِطَاءُ رَأسِ المَرْأةِ المُنْسَدِلِ عَلَى جَيبِهَا، أُمِرْنَ بإلقَاءِ المَقَانِعِ عَلَى صُدُورِهِنَّ تَغْطيَةً لِنُحُورِهِنَّ؛ فَقَدْ قِيلَ: إنَّهُنَّ كُنَّ يُلْقينَ مَقَانِعَهُنَّ عَلى ظُهُورِهِنَّ فَتَبدُو صُدُورُهُنَّ. وَكَنَّى عَنِ الصُدُورِ بالجُيُوبِ لأنَّها مَلْبُوسَةٌ عَليهَا. وقيل: إنَّهُنَّ أُمِرْنَ بِذَلِكَ ليَسْتُرْنَ شُعُورَهُنَّ، وَقُرُطَهُنَّ، وَأعْنَاقَهُنَّ. قال ابنُ عَبَّاسٍ: تُغَطِّي شَعْرَهَا، وَصَدْرَهَا، وَتَرَائِبَهَا، وَسَوَالِفَهَا”[16].
وقال في تفسير الميزان: “الخُمُرُ، بِضَمَّتَينِ، جَمْعُ خِمَارٍ؛ وَهُوُ مَا تُغَطِّي بِهِ المَرْأةُ رَأسَهَا وَيَنْسَدِلُ عَلى صَدْرِهَا، وَالجُيُوبُ جَمْعُ جَيْبٍ، بِالفَتْحِ فَالسُكُونِ، وَهُوَ مَعْرُوفٌ، وَالمُرَادُ بِالجُيُوبِ الصُدُورُ، وَالمَعْنَى؛ وَليَلْقينَ بِأطْرَافِ مَقَانِعِهِنَّ على صُدُورِهِنَّ لِيَسْترْنَهَا بِهَا”[17].
وقال في التحرير والتنوير: “وَنُهِينَ عَنِ التسَاهُلِ في الخِمْرَةِ. والخِمَار: ثَوبٌ تَضَعُهُ المَرْأةُ عَلَى رَأسِهَا لِسِتْرِ شَعْرِهَا، وَجِيدِهَا، وَأُذنَيهَا. وَكَانَ النِّسَاءُ رُبَّمَا يَسْدِلْنَ الخِمَارَ إلى ظُهُورِهِنَّ، كَمَا تَفْعَلُ نِسَاءُ الأنْبَاطِ، فَيَبْقَى العُنُقُ، وَالنَّحْرُ، والأذُنَانِ غَيرَ مَسْتَورَةٍ، فَلِذَلِكَ أُمِرْنَ بِقَولِهِ تَعَالى: (وليضربن بخمرهن على جيوبهن).
وَالضرْبُ: تَمْكينُ الوَضْعِ، وَتَقَدَّمَ في قَولِهِ تَعَالى: (إنَّ الله لا يستحيِ أنْ يَضْرِبَ مَثَلاً) في سورة البقرة (26).
والمعنى: ليَشْددْنَ وَضْعَ الخُمُرِ عَلى الجيوبِ، أي بِحَيثُ لا يَظهَرُ شَيءٌ مِنْ بشرَةِ الجِيد.
وَالبَاءُ في قَولِهِ (بِخُمُرهِنَّ) لِتَأكيد اللصُوقِ مُبَالَغَةً في إحْكَامِ وَضْعِ الخِمَارِ على الجَيبِ زِيَادَةً على المُبَالَغَةِ المُسْتَفَادَةِ مِنْ فِعْلِ (يَضْرِبنَ).
وَالجُيُوب: جَمْعُ جَيبٍ، بِفَتحِ الجِيم، وَهُوَ طَوقُ القَميصِ مِمَّا يَلِي الرَّقَبَة. وَالمَعْنَى: وَليَضَعْنَ خُمُرهنَّ عَلَى جُيُوبِ الأقْمِصَةِ بِحَيثُ لا يَبْقَى بَينَ مُنْتَّهَى الخِمَارِ وَمَبْدَأ الجَيبِ مَا يَظْهَرُ مِنْهُ الجِيدُ”[18].
التأسيس والبناء:
الأظهر أنَّ الخِطَابَ التأسيسي حَدِيثِيٌّ، جاء بعده القرآني آمرًا النساء بأنْ يضرِبن بخُمُرِهنَّ على جُيوبِهنَّ، فوجوب الخمار مفروغ منه، ولا يصحُّ الأمر بالضرب على الجيوب دون أمرٍ سَابِقٍ بالتقنُّع، وليس بقريب أنْ يُفرِد خطابًا خاصًّا بستر الجيب بما يستره غير الخمار، وإن صحَّ، إلَّا أنَّ الأقرب، بل المتعيِّن هو المساواة بين حرمة إظهار الجيب وحرمة إظهار الرأس، فبان الوجه من الإعراض عن ذكره، والاكتفاء بذكر الجيب وما يُضرب عليه به.
