بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمَّدٍ وآلِه الطيبين الطاهرين
تقويم الأفهام
تصحيح وتحليل لفهم واقع القضايا الزوجية في المحاكم الجعفرية
طلبُ الفهمِ سلوكٌ لا يتركه العقلاء، ويسعى له كلُّ مِنْ رَامَ كَمَالًا، غير أنَّ مَنَالَهُ بعيدٌ عن المستعجلين، وعن الَّذين لا يعتنون بالوقوف على المعاني والمفاهيم؛ مستغنين بما يفرضه الفهمُ الساذجُ ويروجُ لَهُ استبدادُ الإعلام الموجَّه. والحال أنَّ في الفهم الصحيح سلامة من الوقوع في مشاكل لا يحسن بالعاقل أن يُعرِّض نفسه لمثلها.
إنَّنا لطالما اكتشفنا عدم المشكلة عندما نستجلي الأمور فتتضح لنا المعاني سالمةً من مغالطات المخادعين ومشاغبات الجاهلين، وقد جاء عن أمير المؤمنين (عليه السَّلام) أنَّه قال: “لو سَكَتَ الجَاهِلُ مَا اخْتَلَفَ النَّاسُ”، و: “مَقْتَلُ الرجُلِ بَين لحْيَيهِ، والرأيُّ مَعَ الأنَاةِ، وبِئْسَ الظَهير الرأي الفَطِيرْ[1]“[2].
أُثِيرَتْ، مُؤخَّرًا، في الإعلام الإلكتروني قضيَّةً بعنوان: (مُعلَّقات ينتظرن الإنصاف) مُعرَّفةً بـ(حملة لكلِّ النساء اللواتي ظلَّتْ قضاياهنَّ مُعلَّقَةً في أروقَةِ المَحَاكم). وقد تركَّز الكلام في عُنْوَانَيّ التعليق، والخلع فَكَانَا مِحورين للكثير من الكلام والمناقشات والأخذ والرد بين خَلْقٍ كثير.
تابعتُ ما قيل وكُتِب فوقفتُ على اختلالٍ عظيم في فهم السواد الأعظم مِنَ الناس، بل في فهم الرأي العام للأمر الذي يتجاذبون ويتنازعون مفرداته!
أحاول في هذه المقالة المساهمة في رفع الاشتباهات الواقعة فعلًا، لعلَّنا نتمكَّن من التوجُّه إلى أصل المشكلة وتحليلها والتنظير لحلِّها.
العنوانان محلّ الكلام:
أمَّا الخلع، فهو: “الطلاقُ بِفْدْيَةٍ مِنَ الزوْجَةِ الكَارِهَةِ لِزَوجِهَا”[3]. أي أنْ تبذل الزوجةُ الكارهةُ لزوجها مالًا في قبال تطليقها.
وليس الكُرْهُ بمعنى عدم الحب، وإنَّما هو ما يُعتَبَرُ فيه “بُلُوغُ كَراهتها له حدًّا يَحْمِلُها على تَهدِيدِهِ بِتَركِ رِعَايَةَ حُقُوقِهِ الزوجيَّة وعَدَمِ إقَامَةِ حُدُود اللهِ تَعَالى فِيِهِ”[4].
عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (عليه السَّلام)، قَالَ: “لَا يَحِلُّ خُلْعُهَا حَتَّى تَقُولَ لِزَوْجِهَا: واللَّه لَا أُبِرُّ لَكَ قَسَمًا، ولَا أُطِيعُ لَكَ أَمْرًا، ولَا أَغْتَسِلُ لَكَ مِنْ جَنَابَةٍ، ولأُوطِئَنَّ فِرَاشَكَ، ولآَذَنَنَّ عَلَيْكَ بِغَيْرِ إِذْنِكَ“[5]. وعلى هذا استفاضت النصوص عن العترة الطاهرة، فتقرَّر أمران:
الأوَّل: لا يصحُّ البذل المالي للخلع دون كراهة من الزوجة لزوجها.
الثاني: ليس كُلُّ كَرَاهَةٍ مُعْتَبَرَةً شرعًا؛ بل لا بُدَّ أن تحملها على الاستعداد لهتك الحدود التي لا يهتكها إلَّا ذاك الذي أخرجته عوارضُه النفسية عن أطوار القدرة على التحكم بالسلوك.
