حِفظُ العِلمِ والعالِمِ.. مقالات في إجازة الرواية

بواسطة Admin
1 تعليق

 

حِفظُ العِلمِ والعالِمِ

مقالات في إجازة الرواية

السَّيد محمَّد بن السَّيد علي العلوي

 

 

المقال -1-

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على محمَّدٍ الأمين، مَسْنَدُ كُلِّ قول سديدٍ متين، مِنْهُ إلى الذكر المُبين، وعلى آله الطيبين الطاهرين، سيَّما بقيته من الأولين والآخرين، متَّصِلًا إلى قائد الغرِّ المُحَجَّلين، عليٍّ وكفؤه زهراء السماوات والأرضين.

المُكنَةُ البِنائِية في الإجازة الروائية

مُقدمة:

أمَّا بعدُ، فقد اهتَمَّ المُسلِمُونَ مُنذُ بدايات عصر الوحي بمسائل إسناد النصوص والوقائع إلى ناقليها، بحيث يحافظون على أسمائهم كمحافظتهم على المنقول، وبدا أنَّ الغاية المُحرِّكة كانت التوثق من الأخبار المنقولة من خلال حال الناقل، فإن كان من الثقات الصادقين، كان ذلك أقرب إلى تصديق خبره، وإن كان غير ذلك، تردَّد الأمر بين القبول والرد، حتَّى تُضَمَّ قرينة تساعد على الاقتراب من الحكم الأصوب.

قال أميرُ المؤمنين (عليه السلام): “إذا حدَّثتُم بحديثٍ فأسندوه إلى الذي حدَّثكم، فإن كان حقًّا فلَكُم، وإن كان كذِبًا فعليه”[1].

انتشر في الأوساط الخاصَّة والعامَّة أنَّ الغاية من الإسناد والاهتمام بالبحوث السندية هي الوقوف على المنقول من حيث القبول والرد.

قال المامقاني في مقباس الهداية: “غاية هذا العلم -يقصد علم الدراية- هو معرفة الاصطلاحات المتوقف عليها معرفة كلمات الأصحاب، واستنباط الأحكام، وتمييز المقبول من الأخبار ليُعمل به، والمردود ليُجتَنب منه”[2].

وعلى هذه الرؤية برزت في طرح وكلمات العلماء الغاية من عِلْمَي الدراية والرجال بشكل عام، والدراية بشكل خاص، ممَّا تسبَّبَ -كما أرى- في الغفلة عن أبعاد أخرى مهمَّة جدًّا تعطيناها حالة الإسناد، وما ضاعف عندي الباعث لكتابة هذه الورقة، كلمة للمُحدِّث البحراني (طاب رمسُه) قالها في سياق التصريح بالغاية التي دفعته لكتابة مُصنَّفه الشهير (لؤلؤة البحرين)، فقد قال: “لا ريبَ في أنَّ أخبَارَنَا المُودَعة في هذه الأصول السائرة في الاشتهار، سير الشمس في رابعة النهار – ولا سيما من بينها الأصول الاربعة التي عليها المدار، في جملة الأعصار والأمصار، وهي الكافي والفقيه والتهذيب والاستبصار – مِمَّا لا مدخل للإجازة الآن في تصحيحها، ولا ثمرة لها في تنقيحها، لبلوغها الصحّة والاشتهار، الى مرتبة لا تقبل الإنكار، كما نبَّه عليه جملةٌ من عُلَمَائِنَا الأبرار، رفع الله تعالى درجاتهم في دار القرار، إلَّا انَّه حيثُ جرى السلف والخلف في ذلك – تيمنًا وتبركًا – باتِّصال هذه السلسلة الشريفة، والمُعَنْعَنَةِ المَنيفة، بأهل الشرف والعصمة ومَنْ نُورُ هِدايَتِهم يبرأ الأكمه والأبرص، جرينا في ذلك على منوالهم، وحَذَوْنَا على تمثالهم، إسامةً لسرح اللحظ حيثُ أساموا، شَكَرَ اللهُ تعالى سعيهم فيما قعدوا فيه من تهذيب هذه العلوم وقاموا. (وقد أجزتُ لهما) – أدام الله علاهما، وكَثَّرَ في الفرقة الناجية شرواهما – جميعَ ما صَحَّتْ لي روايته عن مشايخي الأعلام، وثَبَتَتْ لديَّ درايتُه عن أساتيدي الكرام، رفع الله تعالى أقدارهم في دار السلام، من كُتُبِ أصْحَابِنَا في جميع العلوم، ومروياتهم ومجازاتهم ومسموعاتهم في كُلِّ مَفْهُومٍ مِنَّا ومعلوم، …”[3]

نعم، فإنَّ الإجازة في الرواية اليوم لا تدخل لا في التصحيح ولا في التنقيح، وهي بالفعل بركة ويُمن، وهذا مُتَحَصَّلٌ إن شاء الله تعالى بالكون الصادق في سلسلة إسنادية تنتهي إلى الإمام المعصوم (عليه السلام)، غير أنَّ كلمة أخرى للمحدِّث البحراني (علا برهانه) تشير إلى أنَّ نفس الإجازة كاشفة عن علو المنزلة العلمية للمجاز، وهذا بالرغم من عدم دخالتها في تصحيح الحديث.

قال: “وحيثُ إنَّ الولدين الأعَزَّينِ الفَاضِلَينِ، الكامِلَينِ، نُورَي العينِ والنَاظِرِ، وبُهْجَتَي القلبِ والخَاطِرِ، خلف  ابن أخي المُقَدَّس المَبْرُور الشيخ عبد علي، وحسين  ابن أخي الأمجد والأسعد الشيخ محمَّد – سلَّمهما الله تعالى وأبقاهما، وبعين عنايته حاطهما ورعاهما – مِمَّنْ فَازَا بالمُعَلَّى والرقيب من قِداح العلوم الفاخرة، وحازا أوفر نصيب من سنا جواهرها الزاهرة، مضافًا الى ما هُمَا عليه من الورع والتقوى، والتمسك بتلك العروة الوثقى، وَفَّقَهُمَا اللهُ تَعَالى للصعود الى غايتها العُليا، ونهايتها القصوى، وقد استجازاني – أمَدَّ اللهُ لهُمَا في العمر السعيد، ومَتَّعهما بالعيش الرغيد – قبل هذه الأيام، (فأجزتُ لهما) حيثُ رأيتُهما أهلًا لذلك المقام، …”[4].

من هنا يبرزُ مُؤيِّدٌ قويٌّ لِمَا أنا بصدد بيانه في هذه السطور؛ وهو دخول الإجازة الروائية في عمق البناء الثقافي والتنظيم الإداري للمجتمع؛ كما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى في عناوين خمسة:

  • الكاشفية العلمية وبُعد حِراسة العلم.
  • بناء النفسية المسؤولة.
  • التباني الثقافي والتقارب الفكري.
  • الترابط الاجتماعي، ووحدة القاعدة التربوية.
  • تقلص المسافات بين المدارس الفقهية والاجتهادية، وانحسار فُرص التقول.

أُشير إلى أنَّ عدم الالتفات من المجيزين والمُجازين إلى هذه المُستبطنات في إجازة الرواية والمترتبات عليها، لا تعني عدمها؛ فوجودها موضوعي فيها، سواء التُفِتَ إليه أم لا، ولو أنَّ العلماء والفضلاء يعيدون الروح للإجازة مع شيءٍ من الضبط، فإنِّي أتوقع لهذه الخطوة نتائج نوعية تنعكس في المجتمع على مختلف أصعدة الثقافة، والفكر، والوعي، والحكمة.

**************

  • الكاشفية العلمية وبُعد حِراسة العلم:

نلاحظ في عبارة الشيخ يُوسُف (طاب رمسُه) عنايته بالمستوى العلمي والمعرفي للمُجَازَين، إذ يقول في وصفه لهما، أنَّهما: “مِمَّنْ فَازَا بالمُعَلَّى والرقيب من قِداح العلوم الفاخرة، وحازا أوفر نصيب من سنا جواهرها الزاهرة، مضافًا الى ما هُمَا عليه من الورع والتقوى، والتمسك بتلك العروة الوثقى”، وجعل ذلك علَّة لإجازتهما، حيث قال قبلُ: “وحيث إنَّ الولَدَين الأعَزَّين …”، ممَّا يُظهِرُ اهتمامه كَمُجِيز بحال من يستجيزه، وبالتالي فالإجازة، وإن كانت من باب التيمن والتبرك، إلَّا أنَّها ليست من الترف، بل هناك ضوابط وموازين يلتزمها المُجِيزُون، وأرى التزامهم هذا لتقواهم في المحافظة على العلم وخصوصًا أصله الثابت، وهو حديث أهل البيت (عليهم السلام) وما يتعلَّق به، ويقُوم عليه من معارِف وعلوم.

يؤيِّدُ ذلك ما نراه عمومًا من مقامات علمية عالية للرجال الواقعين في سلسلة الإجازات الروائية، وهذا ما يجتهد في إحرازه المُجيِز قبل إجازة المُستَجيز، كيف لا، والدخول في سلسلة الرواة يُصَيِّرُ الداخِلَ جُزءًا مِنَ الظرف الحامل للحديث الشريف والعلم المُنيف، فكان فرضًا، لا نافلة، أن يتحمَّل المُجِيزُ مسؤولية التوثق من عِلم وفقاهة وورع وتقوى من يستجيزه.

هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإنَّ حديث أهل البيت (عليهم السلام) مُدوَّنٌ في الكتب، والكتب متاحة للجميع، ومن المهم أن ينفتِح الناسُ على ما ألقوا (عليهم السلام) من نور في صدور الرواة، إلَّا أنَّ هذا الانفتاح من الخطر أن لا يكون تحت رعاية وعناية رؤساءٍ أكِفَّاءٍ يُرجعُ إليهم في المُحكمات قبل المتشابهات، وفي الواضحات قبل المُشكِلات، حماية لهم من الأخذ بالتعسُّف الذي يأمر به الشيطان إضلًالًا لهم وإخفاتًا لنور الهداية في صدورهم، وكم رأينا ونرى من أمواج الشبهات وظلمات الفِتن تضرب برجلها في سوح المؤمنين، مثيرةً لغبار الجهل، مُعْمِيَةً لبصائر القلوب، بسبب داءٍ استشرى بين العباد، أمرَضَهم به أخذُهم ببعضٍ مِنَ الثقلينِ دُونَ بَعْضٍ، جهلًا منهم بالأسس التي يقوم عليها فهم النصوص، ومحورها المهارة في الجمع بينها بما ينتهي بالنظر إلى مفاهيم صحيحة واضحة.

قال أمير المؤمنين (عليه السلام): “إنَّ أمْرَنَا صَعْبٌ مُسْتَصْعَبٌ، لا يَحمِلُه إلَّا عَبْدٌ مُؤمِنٌ امْتَحَنَ اللهُ قَلْبَهَ للإيمان، ولا يَعِي حَديثَنَا إلَّا صُدُورٌ أميِنَةٌ وأحْلَامٌ رَزينَةٌ”[5].

وقال أبو جعفرٍ الباقر (عليه السلام): “إنَّ حَديثَنَا هذا تَشْمَئِزُّ مِنْهُ قلوبُ الرِجَالِ، فَمَنْ أَقَرَّ بِهِ فَزيدُوه، وَمَنْ أَنْكَرَهُ فَذَرُوه. إنَّه لا بُدَّ مِنْ أنْ تَكُونَ فِتْنَةٌ يَسْقُطُ فيها كُلُّ بِطَانَةٍ وَوَلِيجَةٍ، حَتَّى يَسْقُطَ فيها مَنْ كَانَ يَشُقُّ الشعرَ بِشَعرَتينِ، حَتَّى لا يبقى إلَّا نَحنُ وشِيعَتُنا”[6].

يوجِّه الإمامُ الباقِرُ (عليه السلام) خطابه لِسَمِيعٍ يعيه، ويعي هذا الإرشاد منه (عليه السلام) بِبَثِّ الحديث الشريف على وفق موازين خاصَّة، وقد بيَّن أمير المؤمنين (عليه السلام) صِفَتين للذي يُمكِنُه تحمُّل مسؤولية هذا المستوى من الوعي، وهما: أمانة الصدر، ورزانة الحلم. واللازم من هذا البيان أن يتوجَّه المؤمنون للأخذ عن مثل هؤلاء، فتُضبَط المشارب ويُنفَى كلُّ ذي جُرْأةٍ جهول.

رُبَّما تمكَّنَ البناء العِلمي الشيعي من إحراز تقدُّمٍ نوعي في مجال حمل مخصوص للأحاديث الشريفة والكتب العلمية المتينة، إذا ما توقفت الإجازة على ما يضبطه المُجازُ منها، فلا يُجاز في كتابٍ إلَّا من بعد ضبطه ضبطًا معرفيًا بمستوى معين، وإلَّا فيُجازُ فيما يضبطه منه، وهذا أمر في غاية الأهمية من جهات عِدَّة، منها إحكام الأساس العلمي في المجتمع، ومنها التقديم العِلِّي الموضوعي لتبانٍ ثقافي أشيرُ إليه في النقطة الثالثة إن شاء الله تعالى.

قد تُحَقِّقُ إجازة الرواية مستوىً من الحراسة الأمينة للإسلام؛ بتوجيه المؤمنين للأخذ عن حملتها، فتصير سورًا جامعًا طاردًا، ولا يُعتَنى بعد حينٍ بكلام هذا وذاك، فَنَسْلَم، ولو قليلًا، من الفِتن التي يثيرها من يبني الرؤى على حديثٍ أو أحاديث، دون النظر في غيرها من موجِّهات ومبينات، وقد قال أمير المؤمنين (عليه السلام): “فإنَّ أمْرَ النبيِّ (صلَّى اللهُ عليه وآلِهِ) مثل القرآنِ، ناسِخٌ ومَنْسُوخٌ، وخاصٌّ وعامٌّ، ومُحْكَمٌ ومُتَشَابَهٌ. قد كان يكون من رسول الله (صلَّى اللهُ عليه وآله) الكلامُ له وجهان: كَلامٌ عَامٌّ وكلامٌ خَاصٌّ، مثل القرآن، وقال الله عَزَّ وجَلَّ في كتابه: (مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا)[7]، فَيَشْتَبِهُ على مَنْ لَمْ يَعرِف ولَمْ يَدْرِ ما عَنَى اللهُ بِهِ ورسُولُه (صلَّى اللهُ عَليِهِ وآلِه”[8].

  • بناء النفسية المسؤولة:

يَقَعُ المُجازُ بالإجازة في سلسلة من الرجال يقومون مقام الظرف الحامِل لِكَلَامٍ نُورِي مُقدَّس قد جعله اللهُ تعالى عِدل القرآن الكريم، فعن جابِرٍ، قال: “قال أبو جَعْفَرٍ (عليه السلام): دعا رسولُ الِله أصحابَهُ بِمِنَى، قال: يا أيُّها الناسُ، إنِّى تَارِكٌ فيكم الثقلين، أمَا إنْ تَمَسَّكْتُم بِهِمَا لن تَضلُّوا، كِتَابَ اللهِ وعِتْرَتِي أهل بيتي؛ فإنَّهُمَا لن يَفْتَرِقَا حَتَّى يَرِدَا عَليَّ الحوض”[9]. فإن كان، وهو كذلك إن شاء الله تعالى، صادِقًا مُخلِصًا مُتَّقيًا ورِعًا، فإنَّه يُؤدِّبُ نفسَه بِما يجعلها في لياقةٍ دائِمةٍ لِتَحمُّل هذه الأمانة العظيمة، كما ومن خلال ممارسة الحديث، والاستمرار على تأمُّلِ معانيه وتدبُّر مضامينه الشامخة، يكتَسِبُ درجات عالية من الحِكمَة في التعامل مع الناس وحملهم على الطريقة المُثلَى دون دَفْعٍ يُنفِّرُهم، ولا إهمالٍ يُبلِّدُهم.

نعم، قد تكون الإجازة عِلَّة في إحداث هذه الحالة من الشعور بالمسؤولية تجاه حمل هذا الدين العظيم ورعاية النفس مقدَّمة للعناية بأيتام آل محمَّد (صلَّى الله عليه وآله)، وقد جاء عن سيِّدَتِنا الزهراء (عليها السلام)، أنَّها قالت: سمِعتُ أبي رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) يقول: “إنَّ عُلَمَاءَ شِيعَتِنا يُحْشَرُونَ فَيُخْلَع عليهم من خلَعِ الكَرَامَات على كَثْرَةِ عُلُومِهِم وجِدِّهِم في إرْشَادِ عِبَاد الله، حَتَّى يُخْلَعَ على الوَاحِدِ مِنْهُم ألف ألف حلَّة مِنْ نُورٍ، ثُمَّ يُنَادي مُنَادي ربنا عَزَّ وَجَلَّ: أيُّها الكافِلُونَ لأيتَامِ آلِ مُحَمَّدٍ (عليهم السلام)، النَاعِشُونَ لهم عِنْدَ انْقِطَاعِهِم عن آبائهم الذين هم أئمتهم، هؤلاء تلامِذَتُكُم والأيتَامُ الذين كَفَلتُمُوهم ونَعَشْتُمُوهم، فاخلعوا عليهم خلع العلوم في الدنيا، فيخلعون على كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أولئِكَ الأيتام، على قدر ما أخذوا عنهم مِنَ العلوم”[10].

غير أنَّ المقام ربَّما افتقر إلى عِلَّةٍ إبقاء واستمرار، وهذا ما يُفترض أن يقوم به المُجيزُون والمُجازُون فيما بينهم من باب وجوب التواصي بالحق والصبر بين المؤمنين، ويكون هذا بمثابة الرقابة الداخلية التي يحتاجها مع نفسه كلُّ لبيبٍ ذي عقلٍ حصيف، وقد قال تبارك ذكره في الكتاب المجيد (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ)[11]، فبان أنَّ التذكير لانتفاع المؤمنين بالذِكرى مطلقًا، ومن هنا جاءت الوصية الإلهية بها في قوله تعالى (إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ)[12].

المتحصل هنا أنَّ المرجو من الإجازة في الرواية أن تكون مصدَرًا لعناية حملتها بأنفسهم والاهتمام بالاستمرار على طريقة المراجعة والتقويم بما يديم لياقتهم لتحمل هذه الأمانة المُقَدَّسة.

  • تقلص المسافات بين المدارس الفقهية والاجتهادية، وانحسار فُرص التقول:

تتشكَّلُ التوجهات الفِكرية بحسب الاختلاف في المباني والرؤى، وهذا يرجع في الغالب إلى الظروف السياسية والاقتصادية التي يعيشها الإنسانُ فردًا وجماعةً، ولذلك نرى في نفس المجتمع الواحد الذي يرجع إلى مشرب ثقافي واحد، من يتبنى طريقة، وأخر يذهب إلى ما يُعاكسها تمامًا؛ والسبب انفراد كلِّ واحد منهما بقراءة الإرث المُقدَّس تحت تأثير ظروفه الخاصة.