فوائد من حال مولاتنا فاطمة الزَّهراء (عليها السَّلام) عند خروجها من دارها:
جاء أنَّها (عليها السَّلام) عندما أرادت الخروج وإلقاء خطبتها المشهورة التي عُرِفَت بالخطبة الفدكية، فإنَّها (عليها السَّلام) “لاثَتْ خِمَارَهَا عَلَى رَأسِهَا، وَاشْتَمَلَتْ بِجِلْبَابِهَا، وَأقْبَلَتْ فِي لمةٍ مِنْ حَفَدَتِهَا وَنِسَاءِ قَومِهَا تَطَأُ ذُيُولَهَا، مَا تَخْرِمُ مِشْيَتُهَا مِشْيَةَ رَسُولِ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَليهِ وَآلِهِ)”[19].
علَّق السَّيد محمَّد باقر الخرسان:
“اللوث: الطَّيُّ والجَمْعُ، وَلَاثَ العِمَامَةَ شَدَّهَا وَرَبَطَهَا، وَلاثَتْ خِمَارَهَا لَفَّتْهُ، وَالخِمَارُ بالكَسْرِ: المقْنَعَة، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لأنَّ الرَّأسَ يُخَمَّرُ بِهَا أي يُغَطَّى.
الاشْتِمَاُل بالشيء جَعْلُهُ شَامِلًا وَمُحيطًا لِنَفْسِهِ، وَالجلبَاب: الرِّدَاءُ والإزَار.
في لمة: أي جَمَاعة، وفي بعض النسخ في لميمة بصيغة التصغير، أي في جماعة قليلة، والحفدة بالتحريك: الأعوان والخدم.
تطأ ذيولها: أي أنَّ أثْوابَهَا كَانَتْ طَويلَةً تَسْتُرُ قَدَميهَا، فَكَانَتْ تَطَأُهَا عِنْدَ المَشي. وَفي بَعْضِ النُّسَخِ تَجُرُّ أدْرَاعَهَا، وَالمَعْنَى وَاحِدٌ.
الخُرْمٌ بِضَمِّ الخاءِ وَسُكُونِ الرَّاءِ التَّرْكُ، وَالنَّقْصُ، وَالعُدُولُ”[20].
نُفِيدُ:
- تغطية الرأس بأنْ تَشُد عليه ما يُغطَّى بِه، ولا يُكتَفى بمجرَّد التغطية دون إحكام.
- الاشتمال بالجلباب بعد شدِّ الخمار على الرأس، فيكون ما يُضرب منه على الجيب داخل الجلباب، وهو أستر وأحكم.
- خروج المرأة في جماعة، فهو آمن لها من خروجها منفردة.
- تطويل المرأة لثيابها بحيث تعيقها مِن المشي السريع، إضافة إلى كون ذلك أستر لقدميها.
تصحيحٌ واجِبٌ:
تبحثُ نِساءٌ في هذا العصر عن ما يُخفِّفُ مشيتهنَّ مِنْ ثوبٍ ونَعلٍ وخفٍّ، ولا يُرِدْنَ ما يُثقِلُ خُطواتهنَّ ويُبَطِّئُها، فوقع اختيارُهنَّ على ما أسموه بعباءة الكتف، ومن تحتها سروالٌ ينكشف بمجرَّد المشي، وإن اختارت حذاءً رياضيًّا فقد تهمُّ في مشيتها فتظهر تفاصيل جسدها قهرًا لضرورة طبيعة عباءة الكتف، لا سيَّما مع انسدالها على الصدر حتَّى لو كانت فضفاضة!
هذا وقد كَرِه اللهُ تعالى للمؤمِن أن يُسرِع في مشيته، فَعَن إبراهيم بنِ عبد الحميد، عن أبي الحسن (عليه السَّلام)، قال: “سُرْعَةُ المَشْي تَذْهَبُ بِبَهَاءِ المُؤمِنِ”[21].
وقال عبد الله بن أبي سليمان: “كان عليُّ بنُ الحُسين إذا مَشَى لا تُجَاوزُ يَدُهُ فَخْذَهُ، وَلا يَخْطُرُ بِيَدِهِ”[22].