ثُمَّ إنَّ الكراهة ما لم تصل إلى هذا الحد فإنَّ الخلع حينها لا موضوع له، و”لو طَلَّقها بِعِوَضٍ مَعَ عَدَم كَرَاهَتِها لَمْ يَصحّ الخُلْعُ ولَمْ يَملِكْ الفِدْيَةَ، بَلْ ولا يَصُحُّ أصُلُ الطلاقِ[6]“[7].
كما وأنَّ نفس هذه الكراهة من المرأة لزوجها لا بدَّ أن تكون ذات منشأ يعتبره الشارع المقدَّس. قال السَّيد السيستاني في المسألة 616: ” الكراهة المعتبرة في الخلع أعمُّ مِنْ أنْ تَكونَ ذاتيّةً ناشِئَةً مِنْ خصوصيّات الزوج كقُبْحِ مَنْظَرِهِ وسوءِ خُلُقِهِ وفقره وغير ذلك، وأن تكون عرضيَّةً مِنْ جِهَةِ عدم إيفائه بعض حقوقها المستحبَّة أو قيامه ببعض الأعمال التي تخالف ذوقها كالتزوُّج عليها بأُخرى.
وأمّا إذا كان منشأ الكراهة وطلب المفارقة إيذاء الزوج لها بالسبّ والشتم والضرب ونحوها فأرادت تخليص نفسها منه فبذلت شيئًا ليطلّقها فلا يصحّ البذل ويبطل الطلاق خُلْعًا، بل مُطلقًا.
ولو كان منشأ الكراهة عدم وفاء الزوج ببعض حقوقها الواجبة كالقَسْم والنفقة صحّ طلاقها خلعًا”.
فلا بُدَّ من الكراهة المعتبرة شرعًا، وأن تكون ذات منشأ مُعتَبر، وعلى هذا الكثير من النصوص الشريفة؛ منها ما في الكافي بسنده عَنْ أَبِي الصَّبَّاحِ الْكِنَانِيِّ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (عليه السَّلام)، قَالَ: “إِذَا خَلَعَ الرَّجُلُ امْرَأَتَه فَهِيَ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ، وهُوَ خَاطِبٌ مِنَ الْخُطَّابِ. ولَا يَحِلُّ لَه أَنْ يَخْلَعَهَا حَتَّى تَكُونَ هِيَ الَّتِي تَطْلُبُ ذَلِكَ مِنْه مِنْ غَيْرِ أَنْ يُضِرَّ بِهَا، وحَتَّى تَقُولَ: لَا أُبِرُّ لَكَ قَسَمًا، ولَا أَغْتَسِلُ لَكَ مِنْ جَنَابَةٍ، ولأُدْخِلَنَّ بَيْتَكَ مَنْ تَكْرَه، ولأُوطِئَنَّ فِرَاشَكَ، ولَا أُقِيمُ حُدُودَ اللَّه. فَإِذَا كَانَ هَذَا مِنْهَا فَقَدْ طَابَ لَه مَا أَخَذَ مِنْهَا”[8].
إذا وصلت الزوجة إلى هذا الحدِّ الخاص من الكراهة لزوجها حقَّ لها الخلع ببذل مال يرضاه الزوج.
عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السَّلام)، قَالَ: “الْمُبَارِئةُ يُؤْخَذُ مِنْهَا دُونَ الصَّدَاقِ، والْمُخْتَلِعَةُ يُؤْخَذُ مِنْهَا مَا شَاءَ أَوْ مَا تَرَاضَيَا عَلَيْه مِنْ صَدَاقٍ أَوْ أَكْثَرَ؛ وإِنَّمَا صَارَتِ الْمُبَارِئَةُ يُؤْخَذُ مِنْهَا دُونَ الْمَهْرِ والْمُخْتَلِعَةُ يُؤْخَذُ مِنْهَا مَا شَاءَ لأَنَّ الْمُخْتَلِعَةَ تَعْتَدِي فِي الْكَلَامِ وتَكَلَّمُ بِمَا لَا يَحِلُّ لَهَا“[9]. ومن هنا يظهر مدى فساد الدعوة لتقنين البذل بحدٍّ معين. نعم؛ يجوز ذلك بشرط يُشترط في العقد.
