بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمَّدٍ وآلِه الطيبين الطاهرين.
إطلالة على كتاب: العلَّامة البحراني ومذهبه في القضاء من خلال كتابه الأنوار اللوامع، لسماحة الشَّيخ حسن بن علي آل سعيد
أحمده تعالى على ما أولاني وأسبغ عليَّ مِنْ جَليلِ النِّعَمِ، فعلَّمَني وما كنتُ لأعلمَ شيئًا لو لا ما يسَّر لي منذ يوم التقمتُ ثديَ أمي (أعزَّها الله تعالى وأبقاها في خير وعافية) حتَّى ساعتي هذه، فلم يتركني هملًا مع كثرة تضييعي، بل ومعاندتي لما أراده لي جلَّ في علاه من خيرات وصلاح حال. فالحمد لله تبارك ذكره، والشكر له شكرًا لا ينبغي لغيره.
والصَّلاة والسَّلام على خير خلقه، وأشرف من اصطفى من أنبيائه ورسله، محمَّدٍ خاتمِ النبيين، وتمام عدَّة المرسلين، وآله الطيبين الطاهرين الذين فرض على العباد طاعتهم بعد أن جعل لهم الولاية على هذا التكوين قبل أن يخلق آدم (عليه السَّلام) بالمئات من السنين.
حقَّ عليَّ أن أحمده سبحانه، وأن أصليَّ على النبي وآله، وأنا أرى بالقلب والعين كيف يأخذ جلَّ في علاه بيدي لأقرأ ما تحفظه أقلامُ أهل الفضل من علوم، دون أن يعتريني كسلٌ ولا ملالة، وأجد في نفسي وما رزقني من عقل ما أصيب به الحق فأميزه عن الباطل ولو بعد حين، فالحمد والشكر له سبحانه لا لأحد سواه.
فرغتُ بفضله تبارك ذكره وتوفيقه، صباح اليوم، العاشر من ذي الحجَّة من العام ثلاثة وأربعين وأربعمئة وألف للهجرة، من قراءة كتاب جليل قد ألَّف مادته ونظمها بين دفتيه أخونا الغالي صاحب السماحة والفضل الشَّيخ حسن بن علي آل سعيد المعاميري (وقاه الله تعالى وسدَّد على طريق الخير خطاه)، فكان (العلَّامة البحراني ومذهبه في القضاء من خلال كتابه الأنوار اللوامع)، فجزاه الله تعالى خير الجزاء، ودفع عنه كلَّ شرِّ وبلاء.
وإنَّني إذ أعطف على حمد الله وشكره بالقلب وحكاية اللفظ، ما أرجو أن يكون في هذه الفضيلة عملًا ذا أثر، أكتب شيئًا حول هذا الكتاب الجليل لعلِّي أؤدِّي القليل من حقِّ العِلم، ولن أصيبَ ما أرجوه إلَّا بتوفيق الله سبحانه وتعالى. فأقول:
حقيقةُ وواقع جُهدِ المُؤَلِّفِ (أيَّد الله تعالى مساعيه):
هنالك فرق جوهري بين فهمِ أيِّ مسألة فهمًا عاديًّا، وبين أن يكون الفهمُ عَنْ تَصُوُّرٍ لها ووقُوفٍ على حُدُودها، ولن يُبدِع الدارسُ عِلمًا ما لم يكن فهمه من النوع الثاني، وإلَّا فلا يسعه أكثر من نقل المسألة وتعليمها الآخرين دون فتحٍ لآفاقهم على ما يمكن البناء عليه من بعد الوقوف على أصول المسألة ومبادئها.
مثال: ذكر المؤلِّف في الأدب الثاني من آداب القضاء نزولَ القاضي وسط البلد، مًعلِّلًا بتحصيل “التسوية بين الخصوم في مسافة الطريق، فيكون الخصوم عنده بمنزلة سواء”[1]. ثُمَّ قال: “ويذهب العلَّامة البحراني إلى عدم ثبوت هذا الأدب واستحبابه، بل يقول: إنَّه (قياس مع الفارق)”[2].