نلاحظ في الحزب الواحد امتدادًا ثقافيًا بصبغة واحدة على مدى عقود من الزمن، وإن حدثت انقسامات في داخل نفس الحزب، إلَّا أنَّ اللون لا يزال واحدًا؛ فالأمر على أيَّة حال يرجع إلى أدبيات الحزب!

لماذا لا نرى هذه الحالة في تحكم المجتمع الشيعي؟

لو أنَّ المجتمعَ يَتَحَرَّك في داخل الإطار القيادي لرجال الإجازة لتقلَّصت درجات التفاوت في الأفهام والرؤى؛ إذ أنَّ المُجاز لا يُجاز ما لم يحضر عند المُجيز ويُقيم البينة على ضبطه الصحيح للكتاب الذي هو بصدد استجازة الشيخ فيه، هذا والناس -بحسب فرضنا- لا يسمعون من غير المُجاز، فكلَّما تقارب مشايخ الإجازة من بعضهم البعض، كلَّما تلاشت التيارات والتوجهات المتأثرة بالأجواء السياسية والاقتصادية وما شابه، فتكون الإجازة في الرواية حاميًا قويًا يحمي العلماء من الوقوع تحت تأثير الظروف المتغيرة والمُبعِدة غالبًا عن مقاصد السماء.

ولا شكَّ في أنَّ هذا التراص بين العلماء، والارتباط العلمي والمعرفي للناس بهم، يُقلِّصُ فُرصَ التسلق والكذب والإضلال أمام صبيان المنابر كما في خطبة رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) حول أشراط الساعة، إذ يقول منها: “ويعلو الصبيان على المنابر”[13]، وقد أشرتُ في بعض الكتابات السابقة إلى أنَّ الصبيان لا يُقصد بهم صغار السن، بل من يفعل أفعالهم ويفكر مثلهم.

  • التباني الثقافي والتقارب الفكري:

تمتدُّ سلسلةُ الإجازة لتستوعب مناطق متباعدة من مواطن العلماء والمؤمنين، من جزيرة المنامة إلى الأحساء والقطيف والمدينة المنورة، إلى العراق وإيران وسوريا وجبل عامل في لبنان، استمرارًا لضمِّ مناطق من الهند وباكستان وأفغانستان..

لا تتوقف المسألة على مُجرَّدِ الاتصال السندي بما هو اتصال، بل يتعدَّاه إلى المظروف العلمي، فلو كانت الإجازة -مثلًا- في رواية كتاب (كمال الدين وتمام النعمة) للشيخ الصدوق (رضوان الله تعالى عليه)، فبالنظر إلى ما أشرتُ إليه في النقطة الأولى، بعدم الإجازة إلى فيما يضبطه المُجاز، فإنَّ المُجازين على امتداد سلسلة السند واستيعابها لمختلف المناطق الجغرافية على وجه الكرة الأرضية يشتركون حينها في أرضية ثقافية خاصَّة أوجدها ضبطهم للكتاب المذكور وإجازتهم في روايته، وبالرجوع إلى إشرافهم العلمي على جمهور المؤمنين فإنَّ هذه الأرضية المشتركة تنعكس فيهم كما هي في رواة الحديث من المُجازين.

أفهم جيِّدًا بأنَّ المسألة ليست بهذه السهولة، غير أنَّها ليست صعبة في حال أولى رجال الإجازات أولوية في العناية بمقتضيات تحمل مسؤولية الكون فيها، فبدل أن تقام مؤتمرات للتقريب بين الرؤى ووجهات النظر، يُقيمُ رواة الحديث والكتب مؤتمرات لبلورة رؤاهم ووجهات نظرهم المتقاربة، وشتَّان بين أولئك وهؤلاء.

ليس الحديث عن رواية أو كتاب، بل عن كتب حديث وكتب علم، كلَّما ارتفع مستوى ضبطها عند روايتها، كلَّما عمَّ الخير بين المؤمنين، خصوصًا وأنَّ هذه الحالة تجعل التفاهمات بينهم سهلة يسيرة؛ إذ أنَّ السمة، والحال هذه، قيام تبانيات ثقافية وفكرية على نور الثقلين المُقدَّسين، الكتاب والعترة. وأيُّ غاية أسمى من هذه الغاية؟

  • الترابط الاجتماعي، ووحدة القاعدة التربوية:

إذا استقرَّ البناء الثقافي على متانة الأرضية التي توفرها الإجازة في الرواية بحسب ما تقدَّمت الإشارة إليه، فإنَّنا حينها لا نُشيرُ بإفراط إلى مجتمع بحراني يختلف في كثير من مفاصِله عن مجتمع إيراني، فيشعر هذا المجتمع بحالة من الرفض لما ترده من ثقافات المجتمع الآخر. أعتقد بأنَّ حالة التباني الثقافي والفكري التي أشرت إليها في النقطة السابقة تُقلِّص المسافات بين المجتمعات الشيعية الموالية التي تتمتع بنعمة الإجازة في الرواية وتُقدِّرُ سمو منزلتها في الحسابات الفكرية النفسية والاجتماعية.

نرى منذ زمن بعيد محاولات الأمم لتحقيق هذا النوع من الترابط الاجتماعي من خلال توحيد الثقافات ما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا، بل إنَّهم ابتكروا منهاج علمية خاصة لخدمة مشروع عولمة الفِكر، في الوقت الذي كان الأمر يكفيه قليل التفات منَّا للوقوف على الأهمية الكبرى للإجازات الروائية؛ فهي عولمة طبيعية للثقافة والفكر المبني عليها من منطلقات إسلامية متينة وازنة.

لا شكَّ في أنَّ هذا المستوى من التقارب الاجتماعي المعلول للمشتركات الثقافية الراجعة لضبط المشارب المعرفية من رجال الإجازة، يُحقِّقَ، ربَّما بالملازمة، وحدة تربوية تمتلك القادرة الحاكمة على التحولات الثقافية في مختلف المناطق والبلدان، وهذا يُقدِّمُ لتقارب ثقافي بين صغار وشباب الشيعة على تعدُّد انتماءاتهم الجغرافية، ولهذه الحالة أثرها الإيجابي حتَّى في رفع نسبة علاقات الزواج بين رجال ونساء من مناطق مختلفة؛ ببركة وحدة البناء التربوي المعلولة في الأصل العلمي إلى الإجازة الروائية.

كلمة الختام:

قد يتمكن المختصون في بعض العلوم الإنسانية، وخصوصًا علمي النفس والاجتماع، من الوقوف على أهمية الإجازة الروائية وما تحمل من مُكنَة إبداعية رائدة في التأسيس والبناء لمجتمع متماسك وعلى مستويات عالية من الوعي والاستقرار، فما كتبته في هذه الورقة مجرَّد رؤوس أقلام بقلَّة ما أعلم، ولو أنَّه يحظى باهتمام المختصين من المؤمنين، لرُبَّما تُحدِثُ الجهود حينها منعطفَ نهضةٍ عزيزٍ في مسير الأمَّة الإسلامية نحو دولة الحق العليا تحت راية بقية الله الأعظم، مولانا الإمام المهدي بن الحسن (أرواحنا فداه).

أرجو من سادتي العلماء وطلبتهم من المُجدِّين والنابهين، التفضل بتأمُّل المسألة، والحذر من الوقوع في مقولة التكسير الكبرى، والتي اشتهرت أيمَّا اشتهار في أزماننا المتأخرة، وأعني: مقولة: المثالية!

فنحن، وبكلِّ فخرٍ، مثاليون، نَتَرَفَّعُ عن الوقوع في مستنقعات الواقع المصنوع بأيادي الشياطين، ونمضي دائِمًا وأبدًا إن شاء الله تعالى على طريق العاملين في الارتفاع إلى عالم المُثُل الذي أراده لنا الثقلان المُقدَّسان، ولا يعني ذلك التنكر للواقع الفعلي، بل من الواجب المتعين دراسته وفهمه، مقدِّمةً للمساهمة في تغييره بحسب ما يريد الله تعالى، (وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاء الأَوْفَى * وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى)[14].

هذا، والحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على محمَّدٍ وآله الطيبين الطاهرين.

 

السيد محمَّد بن السيد علي العلوي البحراني

12 صفر 1439 للهجرة

……………………………..

[1] الكافي – الشيخ الكليني – ج 1 – ص 52

[2] مقباس الهداية في علم الدراية – الشيخ المامقاني – ج 1 ص 41

[3] لؤلؤة البحرين في الإجازات وتراجم رجال الحديث – الشيخ يوسف البحراني – ص 7/ هو كتاب ألَّفه في بيان شيءٍ من أحوال الرجال الواقعين في سند إجازة الرواية التي وصلها من جهته مُجِيزًا بابني أخويه، الأول: الشيخ خلف بن الشيخ عبد علي، والثاني: الشيخ حسين محمَّد.

[4] المصدر السابق ص6

[5] نهج البلاغة – خطب الإمام علي (ع) – ج 2 – ص 129

[6] بصائر الدرجات – محمد بن الحسن الصفار – ص 43

[7] الآية 7 من سورة الحشر

[8] الكافي – الشيخ الكليني – ج 1 – ص 63 – 64

[9] بصائر الدرجات – محمد بن الحسن الصفار – ص 433

[10] مستدرك الوسائل – الميرزا النوري – ج 17 – ص 318

[11] الآية 55 من سورة الذاريات

[12] الآية 3 من سورة العصر

[13] مستدرك الوسائل – الميرزا النوري – ج11 ص372

[14] الآيات 39 – 40 – 41 من سورة النجم

…………………………………………………..