ينبغي الوعي إلى ندرة ما يصحُّ شرعًا أنْ يكونَ مِنْ موارد الخُلع، لا سيَّما في مثل مجتمعاتنا. نعم؛ هناك انتشار لثقافة خاطئة وعقلية على غير هدى، وهي خيار الطلاق الذي يُلجأ إليه لدواعي لا علاقة لها بقوام كلٍّ مِن عقد النكاح والعلاقة الزوجية؛ أمَّا العقد فقوامه التمكين والمهر وما يترتب من حقوق ثابتة لكلِّ واحد من الزوجين على الآخر. وهذا أدنى ما تُحفظ به العلاقة الزوجية، وهو ما لا يسمح الشارع المقدَّس بهتكه.
وأمَّا العلاقة الزوجية فقوامها ما يُفيده قول الحقِّ سبحانه وتعالى (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)[10]، وقوله جلَّ في علاه (هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ)[11]، وغيرها من النصوص التي تؤكِّد على قِيَمٍ عاليةٍ مثل: السَكَن النفسي، والمودَّة، والرحمة، والستر المتبادل..، وما إلى ذلك من مُثُل مهمَّة ولها دخالة حقيقية في سلامة المجتمع، غير إنَّ عدمها لا يعني انتقاضها بعكسها.
لذا، فإنَّ مجرَّد المحافظة على ما يقوم به العقد يكفي للصرف عن خيار الطلاق، إلَّا أن يتراضيا عليه، وهو التسريح بإحسان ما لم يتحقَّق الإمساك بالمعروف.
هذه مسألة في غاية الأهمية؛ فالزواج ليس تجربة، ولا هو طريق يُستهان بتركه بعد سلوكه. وإنَّما يُصار إلى الطلاق عند انعدام الحلول للمحافظة على أصول العقد ومعروف الإمساك.
تطرح بعضُ المؤمنات السؤال التالي:
ماذا لو كانت المرأةُ مُحبة لزوجها، ولم يكن هو مُخلًّا بحقوقه الشرعية تجاهها، ولكنَّه كان جافًّا في عاطفته، أو كان يضربها، أو كانت سيرته غير سويَّة كما لو كان يشرب الخمر -والعياذ بالله-، أو يستعمل المخدرات، أو ما نحو ذلك من انحرافات سلوكية. فهي بالرغم من حبِّها له، أو فلنقل: عندم كرهها له، إلَّا أنَّها ترفض العيش معه، فما هو السبيل إلى رفع معاناتها؟
الجواب: لا ينحصر تطليق المرأة بطلب منها في الخلع، وإنَّما كان هو موضوع هذه المقالة لغرض توضيح حدوده دفعًا لمحاذير الخلط، وقد أشرنا إليها.
نعم، فإذا تمكَّنت الزوجة، كونها مُدَّعية، مِنْ إثبات الضرر السالب لإمكان العشرة استدعاه القاضي وأمره “بمعاشرتها بالمعروف أو تسريحها بالطلاق، فإن رفض كلا الأمرين ولم يمكن إلزامه، جاز للحاكم الشرعي أن يطلّقها استجابةً لطلبها”، بل وأكثر من ذلك أنَّ الشرع يجيز لها الخروج من دار الزوجية فيما لو لم تتمكن من رفع أمرها إلى الحاكم الشرعي وكان بقاؤها فيه ضرريًّا أو حرجيًّا بحدٍّ لا يُتحمَّل عادةً[12].
بذلك ينحصر البحث في أمرين: أوَّلهما إثبات المُدَّعي، وثانيهما حاكم الشرع أو الموكَّل من قِبَلِه.
أمَّا الأوَّل فقاعدة (البيَّنة على من ادَّعى) ثابتة في الشرع المُقدَّس وفي القانون الوضعي، ولا يصحُّ القضاء دون بيَّنة شرعية ثابتة.
وأمَّا الثاني فياتي الكلام عنه إن شاء الله تعالى.
إذا فُهِمَ ذلك استطردنا بالتنبيه على الحرمة المُغلَّظة على الزوج بأن يستغِلَّ هذا التشريع الشريف فيُؤذي زوجته إلى حدِّ الوصول بها إلى هذه الكراهة الخاصَّة له.
