بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسَّلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمَّد وآله الطيبين الطاهرين
لفت انتباه وتنبيه:
لا يحسن بالقارئ الكريم التفضل بقراءة هذا المقال قبل قراءة سابِقَيه، وهما حلقتان في محلِّ المقدمة الموضوعية بعنوان (الدين وواقع الحياة)[1]، بل أرجو رجاءً خاصًّا وجادًّا من كلِّ من لم يقرأهما أن لا يقرأ هذا المقال، إلَّا أن يبدأ بهما وينهيهما عن فهم واستيعاب وهضم.
ثُمَّ إنَّ القارئ الكريم لا يحتاج لقراءة ما لا يُتمه ويصر على فهمه واستيعاب مطالبه على وفق قصد الكاتب، لا على وفق مشتهياته هو ومسبقاته الثقافية. لذا فإنَّ من يقرأ قراءة اجتزائية، أو كما يعبِّرون اليوم، مسحية سريعة، فرجائي منه عدم إشغال نفسه بقراءة هذا المقال. مع بالغ التقدير والاحترام.
أساس:
هذه جهة دقيقة، نضعها بين يدي المقال، ينبغي فهمها فهمًا صحيحًا، وهي حكم الشيءِ في نفسه وبالقياس إلى غيره، والأصل مطلقًا هو أنَّ الشيء كاملٌ في نفسه، ولا مفاضلة بين شيء وآخر من جهة الحكم النفسي؛ فالفرس كاملٌ في نفسه، ولا يُقال بفضل الإنسان عليه أو بفضله على الإنسان إلَّا مع فرض جهة ثالثة يُقاس عليها، فلا يكون النقص نفسيًا، وإنَّما بالقياس إلى غيره. وكلامنا في التكوين من جهة فلسفية، وبالتالي فإنَّه لا يُقال: الجوعُ نقصٌ والعطشُ نقصٌ والحاجةُ إلى الزوج نقصٌ.
فليكن واضحًا إذن أنَّ الكمال المقصود هو الكمال الماهوي أوَّلًا، وكمال الأعراض بالنظر إلى نفس معروضها ثانيًا؛ أي أنَّ المشي للماشي كمال بالنظر إلى نفسه، لا إلى الحاجة للانتقال.. وهكذا..
هذه مسألة دقيقة، ولا بُدَّ للعاقل مِن أن يفهمها فهمًا صحيحًا وأن تكون في ذهنه حاضرةً بوضوح؛ وذلك كي لا ينحرف به الفهم في منتصف الطريق فيُضيِّع المَطْلَبَ ويخرج عن الموضوعية.
اشتباهٌ مدفوع:
في عالم الخلق والإمكان فإنَّ الكمال المطلق هو كمال الشيء من كلِّ جهاته بالقياس إلى ما دونه مطلقًا، ولو تحقَّق هذا الفرد للزم أن يكون ساكنًا؛ حيث إنَّ الحركة في نفسها طلب للكمال، والفرض أنَّه كامل من كلِّ جهاته، فلا باعث على الحركة حينها. ولكنَّ نفسَ هذا الفرد الكامل لو قيس على الخالق سبحانه وتعالى لظهر نقصه فتجدَّدت فيه الحركة لينبعث لتحصيل كمالاته وسد نقائصه.
إذا فهمتَ ذلك اتَّضح لك أنَّ كلامنا عن الكمال النفسي مُحدَّدٌ في نفس الموضوع دون قياس إلى غيره مطلقًا. فاحذر التشوش في النظر والفهم.
التمييز بين التكوين والتشريع:
يريدُ اللهُ تعالى للشمس أن تطلع من المشرق، ويريد للصلاة المعروفة أن تتحقَّق خمس مرَّات في اليوم.
تختلف الإرادتان من جهة تعليق وعدم تعليق التحقُّق الخارجي على الغير؛ فإنَّ الشمس تطلع من المشرق بإرادة تكوينية، وهي الإرادة التي لا يُعلَّق تحقُّق المراد فيها على أكثر من إرادته جلَّ في علاه.
أمَّا الصلاة فقد علَّق اللهُ تعالى تحقُّقَهَا في الخارج على امتثال الإنسان في ضمن تشريعات خاصَّة مثل البلوغ والعقل، ودخول الوقت، وما إلى ذلك.
