بسم الله الرّحمن الرّحيم
فيما جاء عن قصّة قبض روح نبيّ الله إبراهيم (على نبيّنا وآله وعليه السّلام) أنّ الله سبحانه أرسل له ملك الموت مبلغًا قوله: “هَلْ رَأيْتَ حَبِيْبًا يَكرَهُ لِقاءَ حَبِيبَه؟ إنَّ الحَبِيبَ يُحِبُّ لِقَاءَ حَبيبَه”
قد أكَد سبحانه على المعنى المنشود في هذه العبارة إذ لم يكتف بالسّؤال مُسلَّم الإجابة، بل أتبعه بجملةٍ مُؤَكَّدّةٍ بـ”إنَّ” وفي هذا تنبيه مهمّ لما جُبِلَ عليه الإنسان، فسؤال الله سبحانه لم يصدر ليُجيب عليه نبيّ الله إبراهيم على نبيّنا وآله وعليه السّلام، بل هو سؤال تنبيهيّ يريد به الله إلفات نبيّه والمخاطبين بعده بطبيعة حال نقل أيمّتنا عليهم السّلام للخبر لتلك الخصلة المودعة في الإنسان من حبّ لقاء الحبيب عمومًا والحبيب الأوّل وهو الله جلّ في علاه.
ومن هنا نستفيد ثلاث استفادات:
الأولى: في لقاء الله
الثّانية: في لقاء ولي الله
الثّالثة: لقاء المحبوب في الله
أمّا الأولى فهي الغاية القصوى، كيف لا وهي فرحة المؤمن وسعادته؟
وهي المقدّمة على كل رغبة، جاء في الكافي: عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَعْيَنَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السّلام قَالَ لَمَّا نَزَلَ النَّصْرُ عَلَى الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ حَتَّى كَانَ بَيْنَ السَّمَاءِ والأَرْضِ ثُمَّ خُيِّرَ النَّصْرَ أَوْ لِقَاءَ اللَّه فَاخْتَارَ لِقَاءَ اللَّه.
وقد بيّن الأيمّة عليهم السّلام أين تكمن سعادة المؤمن في لقاء الله، فقد روى الشّيخ الصّدوق في معاني الأخبار:
عَنْ عَبْدِ الصَّمَدِ بْنِ بَشِيرٍ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِه عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه ع قَالَ قُلْتُ أَصْلَحَكَ اللَّه مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّه أَحَبَّ اللَّه لِقَاءَه ومَنْ أَبْغَضَ لِقَاءَ اللَّه أَبْغَضَ اللَّه لِقَاءَه؟ قَالَ عليه السّلام: نَعَمْ. قُلْتُ فَوَاللَّه إِنَّا لَنَكْرَه الْمَوْتَ فَقَالَ عليه السّلام لَيْسَ ذَلِكَ حَيْثُ تَذْهَبُ إِنَّمَا ذَلِكَ عِنْدَ الْمُعَايَنَةِ إِذَا رَأَى مَا يُحِبُّ فَلَيْسَ شَيْءٌ أَحَبَّ إِلَيْه مِنْ أَنْ يَتَقَدَّمَ واللَّه تَعَالَى يُحِبُّ لِقَاءَه وهُوَ يُحِبُّ لِقَاءَ اللَّه حِينَئِذٍ وإِذَا رَأَى مَا يَكْرَه فَلَيْسَ شَيْءٌ أَبْغَضَ إِلَيْه مِنْ لِقَاءِ اللَّه واللَّه يُبْغِضُ لِقَاءَه.