روى المجلسيُّ عن أعلام الدين؛ عن النبيِّ (صلَّى الله عليه وآله)، قال: “أيُّما امرأة اخْتَلَعَتْ مِنْ زَوجِهَا لَمْ تَزَلْ في لَعْنَةِ اللهِ وملائكتِهِ ورُسُلِهِ والنَّاسِ أجمعين، حتَّى إذا نزل بها مَلَكُ الموت قيل لها: أبشري بالنار. فإذا كان يوم القيامة قيل لها: ادخلي النَّار مع الداخلين؛ ألا وإنَّ الله ورسوله بريئان من المُخْتَلعات بغير حَقٍّ. ألا وإنَّ الله ورسولَه بريئان مِمَّن أضَرَّ بامرأةٍ حتَّى تَخْتَلِعَ مِنْهُ، ومَنْ أضَرَّ بامرأة حتَّى تَفْتَدي مِنْهُ لَم يَرْضَ اللهُ عَنْهُ بِعُقُوبَةٍ دُونَ النَّارِ؛ لأنَّ اللهَ يَغْضَبُ للمَرْأَةِ كَمَا يَغْضَبُ لليَتيم”[13].
التصريح بالعبارات الخاصَّة:
قال ابنُ إدريس بإجماع الأصحاب “على أنَّه لا يجوز له خلعها، إلَّا بعد أن يسمع منها ما لا يحلُّ ذكره؛ من قولها: لا أغتسل لك من جنابة، ولا أقيم لك حدًّا، ولأوطِئَنَّ فراشك من تكرهه، أو يعلم ذلك منها فعلًا”[14].
وقبله قال شيخُ الطائفة: “وإنَّما يجبُ الخلعُ إذا قالت المرأةُ لزوجها: إنِّي لا أطيع لك أمرًا، ولا أُقيمُ لك حدًّا، ولا أغتسل لك من جنابة، ولأُوطِئَنَّ فراشك من تكرهه إنْ لم تطلقني. فمتى سمع منها هذا القول، أو علم من حالها عصيانه في شيء من ذلك، وإن لم تنطق به، وجب عليه خلعها”[15].
فالظاهر اكتفاء الأعلام بما يُثبِتُ الكراهة الخاصَّة، وهي التي لو عبَّرت الزوجةُ عنها لَوَصَلَ بِهَا إلى التصريح بِمَا نَصَّتْ عليه الأحاديثُ الشريفةُ؛ والوجه في ذلك عدمُ تصوُّرِ خصوصيَّةٍ مَحفُوظَةٍ في نفسِ ألفاظِ وتراكيب العبارات المذكورة، والتعبُّد غير معقول؛ لا سيَّما وأنَّ “كثيرًا مِنَ النساء وإنْ كَرهنَ كراهةً تامَّةً إلَّا أنهُنَّ لا يهتدَينَ إلى هذه الأقوال و لا أمثالها”[16].
اتَّضح بذلك الميزان في كون المشكلة الطارئة بين الزوجين ممَّا يصحُّ معه الخلع أو لا، والأمر في غاية الأهمية لِمَا لا يَخْفَى مِنْ العناية الفائقة للشارع المقدَّس بالفروج والدماء. فافهم.
وفي حَالِ إخلال الزوجة بحقوق زوجها، والإصرار على ذلك، مع عَدَمِ تَحَقُّقِ مُسوِّغ الخلع، دخلت في حكم الناشز.
قال في المنهاج: “النشوز قد يكون من الزوجة، وقد يكون من الزوج: أمَّا نشوز الزوجة فيتحقَّقُ بِخُرُوجِهَا عَنْ طَاعَةِ الزوج الواجبة عليها، وذلك بعدم تمكينه مِمَّا يَستَحقُّه من الاستمتاع بها، ويدخل في ذلك عدم إزالة المُنَفِّرات المُضَادَّة للتَمَتُّع والالتِذَاذ مِنْهَا، بل وتَرْكِ التنظيف والتَزَيين مع اقتضاء الزوج لها، وكذا بخروجها من بيتها من دون إذنه، ولا يَتَحَقَّقُ بترك طاعته فيما ليس واجبًا عليها كخدمة البيت ونحوها مِمَّا مَرَّ.
وأمّا نشوز الزوج فيتحقَّقُ بِمَنْعِ الزوجة من حقوقها الواجبة عليه، كترك الإنفاق عليها، أو ترك المبيت عندها في ليلتها، أو هجرها بالمَرَّة، أو إيذائها ومشاكستها من دون مبرّر شرعيِّ”[17].