القال -2-

دَورُ الإجَازَاتِ الرِوَائِيَّة في وَعي وحِفْظِ وصِيَانَةِ العِبَاد

 

مقدمة:

عُرِّفَتْ الإجازة في الرواية بأنَّها: “الكلامُ الصَادِرُ عَنِ المُجِيز، المُشْتَمِل على إنشائه الإذن في رواية الحديث عنه، بعد إخْبَارِهِ إجْمَالًا بمروياته، ويُطْلَقُ شَايعًا على كتابة هذا الإذن المشتملة على ذكر الكُتُب والمصنفات التي صَدَرَ الإذنُ في روايتها عن المجيز إجمَالًا أو تَفْصِيلًا، وعلى ذكر المشايخ الذين صدر للمجيز الإذنُ في الرواية عنهم، وكذلك ذكر مشايخ كلِّ واحدٍ من هؤلاء المشايخ طبقةً بعد طبقةٍ إلى أن تنتهي الأسَانيدُ إلى المعصومين (عليهم السلام)”[1].

لا يعني ذلك أنَّ من لا يُجازُ في الرواية يُمْنَعُ منها، إلَّا أنَّ الاعتبار العلمي للمُجَاز؛ فهو من جهةٍ قد حاز على ثقة من أجازه، ومن جهةٍ أُخرى يكون حضورُه بين الخاصَّة والعامَّة حضورَ مُتحمِّلٍ ضابطٍ للحديث الشريف، فيكون مُلمًّا بحيثياته التي لا يقف عليها العالِمُ ما لم يُحِط بالأحاديث الشريفة إحاطة دراية وفهم وضبط، وما لم يُقابِل بين النُسخ ويكون ذا قدرة على ترجيح الوجوه، خصوصًا عندما يتردَّد اللفظ الحديثي بين احتمالين أو أكثر.

مِثال:

روى الكليني (طاب رمسه) “علي بن إبراهيم، عن محمَّد بن عيسى بن عبيد، عن يونس[2]، عن هشام بن سالم، قال:

سَألَ خَطَّابُ الأعورِ أبا إبراهيم (عليه السلام) وأنا جَالسٌ، فقال: إنَّه كانَ عِنْدَ أبي أجِيرٌ يَعْمَلُ عِنْدَهُ بالأجر فَفَقَدْنَاهُ، وبَقِيَ لَهُ مِنْ أجْرِهِ شَيءٌ، ولا نَعرِفُ له وَارِثًا.

قال: فاطلبوه.

قال: قد طلبناه فلم نجده.

قال: فقال: مساكين، وحَرَّكَ يَدَيه.

قال: فأعَادَ عليه.

قال: اطلبْ واجهدْ، فإنْ قَدَرْتَ عَليهِ وإلَّا فَهُوَ كسبيل مَالِكَ حَتَّى يَجِيءُ لَهُ طَالِبٌ، فإنْ حَدَثَ بِكَ حَدَثٌ فَأوصِ بِهِ إنْ جَاءَ لَهُ طَالبٌ أنْ يُدْفَعَ إليهِ”[3].

وقال الشيخُ الصدوقُ (طاب رمسُه): “رَوَى صفوانُ بن يحيى، عن عبد الله بن جندب، عن هشام بن سالم، قال:

سَألَ حفصُ الأعور أبا عبد الله (عليه السلام) وأنا حَاضِرٌ، فقال:

كان لأبي أجيرٌ، وكان له عنده شيءٌ، فهلك الأجيرُ، فلم يَدَعْ وارِثًا ولا قَرَابَةً، وقد ضقتُ بذلك، كيف أصنع؟

فقال: رابَكَ المسَاكين [رابك المساكين].

فقلتُ: جُعلتُ فداك، إنِّي قد ضقتُ بذلك، كيف أصنع؟

فقال: هو كسبيل مالِكِ، فإنْ جَاءَ طَالِبٌ أعطيتَهُ”[4].

وقال الشيخ الطوسي (طاب رمسُه): “عنه[5]، عن محمَّد بن زياد، عن هشام بن سالم، قال:

سَألَ حفص الأعور أبا عبد الله (عليه السلام) وأنا عِنْدَه جَالِسٌ، قال:

إنَّه كان لأبي أجيرٌ كان يقوم في رحاه، وله عندنا دراهم وليس له وارثٌ.

فقال أبو عبد الله (عليه السلام): تدفع إلى المساكين.

ثُمَّ قال: رأيك فيها. ثُمَّ أعاد عليه المسألة، فقال له مثل ذلك. فأعاد عليه المسألة ثالثة، فقال أبو عبد الله (عليه السلام):

تطلب له وارثًا، فانْ وجدتَ له وارثًا وإلَّا فهو كسبيل مالِكِ.

ثُمَّ قال: ما عسى أن تَصْنَعَ بها؟ ثُمَّ قال: تُوصي بها، فإنْ جَاءَ لها طَالبٌ وإلَّا فهي كسبيل مالِكِ”[6].

روى هذا الحديث الشريف، بحسب هذه الموارد الثلاثة، ثلاثةٌ عن هشام بن سالم، هم: يونس بن عبد الرحمن، وعبد الله بن جندب، ومحمَّد بن زياد، فيما اختلفت ألفاظه وتراكيب جمله كما هو واضح. هذا والحال أنَّ الظاهر كون الحادثة واحدة.

المشكلة التي نواجهها بشكل عام، أنَّ مثل هذه الأحاديث، وهي كثيرة في كتبنا، لا تحظى بالعناية التحقيقية اللازمة ما لم تكن من أحاديث الأحكام. ولا أقصد هنا الكتب المُحقَّقة، بل أقصد دخول التحقيق في تكوين شخصية طالب العلم، وهذا هو المهم، بل هو الأهمُّ من تحقيق الكتب تحقيقًا تخصُّصيًّا أكاديميًا، وهو ما يُفسِّرُ قولنا بأنَّ الغاية من الإجازة في الرواية ليست حفظ الكتب وضبط أحاديثها فحسب، فهذه ليست إلَّا واحدة من غايات أخرى تدخل في صُلب تكوين الشخصية العلمية النوعية لطالب العلم.

هناك عمل تحقيقي جادٍّ في مراكز ومؤسسات تخصصية على مستويات عالية من العلمية والتقنية، إلَّا أنَّ هذا لا علاقة له بما نحن فيه؛ فالذي نسعى إلى توضيحه في بعض جوانب هذه المقالة هو حاجة طالب العلم إلى النشوء العلمي على أسس تحقيقية تُكَوِّنُ عقليته، فلا يقتصر مع هذه العقلية على تحقيق كتب الحديث، بل يتوسَّع إلى سائر الكتب الدراسية، وخصوصًا الفقهية منها.

ثَمَّة مشكلة أخرى تعرض هنا، فالإحاطة العلمية المطلوبة قد تُدَّعى بحفظ وتكرار بعض الأقوال المنقولة عن أهل السبر والتحقيق، وهذا مُشكِلٌ عظيم، تدفعه، إلى حدٍّ جيِّد، الإجازةُ في الرواية.

فلنتأمَّل جيِّدًا..

في إجازة الشيخ محمَّد بن أبي جمهور الأحسائي للسيد الفاضل محسن الرضوي في رواية كتابه (غوالي اللئالي)، قال:

“وقد أجزتُ له الكتاب المذكور وجميع ما هو فيه مزبور ومسطور بطريق السماع منِّي..” إلى أن قال: “وكان سماعه سماع العالم العارف، وتلقيه له تلقي الفاهم الواقف على ما اشتمل عليه من أسرار الروايات الصادرة عن أطايب البريات..”، وقال: “وقد سأل وقتَ سماعه منِّي وروايته عنِّي عن جميع مشكلاته وفحص بذهنه الذكي عن سائر معضلاته ومبهماته، فأجبتُه عن كلِّ ما سأل عنه وفحص عن معناه بجواب شاف، وأوضحتُ له ما تغطَّى عليه بإيضاح حسن واف، وبينتُ له ما خفي منه ببيان كامل ضاف..”[7].

لقد حقَّقتْ هذه الإجازة جانبًا مهمًّا من الاعتبار الضروري لشخصية المُجَاز، ناهيك عن ما تُظهره من علو كعب المُجِيز وهيمنته العلمية الحقيقية على ما أجاز فيه، وكلُّ هذا ينعكس فوائدَ مهمَّة وخصالَ حسنة في المجتمع.

قال الشيخ علي بن الشيخ حسن البلادي البحراني (علا برهانه): “حدَّثني بعضُ الصالحين الثقات من أهل البحرين عن سلفهم الأقدمين، أنَّه كان في الزمن القديم في البحرين أنَّ الرجل من أهل السوق والتجَّار يكون عنده العبد المملوك فيراه ليلة من الليالي ربَّما غفل عن صلاة الليل لنومٍ أو غفلةٍ، فيُصبِح ويأمر الدلَّال أن يبيعه، فيقول له جيرانُه من أهل السوق: لِمَ تَبِع مولاك ولم تر منه إلَّا الصلاح والطاعة؟

فيقول لهم مولاه: إنَّه البارحة لم يُصلِّ صلاة الليل، وأخاف أن تكون له عادة، فرُبَّما يقتدي به بعضُ العِيال فلا يُصلِّي صلاة الليل. فإذا سمعوا[8] ذلك منه صار[9]عندهم عيبًا، فيأمرون بإخراجه من البحرين وبيعه في غيرها من البلدان”[10].