فمن لا يطمع في أن يُحبّ اللهُ لقاءه؟ ولذا أورد الفقيه أنّ النّبي ﷺ كان يقول فيما يقول بعد فراغه من المكتوبة: “وَأَسأَلُكَ الرِّضا بالْقَضَا، وبرْدَ العيشِ بَعدَ المَوتِ، ولذَّة النّظرِ إِلىٰ وجْهِكَ، وَشوقًا إلى لِقائكَ من غَيرِ ضَراءَ ومَضرَّة، ولا فِتنَةٍ مُظلمةٍ”
ومن المعلوم أنّا لا ننظر لوجه الله وقد فُسِّر ذلك في الروايات المعصوم وهو مدخلنا للفائدة الثّانية، جاء في غير واحد من كتب ابن بابويه رحمه الله عَنْ عَبْدِ السَّلَامِ بْنِ صَالِحٍ الْهَرَوِيِّ، قَالَ: قُلْتُ لِعَلِيِّ بْنِ مُوسَى الرِّضَا (عَلَيْهِ السَّلَامُ): يَا بْنَ رَسُولِ اللَّهِ، فَمَا مَعْنَى الْخَبَرِ الَّذِي رَوَوْهُ أَنَّ ثَوَابَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ النَّظَرُ إِلَى وَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى؟ فَقَالَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ): «يَا أَبَا الصَّلْتِ، مَنْ وَصَفَ اللَّهَ تَعَالَى بِوَجْهٍ كَالْوُجُوهِ فَقَدْ كَفَرَ، وَ لَكِنَّ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى أَنْبِيَاؤُهُ وَ رُسُلُهُ وَحُجَجُهُ (صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ) فلقاء أولياء الله من لقائه سبحانه والرّوايات في حب لقائهم متكثّرة، أمّا اليوم في زمن غيبة إمامنا ولي الله الأعظم فإنّ المؤمنين في صباح كل يوم يسألون الله سبحانه في دعاء العهد قائلين: اللَّهُمَّ أَرِنِي الطَّلْعَةَ الرَّشِيدَةَ وَالْغُرَّةَ الْحَمِيدَةَ، وَاكْحُلْ نَاظِرِي بِنَظْرَةٍ مِنِّي إِلَيْهِ.
ولكنّ المهرع عندنا للقائهم في زمن غيبتهم (لا أطالها الله) زيارتهم فقد أورد الشّيخ المفيد في المقنعة عن الصّادق عليه السّلام: “مَنْ زَارنَا بَعدَ مَمَاتِنا فَكَأَنَّما زَارَنا فِي حَيَاتِنا” ويجب استشعار هذا المعنى عند من يتشرّف بشرف شهود تلك المراقد، والاعتقاد بما جاء في الزّيارة: “أَشهَدُ أَنَّكَ تَسْمَعُ كَلامِي، وتشهدُ مَقامِي” وليكن حبّ لقاء المحبوب حاضرًا في القلب لهم فيدفعك طوال حياتك لزيارتهم والشوق لأعتابهم.
الثّالثة لا ينفك المؤمن عند حديثه في الحب عن حب إخوانه وأهله فقد أمرنا بحبهم، بل والمبالغة فيه؛ لذا لا تكون روايات مجالستهم ولقائهم غريبةً عن مقامنا، بل هي اختبار للحبّ الصّادق فإنّ الحبيب يحب لقاء حبيبه، هذه هي الفطرة المستقيمة التي أنكر الله سبحانه في سؤاله لإبراهيم عن الغافل عنها، ولكن يجب الالتفات لنفس ذلك الحبّ فكلّ حبّ في غير الله حتّى حبّ الأهل فليس بحبّ دائم باقٍ يستحق ما يُرجى له الحب الذي أمرنا به واستتبع الخيرات التي فيه ومن ضمناها لقاء الحبيب.
ومن الغريب كيف يبخل بعضنا عن هذا المغنم الجسيم فلقد وُصِف في الأخبار شيءٌ من حلاوته وبها أختم هذا المقال:
في الخصال: أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ع قَالَ كَانَ فِيمَا أَوْصَى بِهِ رَسُولُ اللَّهِ ص عَلِيّاً يَا عَلِيُّ ثَلَاثٌ فَرَحَاتٌ لِلْمُؤْمِنِ لُقَى الْإِخْوَانِ وَ الْإِفْطَارُ مِنَ الصِّيَامِ وَ التَّهَجُّدُ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ.
السيّد علي بن السيّد محمّد العلوي
٢١ صفر المظفّر ١٤٤٤هـ