والكلام في نشوز الزوج؛ لما نحن بصدده، وهو النظر في الحدود الشرعية لفعل الزوجة. فـ”إذا نَشَزَ الزوجُ على زوجَتِهِ بِمَنْعِها حقوقها الواجبة عليه فلها المُطَالَبَةُ بها وَوَعْظُهُ وتَحذيرُهُ، فإنْ لَمْ يَنْفَع فَلَهَا رَفْعُ أمْرِهِا إلى الحَاكِمِ الشَرْعيِّ، وَليسَ لها هَجْرُهُ ولا ضَرْبُهُ والتعدِّي عَليهِ”[18].
و”إذا امتنع الزوج عن الإنفاق مع قدرته عليه فرفعت الزوجة أمرها إلى الحاكم الشرعيّ، أبلغه الحاكم بلزوم أحد الأمرين عليه: إمّا الإنفاق أو الطلاق، فإن امتنع عن الأمرين ولم يمكن الإنفاق عليها من ماله – ولو ببيع عقاره إذا توقّف عليه – ولا إجباره على الطلاق جاز للحاكم أن يطلِّقها بطلبها”[19].
فينتقلُ الكلامُ إلى الحاكم الشرعي؛ وهو الفقيه الجامع للشرائط، فتكون فتاواه بعنوان مرجعيته الدينية، وأمَّا أحكامه فبعنوان حاكميته الشرعية.
وقع البحث بين الأعلام في حدود الحاكمية الشرعية للفقيه الجامع للشرائط، فحُصِرَتْ عند بعضٍ في الأمانة المالية كما في أموال اليتامى، ومجهول المالك، وما نحو ذلك، فيما اتَّسعتْ إلى آخرين لتكون نفس ولاية المعصومين (عليهم السَّلام) ما عدا مقام العصمة.
تحدُّد المشكلة:
ظهر انحصار المشكلة في أمرين:
الأول: البناء على توهُّم حَقِّ الخُلع.
فالظاهر أنَّ ممَّا يُطرح على القضاء لا تكون فيه الزوجة على حدِّ الكراهة الخاصَّة للزوج، ومع توهمها ثبوت حقِّ الخلع لها تُصِرُّ على ترك بيت الزوجية، فيتحقَّق نشوزُها فيما ترى نفسها مظلومةً، لا ادِّعاءً ولا عنادًا، وإنَّما لاختلاط المفاهيم وعدم وضوحها.
الثاني: مفهوم حاكم الشرع وحدود ما يُناط به من وظائف شرعية.
بعد التنبيه على انحصار حقَّ التطليق في مَنْ أخذ بالساق، وإلَّا فحاكم الشرع؛ وهو الفقيه الجامع للشرائط، أو وكيله، فلا بُدَّ من الانتباه إلى عدم ضرورة كون القاضي في المحاكم المعاصرة فقيهًا جامعًا للشرائط، وإنْ كان عالمًا محيطًا بأحكام الشرع الحنيف؛ فإنَّ ذلك لا يُصيِّره حاكمَ شرعٍ، وبالتالي فهو فاقد للولاية التي يثبت بها حق التطليق في الموارد المذكورة في الفقه الشريف، إلَّا أنْ يُوكَّل من الفقيه الجامع للشرائط.
يضاف إليهما تصعيب الطلاق في الفقه الجعفري الشريف؛ لمبغوضيته عند الله جلَّ في عُلاه، فعَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (عليه السَّلام)، قَالَ: “إِنَّ اللَّه عَزَّ وجَلَّ يُحِبُّ الْبَيْتَ الَّذِي فِيه الْعُرْسُ، ويُبْغِضُ الْبَيْتَ الَّذِي فِيه الطَّلَاقُ، ومَا مِنْ شَيْءٍ أَبْغَضَ إِلَى اللَّه عَزَّ وجَلَّ مِنَ الطَّلَاقِ“[20].
ومع الوقوف على شِدَّة الإسلام العظيم في صيانة الدماء والفروج، نفهم الأهمية البالغة لإقامة المجتمع إلى أسس وأصول تُبعِد الناس عن المساس بِحُرُمَاتها. ولا شكَّ ولا شبهةَ في أنَّ تطليق من لا يملك حقَّ التطليق عدمٌ، وإنْ لم يعتبره خصوص طرف الزوجة فهي من حينها تتقلب في الحرام، لا سيَّما فيما لو أقدمت على الزواج من آخر! وقد حدث مثل ذلك في بعض البلدان فعلًا بتطليق امرأة في محكمة ليست على المذهب الجعفري، والزوجة الآن ترى نفسها مُطلَّقة، والحال أنَّها ليست كذلك!