لا شكَّ في أنَّ لانتشار العلماء الصالحين في البلاد الدور الأبرز في صلاح العِباد، وقد ذكر الشيخ البلادي عن جدِّه أنَّ بيتهم “وحده اجتمع فيه أربعون عالِمًا بين مجتهدٍ ومشرفٍ على الاجتهاد في عصر واحد من الأعصار”، كما ونقل عن الشيخ علي ابن الشيخ محمَّد المقابي أنَّه “قد اتَّفَقَ أنَّ فاتحةً أقيمت لبعض أشخاص البحرين في مسجدها المُسمَّى بالمشهد ذي المنارتين، فاتَّفَق فيها حضور ثلاثمائة أو يزيدون من العلماء الأفاضل في وقت من الأوقات”[11]، وكان (طاب رمسُه) في معرض ذكر بعض الشواهد على الدرجات العالية من الإنصاف والتقوى والإعراض عن الدنيا لعلماء البحرين في تلك الحقبة الزمنية.

الوثاقةُ والتواثق:

عندما يُجاز أحدُ العلماء في رواية كتاب معين، فهذا يعني ظَفَرَهُ بثقة من أجازه من العلماء، وهي ثقة تتوسَّع مع كلِّ إجازة يُجاز بها عالم ثُمَّ يمُدُّها مستطيلةً فيجيزُ غيره، وقد عرفنا أنَّ الإجازة ليست سهلة المنال، وذاك لكونها شهادةً من المُجيز للمجاز، لا بالعلمية وحسب، بل بالنباهة والفهم، والفحص والتدقيق، وهذا ما يوقفنا على المسؤولية العظيمة التي يتحمَّلها المُجيز، ولذا، قال الشيخ إبراهيم من سليمان القطيفي (علا برهانه) في إجازته للشيخ شمس الدين محمَّد بن تركي (رحمه الله):

“إنَّ ممَّن يُعاني العلمَ ودراسته، ويُحلِّي بالبحث ومصادمته، والمسائل ومقاومته، واستعدَّ لاقتباس الأحكام من الكتاب، واستنباط الفروع الفقهية من المورد المستطاب، وأشغل أوقاته بطلب الواجب عليه، ولم تَتُقْ نفسُه إلى ما يَميلُ ذو الرياسات إليه. ذو الأخلاق الزاكية، والشيم المرضية، والسيرة الرضية؛ الشيخ الفاضل، بل العالم العامل الورع التقي، الشيخ شمس الدين محمَّد بن تركي (أخلص الله أعماله لوجهه)”[12].

نلاحظ الشيخَ القطيفي (رحمه الله) وهو يُؤكِّدُ على جانبين مُهمَّين من الجوانب الشخصية لمن هو بصدد إجازته في الرواية؛ الجانب التحصيلي، والجانب الأخلاقي، وهذا أمرٌ مُتَكَرِّرٌ، نجده بوضوح في الكثير من الإجازات الروائية، ومنها ما قدَّم به المُحدِّث البحراني الشيخ يُوسف بن الشيخ أحمد آل عصفور (علا برهانه) في إجازته لولدي أخويه حسين وخلف؛ إذ قال:

” وحيثُ إنَّ الولدين الأعَزَّينِ الفَاضِلَينِ، الكامِلَينِ، نُورَي العينِ والنَاظِرِ، وبُهْجَتَي القلبِ والخَاطِرِ، خَلَفَ  ابن أخي المُقَدَّس المَبْرُور الشيخ عبد علي، وحُسَينَ  ابن أخي الأمجد والأسعد الشيخ محمَّد – سلَّمهما الله تعالى وأبقاهما، وبعين عنايته حاطهما ورعاهما – مِمَّنْ فَازَا بالمُعَلَّى والرقيب من قِداح العلوم الفاخرة، وحازا أوفر نصيب من سنا جواهرها الزاهرة، مضافًا الى ما هُمَا عليه من الورع والتقوى، والتمسك بتلك العروة الوثقى، وَفَّقَهُمَا اللهُ تَعَالى للصعود الى غايتها العُليا، ونهايتها القصوى، وقد استجازاني – أمَدَّ اللهُ لهُمَا في العمر السعيد، ومَتَّعهما بالعيش الرغيد – قبل هذه الأيام، (فأجزتُ لهما) حيثُ رأيتُهما أهلًا لذلك المقام، …”[13].

إنَّ الثقة المتبادلة، آنذاك، بين المُجيز والمُجاز ثقةٌ عن تتبع أحوالٍ، لا لعمومات حُسن الظنِّ بالمؤمن، ما يُقرِّبُ بينهما خُلُقًا وعِلمًا، فيصيران، ومن تمتد فيهم الإجازات، لعموم المؤمنين وِحْدَةً واحِدَةً كالبنيان المرصوص يركنون إليه ويستظلون فيئه، ويظهر ذلك في استيعاب علماء ذاك العصر لبعضهم البعض بصدور واسعة وعقول راجحة وأفهام ذات آفاق عالية، فنجد الأخْبَاريَّ وقد اختار تلميذٌ له المسلك الأصولي، والأصوليَّ وقد نحى أحدُ تلامذته المنحى الأخباري؛ فالأمر، أوَّلًا وأخيرًا، يرجع إلى التقوى أخلاقًا وسلوكًا، والعلم تحصيلًا واشتغالًا، وما بينهما من تفاوت واختلاف مُضْبَطٌ بِهِمَا.

لا شكَّ في أنَّ مجرَّد الإجازة في الرواية لا تُنتِّج مجتمعًا علميًا نوعيًا، ولكنَّها المُحَدِّدُ والمعيارُ الاعتباريُّ للعالِم؛ لتضمنها شهادة من المُجيز إلى المُجاز بالوثاقة وعلو الأخلاق وقوَّة التحصيل.

نعم، تقع بين العلماء نِزَاعاتٌ ومُصادماتٌ، ويتعرَّضُ بعضُمهم إلى تشنيعات العوام. وممَّا جاء في ذلك استنصار الشيخ أحمد آل عصفور (والد صاحب الحدائق) الشيخ عبد السماهيجي، وعتابه عليه للتراخي في ما دعاه إليه، قال:

“على أنَّ المُحِبَ قد صار عليه من الشناع ما طبَّقَ جميع الأصقاع، من السباب والشتم وفظيع الكلام ما هو أشدُّ من الأمراض والأسقام من سفهاء بني جمرة، وقد سَمِعَتْ أُذنُكَ وغيرُكَ مرَّةً بعد مرَّةٍ، وكرَّةً بعد كرَّةٍ، ونقلتُ لك كما نقلتُ لغيرك أخبارهم واطَّلعتَ على أفعالهم وتصانيف أشعارهم، بحيثُ لا يمكن ولا يسوغ إنكاره من أحد؛ لِعِظَمِ انتشاره واشتهاره، وها هم إلى الآن يتلون صحائفَ أورادهم بالسباب في جميع أوقاتهم وأيَّامهم، …”[14].

لم تكن مثل تلك الحوادث لمعايب عرضتْ ولحقتْ بالعلماء وأهل الفضل، بل هي لِفِتَنٍ مفتعلةٍ كان لها نحو اقتضاءٍ في حصول نزاعات ومصادمات، فبلادنا البحرين لم تسلم من التخريب إلَّا في أوقات متقطعة. قال المُحدِّثُ البحراني (علا برهانه): “حالتِ الأقضيةُ والأقدارُ بخراب بلادنا البحرين بمجيء الخوارج إليها، وترددهم عليها حتَّى فتحوها قهرًا، وجرى ما جرى من الفساد، وتفرَّق أهلُها منها في أقطار كلِّ بلاد”[15].

أمَّا ما يشجرُ بين العلماء فكان يبقى في الغالب بينهم، ولا يكونون بين الناس إلَّا كما كان أمثالهم في مسجد المشهد ذي المنارتين، وكذا الناس فواقعهم التدين والطاهرة، وإنَّما يتعكَّر صفو المياه بما يثيره الأبالِسَةُ والشياطينُ رجالًا وركبانًا. وكيف كان، فالمقام لا يناسبه الاستطراد، وإلَّا فتاريخ أرضنا الطيبة يستحقُّ الدفاع عنه طردًا للكثير من التوهمات الملتصقة ببعض الأفهام، ويكفي أن أُشيرَ مُؤكِّدًا على أنَّ أولادَ هذه الأرض عيونٌ في العذوبة والنقاء.. نَخلٌّ في الشموخ والعطاء.. بحورٌ في ما يحملون في صدورهم من لؤلؤ ومرجان.. هم في سجاياهم من سِنخ أرضهم النابضة بالطيب والصلاح.

تأكيد الرسوخ العلمي للمُجِيز:

طلبُ العلمِ ليس وظيفة كسائر الوظائف التي يلتزم فيها الناس بدوامٍ مُحدَّد إلى سِنٍّ مُعين، بل هو اشتغالٌ دائمٌ ومستمِرٌّ بالتحصيل، دون كللٍ ولا مَللٍ إلَّا في الحدود الطبيعية، ولذلك نرى العلماء في امتزاجٍ فريد بالكتاب قراءةً وتحبيرًا، ولأنَّ المُجِيزَ يتحمَّلُ مسؤولية الأمانة والاستئمان العلميين، نقف على تضاعف اهتمامه بتتبع وقراءة كتب وبحوث ورسائل من يقع بينهم متوسطًا، وأقصد مشايخه من جهة ومُجِيزِهم من جهة أخرى، وهذا ما يذكره المُحدِّثُ البحراني (نوَّر الله مرقده) في الكثير من المواضع عند ترجمته للعلماء في لؤلؤته النفيسة بما يُظهر وقوفه ما استطاع على كلِّ مُصنَّفٍ وميزاته.