العبث في التكوين:
يتمكَّن الإنسانُ من تعطيل التحقُّق الخارجي للإرادة التشريعية بمجرَّد إعراضه عن امتثال أمر الله تبارك ذكره، ولكنَّه أيضًا أخذ نفسَه للعبث بما تصل إليه يده من تحقُّقات تكوينية؛ مثل التغيير الجنسي بين الذكر والأنثى، وإدخال المرأة في أطوار هرمونية لتكتسب جسمًا عضليًا مثل الرجل، وغير ذلك كثيرٌ كثيرٌ من العبث والإفساد الذي لن يمتنع عن تعطيل وتأخير غياب الشمس لو طالت يداه ذلك التكوين!
النصوص الشريفة:
تكشف وتقدِّم لنا بيانات الثقلين، الكتاب والعِترة، مسالكَ الكمال لكلِّ ما يخصُّ الإنسان مطلقًا، ولمقدمات معينة فنحن نقطع قطعًا جازمًا عن يقين بأنَّ الكمال في القصاص الشرعي من القاتل بالطريقة التي بينها الشارع المقدَّس، ونقطع قطعًا جازمًا عن يقين بأنَّ الكمال في تكليف الذكر والأنثى عند السنِّ المُحدَّد في الشريعة الغرَّاء، سواء فهمنا أم لم نفهم عِلل التشريع والمصالح المترتبة عليه؛ فإنَّ الكفاية مطلقًا في أنَّ جهةَ صدور الأمر هي الله الخالق الحكيم سبحانه وتعالى. ولا اجتهاد مطلقًا أمام الثقلين.
نستعرض تاليًا بعض النصوص الشريفة التي تكشف لنا عن الموقع الصحيح للمرأة، وهو الذي لو تفطَّنَتْ له لأغناها تفطُّنِها عن إدخال نفسها في مقارنات فاسدة تُفقِدُها عزَّ جمالِها وعلوَّ شأنها وجلالَ عفَّتِها.
إن لم تكن النصوص قد تواترت فهي على أدنى التقديرات مستفيضة من جهةٍ، ومُؤيَّدَةٍ من جهة أخرى بفهم الأعلام واتفاقهم على مدلولاتها ولو في الجملة، وأعنى النصوص الدالة على ثبوت الصلاح في لزوم المرأة لدارها وبعدها عن الاختلاط بالرجال.
عن أبي عبد الله الصادق (عليه السَّلام)، قال: قال أميرُ المؤمنين (عليه السَّلام) في رسالته إلى الحسن (عليه السَّلام):
“واكْفُفْ عَلَيْهِنَّ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ بِحِجَابِكَ إِيَاهُنَّ؛ فَإِنَّ شِدَّةَ الْحِجَابِ خَيْرٌ لَكَ ولَهُنَّ مِنَ الِارْتِيَابِ، ولَيْسَ خُرُوجُهُنَّ بِأَشَدَّ مِنْ دُخُولِ مَنْ لَا تَثِقُ بِه عَلَيْهِنَّ. فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ لَا يَعْرِفْنَ غَيْرَكَ مِنَ الرِّجَالِ فَافْعَلْ”[2].
موافقةً لهذا المعنى جاءت رواية دعائم الإسلام عن علي (عليه السَّلام)، قال: قال لنا رسول الله (صلَّى الله عليه وآله): “أيُّ شيءٍ خيرٌ للمرأة؟ فلم يُجِبْهُ أحَدٌ مِنَّا. فذكرتُ ذَلِكَ لِفَاطِمَةَ (عليه السَّلام) فقالتْ: مَا مِنْ شَيءٍ خَيرٌ لِلمَرأةِ مِنْ أنْ لا تَرَى رَجُلًا وَلا يَرَاهَا. فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ الله (صلَّى الله عليه وآله)، فقال: صَدَقَتْ، إنَّها بِضْعَةٌ مِنِّي”[3].
ووافقه ما رواه الدعائم أيضًا عن جعفر بن محمَّد (عليه السَّلام) أنَّه قال: “اسْتَأذَنَ أعْمَى على فَاطِمَةَ (عليه السَّلام) فَحَجَبَتْهُ!
فقال لها النَبِيُّ (عليه السَّلام): لِمَ تَحْجُبِينَهُ وهو لا يَرَاكِ؟
قالتْ: يا رسُولَ الله، إنْ لَمْ يَكُنْ يَرَانِي فَإنِّي أرَاهُ، وهُوَ يَشُمُّ الريحَ.