أمَّا إذا ظهر تمايل المرأة في مشيتها بسبب ارتدائها لعباءة الكتف كانت ممَّن ذمَّهم الشارع المقدس في غير موضع، منها ما عن جابر بن يزيد الجعفي، عن أبي جعفر محمَّد بن عليٍّ الباقر (عليهما السَّلام)، قال: سَمِعْتُ جَابِرَ بن عبد الله الأنصاري يقول: مَرَّ رسولُ اللهِ (صَلَّى اللهُ عليه وآلِهِ) بِرَجُلٍ مَصْرُوعٍ وَقَدْ اجْتَمَعَ عليه النَّاسُ يَنْظُرُونَ إليه. فَقَالَ (صَلَّى اللهُ عليه وآلِهِ): عَلَى مَا اجْتَمَعَ هَؤلاءِ؟
فقيل له: عَلَى مَجْنُون يصرع.
فَنَظَرَ إليهِ، فَقَالَ: مَا هَذَا بِمَجْنُون، ألا أُخْبِرُكُم بِالمَجْنُون حَقّ المَجْنُون؟
قالوا: بَلَى، يَا رَسُولَ اللهِ.
قال (صَلَّى الله عليه وآلِهِ): إنَّ المَجْنُونَ حَقّ المَجْنُون؛ المُتَبَخْتِرُ في مِشْيَتِهِ، النَاظِرُ في عطْفَيهِ، المُحَرِّكُ جَنْبَيهِ بِمِنْكَبَيهِ، فَذَاكَ المَجْنُونُ، وَهَذا المُبْتَلَى”[23].
قد يكون لطبيعة التكوين الجسدي للمرأة دخالة في مشيتها، وهذا يؤكِّد على ضرورة سترها لهذه الطبيعة إلَّا عن زوجها. فافهم رعاك الله تعالى.
وعَنْ غِيَاثِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (عليه السَّلام)، قَالَ: قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السَّلام): “يَا أَهْلَ الْعِرَاقِ، نُبِّئْتُ أَنَّ نِسَاءَكُمْ يُدَافِعْنَ الرِّجَالَ فِي الطَّرِيقِ! أمَا تَسْتَحْيُونَ؟!
وفِي حَدِيثٍ آخَرَ أَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السَّلام) قَالَ: أمَا تَسْتَحْيُونَ ولَا تَغَارُونَ؛ نِسَاءَكُمْ يَخْرُجْنَ إِلَى الأَسْوَاقِ ويُزَاحِمْنَ الْعُلُوجَ؟!”[24].
وقد ورد عنهم (عليهم السَّلام) ما يرشد المرأةَ للمسلك المرضي، فعَنِ الْوَلِيدِ بْنِ صَبِيحٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (عليه السَّلام)، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه (صلَّى الله عليه وآله): “لَيْسَ لِلنِّسَاءِ مِنْ سَرَوَاتِ الطَّرِيقِ شَيْءٌ، ولَكِنَّهَا تَمْشِي فِي جَانِبِ الْحَائِطِ والطَّرِيقِ”[25].
وعن أبي الحسن (عليه السَّلام)، فقال: “لا ينبغي للمرأة أن تمشي في وسط الطريق، ولكنَّها تمشي إلى جانب الحائط”[26].
كان ذلك استطرادًا على أصل الكلام، وإن لم يكن بأجنبيٍّ عنه؛ فما نراه صريحًا من عناية الإسلام العظيم بالمرأة هو أنَّه يريدها في نفسها آيةً للطاهرة والعِفَّة، سواءً كانت أمام الأجنبي أم لا، ولو أنَّها تُحَقِّقُ هذه الغاية الشريفة لتَحقَّق إعدادها لتكون مدرسة يُعَدُّ بها شعبٌ طيِّبَ الأعراق[27]، ولكنَّه أسَفٌ لا ينقضي؛ إذ أنَّها أعطت ظهرها لتعاليم السَّماء، وارْتَمَتْ ارتماء الغزال الأعمى في أحضان الضباع، فتحولت في عالمٍ متوحِّشٍ إلى سلعةٍ ومادَّة تُستعمل للترويج وتسويق البضائع والمنتجات، واتُّخِذَتْ واجهةً لجذب الزبائن واصطياد الأموال، ولن تنجح في هذه المهمَّة ما لم تُبرِز أنوثتها جمالًا ومفاتِن، بل وتُعَرَّى في الكثير من المناسبات الرياضية وما نحوها، ولا مِنْ مُنكِرٍ!
والأنكى مِنْ ذَلِكَ ثورة التيار النسوي ضِدَّ أدنى دعوة إسلامية تريد الرجوع بالمرأة إلى ما تُبينه النصوص الشريفة مِن سِترٍ شرعي وجلال إسلامي، ولا يُحرِّكُ نفسُ التيار، ولا يَنبِسُ أحَدٌ مِنْهُ بِبِنْتِ شَفَةٍ إنكارًا، ولا حتَّى انتقادًا ناعمًا لهذا الاستغلال الحقير للمرأة في مختلف مجالات هذه الدنيا. ولا حول ولا قوَّة إلَّا بالله العلي العظيم.