في غير مكان من الكتاب يبين الباحث أساسًا من الأسس العلمية عند علَّامة البحرين (علا برهانه)، وهو الانصراف عن كل ما لم يثبت بنصوص صحيحة النسبة، وواضحة الدلالة على المطلوب، مهما كان ممَّا تستحسنه الأذواق والطباع؛ والوجه في ذلك أنَّ الدين دينُ الله تعالى، ولا يصحُّ التجاوز فيه عن المنصوص، حتَّى لو أطبق الثقلان على حُسنِه؛ حيث إنَّ المناط هو الورود عنهم (عليهم السَّلام)، لأنَّنا مهما بلغنا من العلم والفهم فلن نُحرِزَ مِلاكات الأحكام ما لم يُصرِّح بها الشارع المُقدَّس.
ومن ذلك ما يبحثه الأعلام في باب الملازمات العقلية تحت عنوان حكم الشرع بما يحكم به العقل، فيقول من على أصول العلَّامة البحراني بصحَّة حكم العقل، غير أنَّه لا يلزم منه حكم الشرع؛ والوجه في ذلك افتقار الحكم الشرعي دائمًا إلى نصٍّ صريح تبتني عليه نية القربة، وإلَّا فيُؤتى بما يحكم به العقل لوجوبه عقلًا، ولكن لا على وجه عبادي. وهذه مسألة دقيقة لها تطبيقات واسعة.
عود على بدء..
يظهر بوضوح أنَّ الباحث المُكرَّم (حفظه الله تعالى) لم يخطَّ بقلمه كلمةً من الكتاب إلا من بعد تصوره التام لمسائله، وهذا أمر لا يتحصَّل لكلِّ أحدٍ؛ وذلك لما يحتاجه من همَّة عالية، وتركيز جامع للحواس في مضوع البحث، وهو ما تميَّز به الشَّيخ آل سعيد في دراسته لشخصية العلَّامة البحراني (علا برهانه) ومذهبه في القضاء.
التقديمُ بِدراسةٍ لشخصيَّةِ علَّامة البحرين (نوَّر الله مرقده الشريف):
إن لم يكن مُتَعَذِّرًا، فهو من الصعوبة البالغة أنْ ينسلخ إنسانٌ من كافَّة قوابله الشخصية للتأثُّر بالمحيط الذي يعيش فيه، بل حتَّى التمَرُّد عليها ليس إلَّا تأثُّر انفعالي بنفس المُحيط.
نعم، لا يُعذر العَاقِلُ عن عدم إصلاح نفسه، وتغيير السَّيئات التي يكتسبها من محيطه وبيئته وما تعترضه من ظروف، غير أنَّ نفس التأثُّر أمرٌ طبيعي، ومفهوم إلى حدٍّ ما.
لذا، كان للدراسة التي عقدها الشَّيخ آل سعيد (وقاه الله تعالى وسدَّد في الخير خطاه) في حياة العلَّامة البحراني (طاب رمسه) أثرها العلمي في فهم الخلفيات العلمية التي قام عليها مذهبه في القضاء.
ابتنت الدراسة على مبحثين، أوَّلُهما السِّيرة الشخصية والعلمية للعلَّامة البحراني (عطَّر الله مرقده الشريف)، وفيه مطلبان، هما: السِّيرة الشخصية، والسِّيرة العلمية. أمَّا ثاني المبحثين فقد اشتمل على أربعة مطالب، هي: الحالة السِّياسية، والحالة الاجتماعية، والحالة العلمية، والقضاء في ذلك العصر.
بيَّن الباحثُ الكريم صعوبة وتَعَقُّد الظروف السياسية في زمن علَّامة البحرين (علا برهانه)، وتبعًا لذلك شهد المجتمع آنذاك تراجعًا في الاستقرار الاجتماعي، غير أنَّ نبوغًا علميًّا في البحرين قد تميَّزت به تلك الحقبة، والحال أنَّ في مثل هذه الظروف يُتوقَّع تراجع الحالة العلمية تبعًا للوضعين السياسي والاجتماعي، وبطبيعة الحال، الاقتصادي أيضًا. وهنا فائدةٌ من أمرين:
الأول: نشأ العلَّامة البحراني (طاب رمسه) في أسرة علمية لها تاريخها المعروف والمشهور، فمن لا يعرف آل عصفور وقد أصبحوا صنوًا للعلم، متى ما ذُكِر ذُكِروا، وليس الذكر ذكرًا عاديًّا، فعلماء هذه الأسرة الكريمة يتَّصفون في الغالب، إضافة للعلم والفقاهة، بقوَّة الشخصية، والحضور الماكن والوازن في موارد العلم والحكمة والنظر، وهذه مُصنَّفاتهم تشهد لهم، كما ولسنا ببعيدين عن مراحل كان فيها لعلماء آل عصفور دورًا في حفظ الدين والعباد.