يُفضِي هذا السمتُ العلميُّ إلى أمرين مُهمَّين:

الأوَّل: تَكَوُّن تبانياتٍ علميةٍ تتسع وتتعمق وترتفع في مدارات وآفاق الترامي العلمي والمعرفي للكتب التي تقع موضوعًا للإجازة، وهذا محورٌ أساسٌ في التقارب والتفاهم الثقافيين والفكريين بين العلماء، ما ينعكس في العِباد أدبًا عاليًا وأدبيات وازنة.

الثاني: ظهور المدرسة العلمية في مقامها الصحيح، فلا يَتَّخِذ أحدٌ قرارًا بطلب العلم التخصُّصي إلَّا أن يكون على مستويات عالية من الاستعداد الذهني والنفسي والسلوكي.

ثُمَّ وممَّا يبتني على ما تقدَّم، الاعتبار الكبير والمهم الذي يُكسِبُه المُجيزُ للمُجَاز، فإنَّ الإجازات القائمة على أُسس التقوى والعلم، في القوَّة التي تتمتَّع بها شهادة الفقيه المُجتَهِد لعالِم بالفقاهة والاجتهاد، والفرق أنَّ الثانية تشترط الحصول الفعلي لملكة الاجتهاد في نفس العالِم، بينما تشترط الإجازة في الرواية التلبُّس الحقيقي لطالب العلم بمبدأ التحصيل الخاص، لا مطلق التحصيل.

الوقوع المعنوي للإجازة:

لا شكَّ في أنَّ من أهمِّ ما لا يُتسَامح فيه مع طالب علوم آل محمَّد (عليهم السلام) قوَّة وجدِّيَة استشعاره لخطورة موقعه كطالب علم، فلا يكون تأخيره للصلاة عن أوَّل وقتها أقلَّ من كارِثةٍ، ولا يُعدُّ استعجاله في أداء الفرائض على غير روية وتدبر أهون من مصيبة، فهو على مَسلَكٍ جاء فيه من النصوص الشريفة ما لم يجيء في غيره..

عن أبي عبد الله (عليه السلام)، عن أبيه (عليه السلام)، قال: قال رسولُ اللهِ (صلَّى الله عليه وآله):

“من سَلَكَ طريقًا يطلبُ فيه علمًا سَلَكَ اللهُ تعالى بِهِ طريقًا إلى الجنَّة، وإنَّ الملائكةَ لَتَضَع أجْنِحَتَها لطالبِ العلم رضًا بِهِ، وإنَّه ليستغفر مَنْ في السماوات ومَنْ في الأرض، حتَّى الحوت في البحرِ، وفضل العالِمِ على العَابِدِ كفضل القَمَرِ على سائرِ النجوم ليلةَ البدرِ، وإنَّ العلماءَ لورثة الأنبياء؛ إنَّ الأنبياء لم يُوَرِّثُوا دينَارًا ولا دِرهمًا، إنَّما وَرَّثُوا العِلمَ”[16].

وعن علي بن الحسين (عليه السلام)، قال:

“لو يَعلَمُ الناسُ ما في طلب العلمِ لَطَلَبُوهُ ولَو بِسَفْكِ المهَجِ وخَوضِ اللجَجِ؛ إنَّ الله تبارك وتعالى أوحى إلى دانيال: إنَّ أمْقَتَ عبيدي إليَّ الجاهِلُ المُسْتَخِفُّ بِحَقِّ أهل العلم، التَارِكُ للاقتِدَاءِ بِهم، وإنَّ أحَبَّ عبيدي إليَّ التَقيُّ الطَالِبُ للثَوَابِ الجزيل، اللازِمُ للعُلمَاءِ، التَابِعُ للحُلمَاءِ، القَابِلُ عَنِ الحُكَمَاءِ”[17].

وعن أبي جعفرٍ (عليه السلام)، قال:

“مَا مِنْ عَبْدٍ يَغْدُو في طَلَبِ العِلمِ أو يَرُوحُ، إلَّا خَاضَ الرَحْمَةَ، وهَتَفَتْ بِهِ الملائِكَةُ: مَرْحَبًا بِزَايرِ اللهِ، وسَلَكَ مِنَ الجَنَّةِ مِثْلَ ذَلِكَ المَسْلَكِ”[18].

إذا كان طالب العلم على مستويات عالية من الشعور بالمسؤولية وخطرها، فإنَّ إجازته في الرواية حينها تكون فارِقةً واقعيةً ومهمَّةً في حياته العلمية ومسيره التحصيلي، وذلك لثلاثة أمور رئيسية، هي:

أوَّلًا: إنَّ للوقوع في سندٍ روائيٍّ ينتهي إلى الإمام المعصوم (عليه السلام) خطرًا عظيمًا لا يُدركُه غير القاصد حقيقةً وجِدًّا لرضى الله سبحانه وتعالى بالاشتغال في طلب العلم وهداية العباد واستنقاذ المؤمنين من مهاوي الدنيا ومخاطرها، كما وأنَّه شرفٌ لا يضاهيه شرف، وأيُّ عاقِلٍ يُفرِّط، أو يُخِلُّ بما يحفظ له شرف الاتِّصال السندي بالمعصوم (عليه السلام)؟

إنَّ هذا الوقوع ليس مجرَّد اسم يتموضوع في سلسلة سندية، بل هو مَحَلٌّ لضميرٍ يتحمَّلُ التبليغ عن المعصوم (عليه السلام)، وهي أمانةٌ عظيمةٌ كما لا يخفى.

ثانيًا: تُحمِّلُ الإجازةُ المُجازَ مسؤوليةً كبيرةً تجاه مُجِيزِه، وهي مسؤولية الحفاظ على سلامته الشخصية خُلُقًا وعِلْمًا وتحصيلًا؛ حيثُ إنَّ نفسَ المُجيز تحمَّل مسؤوليةً أكبر عندما أجاز؛ كيف لا وقد أعطى اعتبارًا علميًا خطيرًا لمن أجازه؟

لذا، فإنَّ الجدِّية العالية لطالب العلم وانضباطه على طريق التحصيل، يتضاعف بعد تشرُّفه بالإجازة.

ثالثًا: من الواضح؛ بعد ما تقدَّم، أنَّ الإجازة في الرواية ليستْ مِن أدوات التفاخر والتعالي على العباد، بل هي في الواقع تُحمِّلُ صاحبها مزيدًا من المسؤولية تجاههم من جهة كونه الأولَى عِلمًا وعملًا بما هو مجازٌ فيه، وإلَّا فقد يكون من موارد توجُّه قوله تعالى (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)[19].

عندما يعود الاعتبار للإجازة الروائية، التي يراها النظر القاصر عِلمًا من أجلِّ العلوم، بمقدماتها وشروطها، فإنَّ نهضةً تاريخية تستتبعها مستوعبةً لقطاعات مهمَّة في المجتمع.

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمَّد وآله الطيبين الطاهرين.

 

السيد محمَّد بن السيد علي العلوي

22 ربيع الأوَّل 1441 للهجرة

البحرين المحروسة  

………………………………………………………..

[1] – الذريعة – آقا بزرگ الطهراني – ج 1 – ص 131

[2] – هو يونس بن عبد الرحمن

[3]  الكافي – الشيخ الكليني – ج 7 – ص 153

[4] – من لا يحضره الفقيه – الشيخ الصدوق – ج 4 – ص 330 – 331

[5] – الحسن بن محمَّد بن سماعة

[6] – تهذيب الأحكام – الشيخ الطوسي – ج 7 – ص 177

[7] – بحار الأنوار – المجلسي – كتاب الإجازات، ج105 ص5-6

[8] – أي: التجَّار وأهل السوق

[9] – أي: العبد

[10] – أنوار البدرين في تراجم علماء القطيف والإحساء والبحرين – الشيخ علي البلادي- ص50

[11] – المصدر السابق ص48

[12] – بحار الأنوار – المجلسي – الإجازات، ج105 ص 64

[13] – لؤلؤة البحرين – الشيخ يوسف آل عصفور- ص6

[14] – هامش مقدِّمة المُحقِّق لكتاب (الخُطب) – الشيخ عبد الله السماهيجي- تحقيق الدكتور حسين السماهيجي ص31

[15] – لؤلؤة البحرين – الشيخ يوسف آل عصفور- ص11

[16] – بصائر الدرجات – محمد بن الحسن الصفار – ص 23

[17] – الكافي – الشيخ الكليني – ج 1 – ص 35

[18] – ثواب الأعمال – الشيخ الصدوق – ص 131

[19] – الآية 5 من سورة الجمعة

…………………………………………………..

المقال -3-

التَكَوُّن التحقيقي في شخصية مُتَحَمِّل الإجازة الروائية

ترجعُ الزيادةُ في البيان والتوضيح لما كُتِبَ أو قِيلَ إلى ما يفيض به المستمعون أو القرُّاء من استفسارات أو إشكالات أو إيرادات، وما شابه ممَّا يبعث صاحبَ الرأي على التعقيب ببيانات توضيحية أعم من تأييد الوارد أو معارضته، وبذلك تبدأ الفوائد في التنامي والإزهار بما يعود على العلم والمعرفة بالخير الكثير.