عَودٌ على بَدء..
كتبتُ هذه المقالة برجاء تنبيه الغافل إلى أنَّ تغطية المرأة لرأسها واجبٌ تُعَاقَبُ على مخالفته عقابًا شديدًا، وقد مرَّ ما عن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) في ما رآه في معراجه، قال: “امرأة معلقة بشعرها يغلى دماغ رأسها”، فسألته الزهراءُ فاطمةُ (عليها السَّلام) عن سبب ذلك، قال (صلَّى الله عليه وآله): “يا بنيتي، أمَّا المعلقة بشعرها فإنَّها كانت لا تُغطِّي شعرها من الرجال”، كما ورجوتُ الإلفات إلى مدى ضعفِ، ووهنِ، بل وتركُّبِ جهلِ مَنْ يوهم نفسه بعدم وجوبه، وبأنَّ الكتاب العزيز لم يأمر به. وإنِّي واللهِ لأستكثر على هؤلاء التفرُّغ للردِّ عليهم، لو لا أملي بأنْ يجعل الله تعالى فيه خيرًا لمؤمنٍ غافل، ومُؤمنةٍ قد أخذتها رياح العصر إلى حيث لا ينبغي تؤخذ إليه.
عَنْ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا الأَنْصَارِيِّ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (عليه السَّلام)، قَالَ سَمِعْتُه يَقُولُ: “مَنْ سَرَّه أَنْ يَسْتَكْمِلَ الإِيمَانَ كُلَّه فَلْيَقُلِ الْقَوْلُ مِنِّي فِي جَمِيعِ الأَشْيَاءِ قَوْلُ آلِ مُحَمَّدٍ فِيمَا أَسَرُّوا ومَا أَعْلَنُوا وفِيمَا بَلَغَنِي عَنْهُمْ وفِيمَا لَمْ يَبْلُغْنِي”[28].
وكتبه..
السَّيد محمَّد بن السَّيد علي العلوي
يوم ذكرى وفاة الرسول الأكرم (صلَّى الله عليه وآله) 1444 للهجرة
البحرين المحروسة
……………………………
[1] – الآية 53 من سورة الأحزاب
[2] – الآية 51 من سورة الشورى
[3] – مقاييس اللغة، ابن فارس، مادَّة (قنع)
[4] – تاج العروس، محب الدين الحنفي
[5] – لسان العرب، ابن منظور
[6] – عيون أخبار الرضا (عليه السَّلام) – الشيخ الصدوق – ج 2 – ص 13 – 14
[7] – الكافي – الشيخ الكليني – ج 5 – ص 532
[8] – الكافي – الشيخ الكليني – ج 5 – ص 533
[9] – الاستبصار – الشيخ الطوسي – ج 2 – ص 123
[10] – الكافي – الشيخ الكليني – ج 5 – ص 520 – 521
[11] – الكافي – الشيخ الكليني – ج 5 – ص 521
[12] – ثواب الأعمال – الشيخ الصدوق – ص 282
[13] – قرب الاسناد – الحميري القمي – ص 82
[14] – الآية 31 من سورة النور
[15] – تفسير جوامع الجامع – الشيخ الطبرسي – ج 2 – ص 616 – 617
[16] – تفسير مجمع البيان – الشيخ الطبرسي – ج 7 – ص 241 – 242
[17] – تفسير الميزان – السَّيد الطباطبائي – ج15 – ص112
[18] – التحرير والتنوير – ابن عاشور – ج19 ص 208
[19] – الاحتجاج – الشيخ الطبرسي – ج 1 – ص 132
[20] – الاحتجاج – الشيخ الطبرسي – ج 1 – هامش ص 132
[21] – الخصال – الشيخ الصدوق – ص 9
[22] – حاشية ابن ادريس على الصحيفة السجادية (موسوعة إبن إدريس الحلي) – ابن إدريس الحلي – ص 17
[23] – معاني الأخبار – الشيخ الصدوق – ص 237 – 238
[24] – الكافي – الشيخ الكليني – ج 5 – ص 536 – 537
[25] – الكافي – الشيخ الكليني – ج 5 – ص 518
[26] – من لا يحضره الفقيه – الشيخ الصدوق – ج 3 – ص 561
[27] – من قول الشاعر: الأمُّ مدرسةٌ إذا أعددتها أعددتَ شعبًا طيِّبَ الأعراق
[28] – الكافي – الشيخ الكليني – ج 1 – ص 391