إنَّ لهذا الظرف الأُسري دورًا بالغ الأهمية في حفظ أبناء الأسرة وصيانة توجهاتهم الفكرية، وقد كانت في أبعاد الإسلام والفقاهة.
الثاني: نشأ علَّامة البحرين (علا برهانه) في محيط اجتماعي، على مستوى البلد، قد تمكَّن فيه الجوُّ العلمي حتَّى كانت البحرينُ حاضِرةً علميَّةً لها شخصيتها المتميِّزة، والمعروفة بين الحواضر والتجمعات العلمية في أصقاع المعمورة، فساهم ذلك بشكل كبير في الحِفاظ على قوام شخصية الشَّيخ حُسين (رضوان الله تعالى عليه) وصيانتها على طريق طلب العلم وتحصيل فضائله.
فيظهر من ذلك مصداق واقعي لنظرية اجتماعية تُرجِعُ سلامَةَ المُجتمع[3] إلى قوَّة الحواضر العلمية فيه، وقد مضى في علماء الإسلام تقليدُ تكوين الأُسَر العلمية إلى جانب أجوائها بكثرة المدارس، واللقاءات، والدروس المتفرقة، والمؤلَّفات، وما نحو ذلك ممَّا يجعل طلب العلم خيارًا للأوحدي بين أقرانه. فتأمَّل رعاك الله تعالى.
اعتماد الباحث كتاب الأنوار اللوامع:
الأنوار اللوامع “شرح على كتاب (مفاتيح الشرائع) للفيض الكاشاني (ت 1091 هـ)، وهو كتاب يحتوي على أمَّهات المسائل الفقهية، مع الإشارة إلى الدلائل والأقوال التي قيلت في كلِّ مسألة، وهو من أجمل الكتب الفقهية بيانًا، وأوضحها دليلًا وبرهانًا”[4].
لا يقتصر الأعلام في شروحهم للمتون العلمية على بيان ما يريده الماتن، بل إنَّ ذلك ليس إلَّا قدَّمة لشروعهم في تقرير ام تنتهي إليه أنظارهم العلمية، وذلك قريب من الدرس العالي المعروف في الحوزات العلمية بالبحث الخارج؛ حيث يعتمد الفقيه متنًا علميًّا، ويشرع منه في طرح الآراء والمدارك، ومناقشتها، حتَّى ينتهي إلى طرح ما يصل إليه نظره العلمي.
لقد أفرد الباحثُ (جلَّله الله تعالى برضاه) فصلًا خصَّه بدراسة وصفية تحليلية لكتاب (الأنوار اللوامع)، قام على ستَّة مباحث، اشتمل كلُّ مبحثٍ منها على مطالب، ما عدا البحث السادس إذ كان لإثبات مخطوطات الكتاب المُعتمدة في الدراسة.
ملامح منهج العلَّامة البحراني الفقهي:
هذا العنوان هو عنوان المطلب الثاني من الفصل الثالث الذي خصَّه الباحث بيان (مذهب العلَّامة البحراني في القضاء)، وقد اخترتُه في هذه الإطلالة لأهميته في فهم المذهب الفقهي لعلَّامة البحرين (نوَّر الله مرقده الشريف) الأعم من كتاب القضاء وغيره. ولأنَّ “الكلام عن منهج العلَّامة البحراني الفقهي يتطلب دراسة مستقلة”[5] فقد تعرَّض الباحث لأصول مهمَّة تُفهم منها معالم الأسس العلمية للشَّيخ العلَّامة (علا برهانه).
اختصر الشَّيخ آل سعيد (دامت بركاتُه) الكلام في سبعة عناوين علمية، كانت كالتالي:
- وظيفة الفقيه وغير الفقيه.
- أدلة الأحكام الشرعية او مصادر التشريع.
- تقسيم الحديث.
- التسامح في أدلة السنن.
- قبح العقاب بلا بيان.
- تأخير البيان عن وقت الحاجة.
- الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدِّه.
بيَّن (حفظه الله تعالى) مباني العلَّامة البحراني (طاب رمسه) وما انتهى إليه نظره في خصوص هذه المباحث العلمية المهمَّة؛ وهي كذلك لكونها من أهم الأسس التي يقوم عليها نظر الفقيه بناء ومبنى.
نتائج البحث ودلالات فذلكتها:
بعد تفصيله وبيانه الواضح، اختتم الشَّيخُ آل سعيد (حرسه الله تعالى من طوارق الليل والنَّهار) دراسته القيِّمة بنتائج، وتوصيات. وليس مِنَ السهل استخراج النتائج من دراسة علمية وازنة ما لم يكن الباحث قد أحاط بموضوعها إحاطة لها واقعها العلمي الذي تُظهره فذلكة البحث في نتائج مُركَّزة وواضحة، وذلك أشبه بِمَن يستخرج الجواهر من أعماق البحار، ولم لكن يكن عارفًا بها معرفة غوَّاص ماهر لتاه فيها، ولشرَّق وغرَّب في قيعانها دون أن يهتدي إلى شيء.
إنَّني أُنبِّه على ذلك لتقرير فائدة مهمَّة، وهي الاطمئنان للنتاج العلمي للشَّيخ حسن بن علي آل سعيد (حفظه الله تعالى) ما التزم هذه الدقَّة وفاءً بحقِّ العلم والعلماء. والشَّيخ آل سعيد واحدٌ مِنْ كوكبةٍ مِنَ العُلماء والباحثين والمُحقِّقين تزخر بهم بلادنا البحرين، وليست الساحة العلمية في حاجة إلى أكثر من الالتفات إليهم ليقفوا على ما عندهم من خيرات العلم والمعارف.
خاتمة:
هذه ليست مراجعة بحسب المصطلح الأكاديمي الحديث، ولكنَّها مجرَّد إطلالة أردتُ منها الوفاء بشيءٍ من حقوق العلماء في بلادنا البحرين علينا، ولو أنَّنا ننتبَّه إليهم لانبجست من عيونهم عيون.
بين أيدي علماء البحرين المئات من المخطوطات لمصنفات علمية متينة كان فقهاء هذه الأرض الطيبة قد تركوها إرثًا لمن يأتي من بعدهم، وهي اليوم تنتظر من المحقِّقين ان يشمِّروا عن سواعد الجد لإخراجها وتقديمها لم يستحقِّها ويقدِّر عظيم ثمنها.
نسأل الله تعالى الخير والصلاح للأمَّة المرحومة، وان يسلِّمنا في فتن الزمان وطوارق الحدثان.
الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمَّد وآله الطيبين الطاهرين.
السَّيد محمَّد بن السَّيد علي العلوي
11 من ذي الحجَّة 1443 للهجرة
البحرين المحروسة
…………………………………………..
[1] – ص193
[2] – ص194
[3] – في الشَّيخ علي البحراني في أنوار البدرين، ص52: “حدثني بعض الصالحين الثقات من أهل البحرين عن سلفهم الأقدمين إنه كان في الزمن القديم في البحرين أن الرجل من أهل السوق والتجار يكون عنده العبد المملوك فيراه ليلة من الليالي ربما غفل عن صلاة الليل لنوم أو غفلة فيصبح ويأمر الدلال أن يبيعه فيقول له جيرانه من أهل السوق لم تبيع مولاك ولم تر منه إلا الصلاح والطاعة فيقول لهم مولاه أنه البارحة لم يصل صلاة الليل وأخاف أن تكون له عادة فربما يقتدي به بعض العيال فلا يصلي صلاة الليل فإذا سمعوا ذلك منه صار عندهم عيبا فيأمرون بإخراجه من البحرين وبيعه في غيرها من البلدان”.
أقول: إنَّ في مثل هذه القصَّة، وغيرها كثير، ما يدلُّ على سلامة المجتمع من جهات تدين الناس والتزامهم بالمستحبات فضلًا عن الواجبات، وهذا لا يكون لو لا مظلة من العلماء الصالحين يستظل العباد بها، ويسيرون تحت فيئها.
[4] – العلَّامة البحراني ومذهبه في القضاء، الشَّيخ حسن بن علي آل سعيد، ص92
[5] – ص132