أعطى الله الإنسان نعمةَ العقل وهي الآلةُ التي يتميّزُ بها الإنسانُ عن سائرِ الحيوانات وهو أفضل وأحبُّ مخلوقٍ خلَقه الله جلّ وعلا فعليه يُثابُ الإنسان وبه يعاقبُ ويُجازى. فعن الباقر (عليه السلام) قال: لما خلق الله العقل استنطقه، ثم قال له أقبِلْ فأقبلَ، ثم قال له أدبِر فأدبَر، ثم قال له: وعزتي وجلالي ما خلقتُ خلقًا هو أحبُّ إليّ منك، ولا اكملك إلا فيمن أُحب، أما إنّي إيّاك آمر، وإيّاك أنهى، وإيّاك أُثيب.
وجُعِلَ في فطرة الإنسان وتكوينِه حُبَّ التعلّمِ والتثقّف، فابتغى الوصولَ إلى أعلى مراتبِ التعقّلِ والتفقه، فكثُرت العلومُ والمعارف وازدادتِ المدارسُ والمذاهب، فسادَتِ الأرضُ بِعُلماءَ وحكماء جَمّة
وفرّق سبحانه وتعالى بين العالِم والجاهل وميّزَه بتعظيمِ مقامِه وعلو منزِلَتِهِ فقال جلّ جلاله {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ۗ}
وقال {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ}
فكان للعالم أسمى الدرجات وأرفعِها
“فقد قال الإمام الصادق (عليه السلام): (إذا كان يوم القيامة، جمع اللّه عزّ وجل الناس في صعيد واحد، ووضعت الموازين، فتوزن دماء الشهداء مع مداد العلماء، فيرجح مِداد العلماء على دماء الشهداء).
كما أمرَ أهلُ البيتِ عليهم السلام بتوقيرِ العالم وتكريمه ومحبته فعن أبي عبد الله عليه السلام قال: كان أمير المؤمنين عليه السلام يقول: إن من حقِّ العالم أن لا تكثُر عليه السؤال ولا تأخذَ بثوبه وإذا دخلت عليه وعنده قوم فسلِّم عليهم جميعًا وخصَّهُ بالتحيّة دونهم، واجلس بين يديهِ ولا تجلس خلْفه ولا تغمز بعينكَ ولا تشِر بيدك، ولا تكثر من القولِ: قال فلان وقال فلان خلافًا لِقوله ولا تضجر بطولِ صحبتِه فإنّما مثلُ العالم مثلُ النخلة تنتظرُها حتّى يسقط عليكَ منها شيء، والعالم أعظمُ أجرًا من الصائمِ القائم الغازي في سبيل الله.
عن أبي حمزة الثمالي قال: قال لي أبو عبد الله عليه السلام: اغدُ عالمًا أو متعلّمًا أو أحب أهل العلم، ولا تكن رابعًا فتهلك ببغضهم.
وحثّوا على مجالستِهم ومُصاحبتهم فعن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: قالت الحواريون لعيسى: يا روح الله! من نجالس؟ قال من يذكركم الله رؤيته، ويزيد في علمكم منطقه ويرغبكم في الآخرة عمله
عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله مجالسة أهل الدين شرف الدنيا والآخرة.
وعلى النقيض.. أعابت الجهل وذمّته وجعلته من أشنَعِ الأخلاق وأقبحها وسلبت منه الدين والورع
قال أبو الحسن الثالث (عليه السلام): الجهل والبخل أذم الأخلاق.
قال أمير المؤمنين (عليه السلام): لا غنى كالعقل، ولا فقر كالجهل، ولا ميراث كالأدب، ولا ظهير كالمشاورة.
قال النبي (صلى الله عليه وآله). قوام المرء عقله، ولا دين لمن لا عقل له.
ولذلك لم يكن العلمُ من المُستحبات والمندوبات وإنّما هو فرضٌ وتكليفٌ على كلِّ مُسلِمٍ ومُسلمة، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله: طلبُ العلمِ فريضةٌ على كُلِّ مُسلم ألا وإنَّ الله يُحبُّ بُغاةَ العلم.