فكرة وكالة الزوجة في تطليق نفسها:
طُرِحَتْ فِكرَةُ اشتراط المرأة في عقد الزواج توكيلها من الزوج في تطليق نفسها؛ لغرض حمايتها -بحسبهم- من التعرُّض لمشاكل القضاء في المحاكم الجعفرية.
أقول:
إن كان في الوضع القائم مِنَ الفساد ما مقداره 3 من 10، فإنَّ في توكيل المرأة في تطليق نفسها من الفساد ما يتجاوز الحد الأقصى[21]. وإنِّي لأرجو مِنَ اللهَ سبحانه وتعالى اصطلامي قبل أنْ أشهد مثل ذلك اليوم الأسود!
مثل هذه الحلول الناتجة عن انحصار الذهن في حدود نفس المشكلة الواقعة، كمثل ذاك الذي لا يريد ترك السُكر، ويُطالب الشرع بتمديد وقت الصلاة حتَّى يفيق السكران من سكره فيصليها أداءً لا قضاءً!
ليس بخاف، على ذي مسكة من عقل، رجوع المشاكل الزوجية المعاصرة إلى أبعاد تربوية وثقافية أنْتَجَتْ في سلوكيات ومسالك الناس سِمَاتٍ تُبعدهم عن الاستقرار، في الزواج وغير الزواج[22]. وإنَّنا ما لم ننصرف إلى تصحيح الكثير من المفاهيم الخاطئة أحيانًا، والمغلوطة أحينًا أخرى؛ فالمآل الأقرب هو إلى التسليم لسُنَنِ الغرب في الحياة، مع الاجتهاد في أوَّل الأمر لتغيير الدين بما يوافق المستورد، كما نرى اليوم مَنْ يطرح فكرة إلزام الزوج بعدم تجاوز حدِّ المهر -مثلًا- في موارد البذل للخلع، وكأنَّ ثقافات الناس هي مصدر التشريع!
خاتمة:
لم يكن الداعي لكتابة هذه المقالة الاستطراد في بحث أسس الزواج وما عرض عليها من فساد عظيم دَرَسَ قيمها، ومَحَقَ مفاهيمها السامية فانمحت من الأذهان وغابت عن النفوس، ولكنَّ الغاية لم تكن أكثر من الإشارة إلى عمق الاشتباه الذي وقع فيه السواد الأعظم من الناس، ما انتهى بهم إلى أن وضعوا اعناقهم في قناةِ مَقْصَلَةِ التخريب ليتواصل عمل الشيطان الرجيم في تشويه أفهام الناس والزيغ بهم بعيدًا إلى حيث يريد.
فأقول بضرس قاطع: ليس أصل المشكلة في المحاكم الجعفرية، ولا هو في التشريعات الفقهية، وإنَّما في جهتين رئيسيتين:
الأولى: فساد الأسس والأفهام التربوية والثقافية المعاصرة ما أدَّى إلى فساد البناء.
فليبحث طالبو الإصلاح عن مناشئ المشاكل، وليتوقفوا عن تحميل الشرع الشريف مسؤولية تقديم الحلول لمشاكل أنتجتها تراجعاتُهم العظيمة عن حضارة التعاليم الإسلامية المنيفة. وقد قال الله جلَّ في علاه (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)[23].
الثانية: التراجع الكبير لفهم العامَّة لواقِعَين: أولهما واقع التشريع، وثانيهما واقع المسؤولية الشرعية التي يتحملها القضاة.
لو أنَّ الناس يقفون على هذين الواقعين لعلموا ما عليه القضاء الجعفري من تقوى ومن احتياط في الدين، ولفهموا جيِّدًا بأنَّ السرعة في الفصل، والحكم لصالح الزوجة، ليسا تقدُّمًا ولا تحضُّرًا، وليس فيهما حماية لحقوق المرأة؛ بل في ذلك فتح لباب الفساد الذي لا يمكن تقديم إثباته إلَّا بدراسات إحصائية وتحليلية، وإلَّا فهو واضح لخالي الذهن من مسبقات موجَّهة.
يُثمِرُ عن الوقوف على هذين الواقعين توجُّهٌ موضوعي حكيم للنظر في أُسس الزواج، منذ أوائل مراحل التربية، إلى التنشئة مفاهيم الإسلام ورؤيته الكونية، وصولًا إلى فهم الزواج والعلاقة الزوجية فهمًا صحيحًا ناضجًا بما يُؤصِّل له الثقلان، الكتابُ الكريم والعترة الطاهرة.