إنَّه وبعد نشري لمقالي الأخير الموسوم بعنوان (دور الإجازات الروائية في وعي وحفظ وصيانة العباد)[1] وردني من أحد طلبة العلم الأجِلَّاء سؤالٌ حول مرادي ومقصدي من (تكوُّن الشخصية التحقيقية)، فوجدتُ ما لبسط الكلام جوابًا من أهمية في توضيح ما أرمي إليه من الكتابة في إعادة الاعتبار للإجازة الروائية.

يتحدَّثُ كثيرون حول التحقيق وما للكتب المُحقَّقة من مزايا جعلتها خيارًا أوَّلًا لطلبة العلم، بل قد يُحجِمُ الطالِبُ عن شراء الكتاب ما لم يكن مُحَقَّقًا؛ لكون المُحقَّق هو الأقرب إلى ما تركه المُؤلِّف، فالتحقيق لغة “إحكامُ الشيءِ وصحَّتُه”[2]، وجاء أنَّه “حَقَّ الأمرَ تَحَقَّقَهُ، صار منه على يقين، وتَحَقَّقَ عنده الخبرُ: صَحَّ”[3]. أمَّا اصطلاحًا فإنَّ الكِتابَ المُحَقَّق هو “الذي صَحَّ عُنوانُه، واسمُ مُؤلِّفُهُ، ونِسْبَةُ الكِتَابِ إليه. وكان مَتْنُهُ أقربَ ما يكون إلى الصورةِ التي تَرَكَهَا مُؤلِّفُهُ”[4].

وبذلك ينحصر التحقيق في طرفين؛ المُحَقِّقِ فاعِلًا، والمُحَقَّقِ مفعولًا، والنتيجةُ كِتابٌ محفوظ بأدوات الصيانة التحقيقية، فيستفيد من هذا العمل الباحثون الذين لا يحتاج مُكَوِّنُهم الشخصية إلى التحقيق لا تجرِبَةً ولا خبرَةً، بل يكفيهم وجود من يقوم بالعملية التحقيقية فيعتمدون على نتاجه في أن تكون المعلومة المستقاة أقرب ما تكون إلى الصحة من حيثيات مختلفة.

إنَّ الباحِثَ في الخَليَّة -مثلًا- يهمُّه التوفُّر على كتاب يشتمل على آخر من ما توصلت إليه الأبحاث العلمية في خصوص هذا الشأن، وقد لا يحتاج كثيرًا إلى تتبع تاريخ المسألة، ولذلك يكتفي ببعض المصادر المُحقَّقة.

ليس الأمر كذلك بالنسبة لطالب العلوم الإسلامية؛ إذ أنَّ مسائِل هذه العلوم الجليلة تُقال وتُدون في سياقات خاصَّة من الظروف والمتحولات السياسية والاجتماعية وما نحو ذلك ممَّا يدخل بأشكال مباشرة وغير مباشرة في الكثير من جهات وحيثيات مادَّة وموضوع التحقيق، ما يستدعي أن يكون نفسُ الباحِثِ ذا عقلية تحقيقية مُتقدِّمة ذهنًا وحِسًّا.

إنَّ للأوضاع السياسية والأمنية أدوارًا مباشرةً في إخفاء بعض النصوص أو أجزاء منها، أو عدم تدوينها إلَّا في فترات أو عصور متأخرة، وهذا أمر يعسر على الأدوات التحقيقية الكشف عنه ما لم تكن محكومةً بِعَقليةٍ تحقيقيةٍ ناضِجَةٍ، وهذه لا تظهر في مجرَّد المقابلة والإرجاع والتخريج، ولكنَّها تسطع بقوَّة في حاشية التعليقات التحليلية والبيانية عندما تقرأ الموضوعية الماورائية للمادَّة محل التحقيق.

من السهل أن تنتهي الأدوات التحقيقية بالمحقق إلى القول بوقوع الإرسال في سند واقِعةٍ أو حديثٍ أو روايةٍ ما -مثلًا-، إلَّا أنَّ هذا عند العقلية التحقيقية الناضجة ليس أكثر من مرحلة أوَّلية من مراحل التحقيق، أمَّا الظهور التحقيقي المطلوب فهو في الجواب عن سبب أو أسباب الإرسال؛ فليس كلُّ إرسالٍ مُسقطٌ لاعتبارية السند، بل قد يكون الإرسال أو مجهولية أحد الرواة قرينة على صحة الحديث[5]، ولذلك فإنَّ التحقيق عند العالِم ليس من الشهوات العلمية، بل هو من أهمِّ مكونات شخصيته الخاصَّة.

إنَّ للاقتصار في الإجازة الروائية على المشيخة وذِكر الطرق الكثيرَ من المضار الثقافية التي أفقدت الإجازة اعتباراتها المهمَّة، وزد على ذلك أنَّها أبعدتْ، وتُبعِدُ الأذهان الوقَّادة والأفهام العالية عن استيعاب وفهم ما للرواية من أهمية عميقة الغور، واسعة الجهات.

عندما يُجَازُ طالبُ العلِم في الرواية على الوجوه المعتبرة الصحيحة، فإنَّ الظروف السياسية والاجتماعية وما نحوها مأخوذةٌ في نفس الإجازة، وهذا ما يُبينه المُجيز في مقدماتها، فنعلم العوامل التي دخلت في تكوين وصياغة عقلية كل من المُجيز والمُجاز، وهذا ما يراعيه المُحقِّقُ ويوليه عناية كبيرة في عمله التحقيقي، لا من جهة تحليلية فحسب، ولكن من جهة دراية أطراف الإجازة بما هم فيه وما له الأثر في خلق واقعهم.

قال الفقيهُ الشيخُ جعفر بن الشيخ محمَّد أبو المكارم الستري العوامي القطيفي في مقدَّمة إجازته للفقيه السيد مهدي بن السيد علي الغريفي البحراني النجفي:

“وأشدُّ ما قَصَدَ ببلائه أهل البحرين، ورماهم من بين العالم بالداء الدفين، وأكثر فيهم القتل الذريع، والنهب والتشتيت والتصديع، ورماهم بالزلازل والحال الفظيع، من الوقائع التي تُشيِبُ الرضيعَ، فلم يطيقوا لما عراهم حملًا، وألزم نفوسهم منه كربات وثقلًا، وأُشرِبَتْ قلوبهم بوقعهِ وَجَلًا وذُلًّا، فحينئذٍ رأوا في ترك الأوطان والفراق، راحةً لقلوبهم من معاناة ما لا يُطاق، حيثُ وجدوا أنَّ نفسوهم باللبث عليه للبلايا تُساق، فرحلوا منها تحت دُجى الغيهب، وسلكوا في بطون الأودية والرحب، وذهبوا في أقاصي بلاد الله شُعبًا، وتشتتوا في أقاصيها وأدانيها عن أوطانهم أيدي سبا، حتَّى كأنَّ غُرابَ البينِ في أظعانهم قد نَعَب، وصاح صائِحُ الفِراق في شملهم فانصدع وما انشعب”، إلى أن قال:

“فتِلك المحاريب تبكي لِرُهَّابِهَا، والصلاةُ تحنُّ لمِحرابِها، والمساكِنُ تئنُّ شوقًا لسُكَّانِها وأربابها، ومسائلُ العلمِ تشكو الخلل لرؤابها، ومشاكل المعضلات ترتقب فتح أبوابها، والمُثَوِّبُ قائمٌ بالنداء على فناء عرصات معابدهم وأعتابها …”[6].

أقطَعُ دون أدنى تردُّد بأنَّ الشيخ المُجيز لم يذكر ما ذكر ترفًا، وكذا غيره من مشايخ الإجازة الذين يُصرُّونَ على ذكر الأحوال وتقلبات الدهور والأيَّام في متن إجازاتهم؛ كيف، ولتوثيق الأحوال، فضلًا عن الأحداث أهمية محورية في وضع النصوص على مساراتها، وإرجاعها إلى سياقاتها، وهذا هو مادَّة النضج التحقيقي.

عندما أطلق الشيخ أبو المكارم اسم (ملتقى البحرين) على إجازته للسيد الغريفي، أراد، فيما يراه النظر القصر، التنبيه إلى أمر في غاية الأهمية، بل له أهمية قصوى، فهو بحراني والسيد الغريفي بحراني، وكلاهما ممن مرتهم يد النوائب بقواذفها، فكانت الإجازةُ ملتقاهما من بعد شتات، وفيها اجتمع بحران مِنَ البحرين. كم هو عظيم أمر الإجازة الروائية وما تشتمل عليه من أسرار وخفايا جليلة..!

بين أيدينا الكثير من الأمور المهمَّة التي لا تضبطها غير العقلية العلمية التحقيقية الناضجة، ولذلك نجد اعتماد فقهائنا الأعلام على مخطوطات الكتب وطبعاتها الحجرية والقديمة، ويقومون هم بالمقابلة واستخراج الخفيات، واقتناص المستترات، ويطرحون ما ينتهون إليه في بحوث الخارج من بعد وقوفهم العلمي الدقيق على أحوال وظروف العلماء، ويكون ذلك من أهم مميزات الدرس التي تكون عند المجدِّين من طلبة العلم من عوامل ترجيحٍ يُسعى إليها ويُبحث عنها، وهذا ما كان عليه سلفُنَا الصالحُ من العلماء الأبرار الذين شرَّفَهم اللهُ تعالى بمناصب حراسة الدين ورعاية المؤمنين.