فقال رسولُ اللهِ: أَشْهَدُ أنَّكِ بِضْعَةٌ مِنِّي”[4].
وقد أفاد السَّيد الخوئي (قُدِّس سرُّه) في خصوص روايات دعائم الإسلام بأنَّ “الحقَّ فيه ما ذكره المجلسيُّ في البحار: ورواياته تصلح للتأكيد والتأييد”[5].
وكيف كان؛ فإنَّ هذه الروايات متَّفقةٌ تمامَ الاتِّفاق مع آيات الكتاب العزيز. قال عزَّ مِنْ قائل (وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)[6].
في هذه الآية الشريفة مجموعةٌ من الأحكام التي يتبين منها خيرية بقاء المرأة في دارها؛ إذ قوله جلَّ في علاه (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ ..) أظهر في كون الزينة مِنَ المرأة وليست مضافة إليها، ويؤكِّده ما عَنِ الْفُضَيْلِ بْنِ يَسَارٍ، قَالَ: “سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّه (عليه السَّلام) عَنِ الذِّرَاعَيْنِ مِنَ الْمَرْأَةِ أهُمَا مِنَ الزِّينَةِ الَّتِي قَالَ اللَّه تَبَارَكَ وتَعَالَى: (ولا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ)؟
قَالَ (عليه السَّلام): نَعَمْ؛ ومَا دُونَ الْخِمَارِ مِنَ الزِّينَةِ ومَا دُونَ السِّوَارَيْنِ”[7].
ولا يخفى ما يقتضيه التنقيح، بل هو ظاهر ولا يحتاج إلى أكثر من التفات إلى أنَّ حرمة الإبداء ليست لنفس بشرة الجزء من صدر أو بطن أو ذراع، بل لما يرسم الجزء ويظهر تقاسيمه؛ لضرورة أنَّ المرأة لا تبدي بشرةَ جَسَدِهَا لِغَيرِ زَوْجِها.
أمَّا النهي عن الضرب بالرجل أثناء المشي فلا يقتصر على خشيةَ ظهور الزينة كصوت الخلخال أو ما نحو؛ وإنَّما مع ضمِّه لحرمة إبداء الزينة وما تقدَّم من معناها يشمل رسم تقاسيم الجسد أثناء المشي. فتنبَّه واحذر الغفلة.
التطبيق في الواقع الخارجي:
لا يمكن لمثل هذا الطرح أن يجد قبولًا بين عموم الناس، بل ولا حتَّى بين خصوص المؤمنين؛ حيث إنَّ من أكثر المسائل استهجانًا ورفضًا مسألة بقاء المرأة في دارها، بل هي ليست مستهجنة فحسب، وإنَّما مثار للتهمَّة والدعوة لعزل من يتبناها وإبعاده عن المجتمع؛ فهو بحسب ميزان العصر ومعاييره من دعاة الرجعية والتخلُّف!
إنَّ ما نعيشه من رفض أو تحوير وتوجيه للنصوص الداعية لالتزام المرأة دارها هو صنيعةُ مراحل من التوجيه الثقافي المدروس على مدى عقود من الزمن، ويؤكِّدُ ذلك أنَّ الدعوة لخروج المرأة من دارها ومشاركتها للرجل تنشأ أوَّلًا من القياس على الواقع الخارجي على أساس الاشتراك الذهني والقدرة على إنجاز ما ينجزه الرجل، وقد بيَّنَّا الوجه، بل الوجوه في بطلان هذا النوع من القياس (راجع الحلقة الأولى من: الدين وواقع الحياة)[8].
وثانيًا فإنَّ من مظاهر التحضُّر والمدنية مشاركة المرأة للرجل في العمل وصناعة النجاح في مختلف الميادين والأصعدة، ولذلك نرى أنَّ من دواعي التباهي اليوم شغل المرأة لمواقع سياسية أو صناعية أو اقتصادية وغير ذلك ممَّا يكون إرجاع النجاح فيه والإنجاز للمرأة كما هو للرجل، وبالتالي فإنَّ إبعاد المرأة تعطيلٌ لعجلة التحضُّر والمدنية. ويُقال لمن يدعو إلى التزام المرأة دارها: رجعي ويريد إرجاعنا لزمن الخيمة والبعير!