إنَّ العلاقة الزوجية ليست مفردة مستقلة في الحياة، بل ولا غيرها من المفردات يصحُّ أن تكون مستقلة؛ والصحيح أنَّ كلَّ مفهوم اجتماعي وتربوي في هذه الحياة الدنيا مرتبط بغيره ارتباطًا عضويًا وثيقًا، وأي عزل لإحداها فهو علَّة تامَّة لفساد الجميع.
لذا، فمن تمام الحكمة أن نبحث دائمًا عن أصول القضايا، وأن نترك، بل نتوب عن طلب العلاجات لنفس المشاكل الظاهرة؛ حيث إنَّها ليست إلَّا وجودات وجبت لوجوب عللها. فافهم رعاك الله تعالى.
عَنْ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا الأَنْصَارِيِّ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (عليه السَّلام)، قَالَ سَمِعْتُه يَقُولُ:
“مَنْ سَرَّه أَنْ يَسْتَكْمِلَ الإِيمَانَ كُلَّه فَلْيَقُلِ الْقَوْلُ مِنِّي فِي جَمِيعِ الأَشْيَاءِ قَوْلُ آلِ مُحَمَّدٍ فِيمَا أَسَرُّوا ومَا أَعْلَنُوا وفِيمَا بَلَغَنِي عَنْهُمْ وفِيمَا لَمْ يَبْلُغْنِي”.
السَّيد محمَّد بن السَّيد علي العلوي
16 صفر 1443 للهجرة
البحرين المحروسة
………………………………
[1] – يُقال: الرأي الفطير للرأي الذي يُطرح من غير رويَّة.
[2] – بحار الأنوار – العلامة المجلسي – ج 75 – ص 81
[3] – منهاج الصالحين – السَّيد علي السيستاني – ج3 كتاب الخلع والمباراة، طلاق الخلع، المسألة 611
[4] – المصدر السابق؛ المسألة 615
[5] – الكافي – الشيخ الكليني – ج 6 – ص 139 -140
[6] – يقع الطلاق بشروط مذكورة في نفس المسألة، وإنَّما كان إعراضنا عنها لعدم دخالتها في موضوع المقالة.
[7] – منهاج الصالحين – السَّيد علي السيستاني – ج3 كتاب الخلع والمباراة، طلاق الخلع، المسألة 617
[8] – الكافي – الشيخ الكليني – ج 6 – ص 140
[9] – الكافي – الشيخ الكليني – ج 6 – ص 142
[10] – الآية 21 من سورة الروم
[11] – الآية 187 من سورة البقرة
[12] – راجع: موقع مكتب سماحة المرجع الديني الأعلى السَّيد علي الحسيني السيستاني (دام ظلُّه)، الاستفتاءات – الحقوق الزوجية، س 6 س 18، ( https://www.sistani.org/arabic/qa/0446/ )
[13] – بحار الأنوار – العلامة المجلسي – ج 101 – ص 164
[14] – كتاب السرائر الحاوي لتحرير الفتاوي – ابن إدريس الحلِّي – ج2 ص737
[15] – النهاية – الشَّيخ الطوسي – ص925
[16] – الحدائق الناضرة في أحكام العترة الطاهرة – الشَّيخ يوسف البحراني – ج25 ص 599
[17] – منهاج الصالحين – السَّيد علي السيستاني – ج3 في أحكام النشوز والشقاق، المسألة 350
[18] – المصدر السابق، المسألة 354
[19] – المصدر السابق، المسألة 256
[20] – الكافي – الشيخ الكليني – ج 6 – ص 54
[21] – راجع للكاتب: مسألة وكالة الزوجة في تطليق نفسها ( http://alghadeer-voice.com/archives/5270 ) و: أبحاث كتاب الطلاق؛ توكيل الزوجة في طلاق نفسها – صيغة الطلاق، لسماحة الشَّيخ محمَّد علي العُرَيبي ( https://www.ketabat.org/writings/298 )
[22] – راجع للكاتب: المشاكل الزوجية في سياق الثقافة الحاكمة ( http://alghadeer-voice.com/archives/5383 ) و: الزواج في ظرف هواجس مشاكل الطلاق ( http://alghadeer-voice.com/archives/5279 )
[23] – الآية 41 من سورة الروم