فما هو هذا العِلمُ الذي أوجِبَ علينا!
أكُلُّ عِلْمٍ يجب تعلُّمه وهل كلُّ العُلماء يُثابون على تحصيلهم للعلم؟ أم أنه هناك خُصوص لبعضِ العلماء؟
عن أبي الحسن موسى عليه السلام قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وآله المسجد فإذا جماعة قد أطافوا برجل فقال: ما هذا؟ فقيل: علّامة فقال: وما العلّامة؟ فقالوا له: أعلم الناس بأنساب العرب ووقائعها، وأيام الجاهلية، والأشعار العربية، قال: فقال النبي صلى الله عليه وآله: ذاك علمٌ لا يضرّ من جهله، ولا ينفعُ من علِمه، ثم قال النبي صلى الله عليه وآله: إنّما العلم ثلاثة: آيةٌ محكمة، أو فريضة عادلة، أو سنّة قائمة، وما خلاهن فهو فضل.
فهُنا نرى حصرَه (ص) للعلم في ثلاثة أمور وهي الآية المُحكمة أو الفريضة العادلة أو السنّة القائمة فمن لم تكمن فيه هذه الأمور فهو كمّا عبّرَ عنه رسول الله (ص) علم لا يضرُّ من جهله ولا ينفع من علمه.
وفي حديث طويل عن رسول الله صلّى الله عليه وآله أنَّه سئِل ما علامة العلم؟ فقال (ص) “…أما علامة العلم فأربعة: العلم بالله، والعلم بمحبته، والعلم بمكارهه، و الحفظ لها حتى تؤدي… الحديث”
وهنا نُلاحظ من يجب أن يُتّصَفُ بالعلم: وهو أن يكون عارفًا بالله وعالمًا بما يُحبه ويكرهه، وهذا لا يوجَد إلا في المُصدِّق بشرائعِ الله والعامل بها وهم أهلُ الدين
وأيضًا رواياتٌ عديدة تربُطُ العقل بالدين ومن ازدادَ تعقّلُهُ كثُرَ إيمانُه بالله وارتباطه به.
قال (صلى الله عليه وآله): سيّدُ الأعمالِ في الدارين العقل، ولكلِّ شئٍ دعامة ودعامةُ المؤمن عقلُه، فَبِقَدَرِ عقله تكونُ عبادته لربّه.
فالعلماء كما ورد ورثَةُ الأنبياء وحصونُ الإسلام، ومجالستهم تحصيلٌ للعلم وصُحبتهم تحسينٌ للأدب وتزكيةٌ للنفس ومُزاحمتهم إحياءٌ للقلوب، أعُلماء الفيزياء والكيمياء وغيرها من العلوم! أمّ من استضاؤوا بنور عِلم أهل البيت عليهم السلام!
عن كميل بن زياد قال: خرج إليَّ علي بن أبي طالب (عليه السلام) فأخذ بيدي وأخرجني إلى الجبان، وجلس وجلست، ثُمّ رفع رأسه إليّ فقال: يا كُميل احفظ عني ما أقول لك: الناس ثلاثة: عالمٌ رباني، ومتعلّم على سبيل نجاة، وهمجٌ رُعاع أتباع كلّ ناعق يميلونَ مع كُلّ ريح، لم يستضيئوا بنور العلم ولم يلجأوا إلى ركن وثيق…
وفي الختام..
أنُبّه القارئ أنّني لا أعني التقليلَ والانتقاص من بقيّة العلوم والمعارف، وإنّما أردتُ بيان وتبيين المعنى المُراد لطلب العلم من الروايات الشريفة وإيضاح المطلب منها.
والحمد لله ربِّ العالمين
أم الحمزة
٢٥ مايو ٢٠٢٢ م
٢٤ شوال ١٤٤٣ هـ