هاك ما نقله العلَّامة المجلسي (نوَّر الله مرقده) من إجازة بعض الأفاضل لبعض تلاميذه:

“وبعدُ، فإنَّ فُلانًا بعدما قرأ عندي جملةً من كتب العلم، وقَابَلَ لديَّ عدَّةً من كتب الحديث، وظهر جدُّه واجتهادُه وقابليتُه واستعدادُه وأهليتُه لنقل الحديث وروايته، بل لنقده ودرايته وفهم نكاته ومعانيه، والإحاطة بظواهره وخوافيه، التمس منِّي الإجازةً تَبَرُّكًا باتصال سلسلة الخِطاب، بالذين هم قدوة أولي الألباب، وعندهم علم الكتاب …”[7].

تِلكَ أزمِنَةٌ ما كان فيها طالِبُ العلم، بل العالم، ليجرؤ على الاستجازة ما لم يكن بالمستوى الذي يُشهَد له فيه بالفضل العلمي النوعي، وهو ما نسعى لإظهاره وإبراز معالمه في هذه المقالات التي ندعو فيها إلى إعادة الاعتبار إلى الإجازة الروائية.

 

السيد محمَّد بن السيد علي العلوي

27 ربيع الأوَّل 1441 للهجرة

البحرين المحروسة

…………………………………………….

[1] – http://main.alghadeer-voice.com/archives/5511

[2] – ابن فارس، مقاييس اللغة، ج2 ص15

[3] – الرازي، مختار الصحاح، ص148

[4] – عبد السلام هارون، تحقيق النصوص ونشرها، ص29

[5] – الكاتب: بينتُ هذا الأمر في كتاب: تحرير المسائل.. رسالة في مبادئ دراية الحديث

[6] – ملتقى البحرين، وهي إجازة الشيخ جعفر بن الشيخ محمَّد أبو المكارم الستري (1281 – 1342 للهجرة)، للسيد مهدي بن السيد علي الغريفي (1301 – 1343 للهجرة)، تحقيق: محمَّد أمين أبو المكارم، ص 127 – 128

[7] – بحار الأنوار – العلَّامة المجلسي – ج105 ص89

…………………………………………………..

المقال -4-

دلالاتُ رِوَايَةِ المُجَازِ في الرِوَايَة

انحصر الاهتمام بالأسناد في دراسته للوقوف على مدى صحَّة أو ضعف المنقول، حديثًا أو واقعةً، أو كتابًا، وقد انقضتْ هذه المرحلة بعد أن حُفِظتِ الأحاديثُ في كتبٍ مُحقَّقةٍ معروفة، ولم تعد الحاجة، إجمالًا، إلى أكثر من الجهود التحقيقية الشخصية بالمقابلة بين الكتب لضبط الكلمات مادَّةً وهيئةً، وهذا ما سعيتُ لبيانه في مقال (التَكَوُّن التحقيقي في شخصية مُتَحَمِّل الإجازة الروائية).

يردُ هنا سؤال، هو:

اليوم، وبعد أن حُفِظَتِ الأحاديث والكتب، فما معنى أن يُجازَ أحدٌ في الرواية؟ بل لِمَ تُطلبُ الإجازة؟

عندما نتأمَّلُ ما كَتَبَهُ بعضُ العُلَمَاءِ في مقدِّمات كتبهم الحديثية، نَقِفُ على عِبَارَةٍ يتكرَّرُ مَضْمُونُها، وهو أنَّهم ما نقلوا عن غير الثقات من مشايخهم وما صحَّ مِنْ أحاديث العِترة الطاهرة.

قال الشيخ ابنُ قولوليه (نوَّر اللهُ مرقده): ” وقد عَلِمْنَا أنّا لا نُحيطُ بجميع ما رُويَ عنهم في هذا المعنى ولا في غيره، لكنَّ مَا وَقَعَ لنَا مِنْ جِهَةِ الثقَات من أصحابنا ـ رحمهم الله [برحمته] ـ، ولا أخرجتُ فيه حديثًا رُويَ عن الشُّذَّاذِ مِنَ الرِّجالِ، يُؤثَرُ ذلك عنهم (عليهم السلام) المذكورين غير المعروفين بالرّواية؛ المشهورين بالحديث والعلم، وسمَّيتُه (كتاب كامل الزّيارات)”[1].

ناقش جملةٌ من أكابرنا ما يُحتَملُ أن يكون مرادًا ومقصدًا من مثل هذه التصريحات، وما يستقربه النظر القاصر هو اكتفاء جملة من المتقدمين بالرواية عن الثقة من مشايخ الرواية والإجازة في تحقُّق الاعتبار لما يروون، إلَّا أنَّ القول والقطع بالصدور لا يتمُّ إلَّا بعد مراحل من التحقيق وجمع القرائن، وما إلى ذلك من مثبتات.

إذا صحُّ ذلك، فإنَّ الرواية عن الإجازة مظهرٌ مُعتبر للرؤساء الذين يقولون باعتبار المنقول، حديثًا أو واقعةً أو كتابًا. أي أنَّ الروايةَ عن إجازةٍ قطعٌ بكون المروي مادَّةً علميةً معتبرةً.

إنَّ الشيخ الكليني (علا برهانه) في روايته عن مشايخه يُبرِزُ وحدةً علميةً موضوعيةً بينه وبينهم، فيُضافُ واحِدٌ، وهو نفس الكليني، إلى مجموع القائلين باعتبار المنقول عن مشايخ الإجازة، وإذا روى عن الشيخ الكليني مُحدِّثٌ مجازٌ منه، فقد أُضيف إلى المجموع آخر.. وهكذا..

من هنا، نرى أنَّ حصر الإجازة الروائية في عنوان (التبرك بالمعصوم -عليه السلام-) فيه الكثير جدًّا من الظلم الشديد لأعظم المشاريع الحضارية الفكرية التي أبدعها المسلمون، وكذا حصرها في حفظ الأحاديث والكتب؛ فالإجازة حفظٌ للوحدة الموضوعيةِ الثقافية والفكرية.

عندما يُحدِّثُ مُجازٌ في زمننا المُعاصِر، ويقول: بإجازتي عن مشايخي الذين تتصل أسنادهُم إلى العلَّامة المجلسي، أو الشيخ الحرِّ العاملي، أو غيرهما، فإنَّه بهذه العبارة يُشير إلى وحدته الثقافية والفكرية مع من أجازه، وتسلسلًا إلى آخر واحدٍ من مشايخ الإجازة، وبهذه الوحِدة يكون قائِلًا بمقالتهم، وهي اعتبار المادَّة العلمية الواقعة موضوعًا للإجازة.

ثُمَّ أنَّه في حال كان هذا الاعتبار العلمي تامًّا، فإنَّ الإجازة الروائية تكون مظهرًا حقيقيًا لتبانيات تعاقبية موضوعها القوَّة الاعتبارية للأحاديث والكتب المُجازة، وهذا، في حدِّ ذاته، من أهم العوامل القادرة عن جدارة على تحمُّل مسؤولية خلقِ أرضية فكرية تفاهمية واسعة النطاق في بُعدَي العمق الثقافي والامتدادات الجغرافية.

لذا، فإنَّ المُجاز اليوم يكفي أن يذكر ذلك، أي أنَّه يروي أو يُحدِّث إجازةً، دون حاجة إلى ذكر السلسلة. واعتقد بضرورة التأسيس إلى هذا النحو من أبعاد الإجازة الروائية وممارستها نظريًا وعمليًا، بشرط أن يكون حَمْلُ الإجازةِ عن إحاطة علمية وازنة ما يجعل لعِبَارةِ: (أروي إجازةً) اعتبارًا عِلميًا خاصًّا لا يمكن تجاوزه.

يُرجى من مثل هذا التأسيس أن تكون الإجازات الروائية اليوم سياجًا علميًا حيًّا، يحمي ويصون الحديث الشريف ضد نيران التشكيكات التي أحرقت جوانب مهمَّة من الطمأنينة والاستقرار النفسيين عند شرائح من المؤمنين، وجعلت كتبنا الحديثية المحفوظة بلطف وعانية الله تعالى من أهون ما ينتهك حُرَمَه المستهترون والمغرورون؛ فإنَّ روايةَ العالِم الفلاني اليومَ إجازةً يعني ظهور القوَّة في توارث الاعتبار العلمي المتين للمروي عن دراية وإحاطة، وهذا ممَّا نحتاج إلى التنَبُّه إليه جيِّدًا.

قد يُقال: هل يمكن الوقوف في كتب العلماء على ما تطرحونه هنا؟

فأقول: إنَّ ما أطرحه قراءة ومُحَاولات لِفَهم مَقَاصِد المتقدمين من أكابر الطائفة، ومن جِهَةٍ أُخْرَى هو دعوة لخُطوات تطويرية لا تخرج عن الأطر والقوانين العامَّة للإجازة الروائية. وإن لم نجد تصريحًا في كتب العلماء لما نطرحه هنا، فهو لا يعارض ما عليه العلماء، وليست الدعوة لأكثر من الإمساك بما تركه لنا العلماء والأكابر على مرِّ التاريخ، والانطلاق به إلى بناءات جديدة وتجديدية مُضبطة ومحكومة بما رسمه ووضعه نفس علمائنا وأكابرنا.

 

السيد محمَّد بن السيد علي العلوي

3 ربيع الثاني 1441 للهجرة

البحرين المحروسة

…………………………………………….

[1] – كتاب كامل الزيارات – ابن قولوليه – المقدمة

مقالات مشابهة

1 تعليق

- صوت الغدير 17 أكتوبر، 2022 - 12:11 ص

[…] عشوائي حِفظُ العِلمِ والعالِمِ.. مقالات في إجازة الرواية مسألةُ تَغْطِيَةِ المَرْأة لِرَأسِهَا لقاء الحبيب […]

رد

اترك تعليق


The reCAPTCHA verification period has expired. Please reload the page.