ردُّ اشتباه:
هي بالنسبة لعموم المؤمنين اشتباه، غير أنَّها في أصلها مغالطة يُضلِّلُ بها الشيطانُ وجنودُه الثقافة العامَّة. إنَّها مسألة خروج السَّيدة الزهراء (عليها السَّلام) للخطبة، وخروجها مع أمير المؤمنين (عليه السَّلام) في بعض المهمَّات، وكذا خطبة السَّيدة زينب (عليها السَّلام) وقيامها بدور خاصٍّ بعد مصيبة كربلاء..
أقول: كلُّ هذه الحوادث استثناءٌ اقتضته الضرورة على مدى تاريخ أهل البيت (عليهم السَّلام)، ولا يُؤسَّس لحكم على المُستثنى. أمَّا الأصل المُؤيَّد بالآيات والروايات فهو مضمون ما رواه المُستدَرك عن العيَّاشي في تفسيره عن أبي جعفر (عليه السَّلام)، قال: “إنَّ فاطمة (عليها السَّلام) ضَمِنَتْ لِعَليٍّ (عليه السَّلام) عَمَلَ البَيتِ والعَجينَ والخُبْزَ وقَمَّ البَيتِ، وَضَمِنَ لَهَا عَليٌّ (عليه السَّلام) مَا كَانَ خَلْفَ البَابِ، نقل الحَطَبِ وأنْ يَجِئَ بِالطَعَامِ”[9].
وثالثًا فإنَّ ممَّا تَبَانى عليه الناس صعوبة المعيشة على الزوج دون عمل الزوجة!
هذا فهمٌ فِي غَايَةِ الخَطَأ والبُطْلان. بلى؛ فلا بدَّ للمرأة من العمل إذا ما تحولت الرغبات في الحياة إلى حاجاتٍ تستوجب الاقتراض أو ما نحوه، أمَّا إذا عاش الإنسان حياته الطبيعية بحسب ما تقتضيه الحاجة، لا الرغبة، فإنَّ في المُقَدَّرِ مِنَ اللهِ تعالى الكفاية وأكثر.
قَالَ رَسُولُ اللَّه (صلَّى الله عليه وآله): “مَنْ تَرَكَ التَّزْوِيجَ مَخَافَةَ الْعَيْلَةِ فَقَدْ أَسَاءَ ظَنَّه بِاللَّه عَزَّ وجَلَّ؛ إِنَّ اللَّه عَزَّ وجَلَّ يَقُولُ: (إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ الله مِنْ فَضْلِه)”[10].
إلفاتٌ مُهِمٌّ:
فلنلاحظ أنَّ المرجع الوحيد لنظريات خروج المرأة من دارها ومشاركتها للرجل في العمل هو الدنيا ومتطلباتها وما يتحقَّقُ فيها، ولا شيء من تلك النظريات يرجع إلى دين الله تعالى وما يصبُّ في هداية الناس، ولذا فإنَّنا لا نجد دعوات جادَّة لتسنُّم المرأة مقام المرجعية الدينية أو إمامة الرجال في صلاة الجماعة!
ولا يُقال بأنَّ هذا ممنوع لوجود حكم شرعي صريح.
لأنَّ هناك من يقول بشمول نظرية تغيير الأحكام بتغير الزمان والمكان لكافَّة الموارد. أقول: فندخل عندها في ظلمات جديدة من الفساد والإفساد!
فالحقُّ الذي لا يُزَاحم هو أنَّ الذي يقف وراء إخراج المرأة من دارها وترك أو تضعيف أو تحوير النصوص المخالفة هو الدنيا ولا شيء غيرها، وأسُّ البلاء في ذلك هو الرأسمالية التي لا يمكنها التنازل عن توظيف المرأة لإنتاج المال والثروة.
مُغَالَطَة أو (شُبهَة) التجهيل:
يُقال: إنَّكم بذلك تدعون إلى تجهيل المرأة، وهذا خلاف ما يدعو إليه الله تعالى والنصوص الشريفة من أهمية العلم وطلبه.
فنقول: العِلمُ كمالٌ والجهلُ نقصٌ، وكلاهما من المقولات الإضافية، فالعالِمُ عالمٌ بالنسبة لمن هو أدون منه جاهِلٌ بالنسبة لمن أهو أعلم منه. أمَّا بالنسبة لنفسه فهو عالِمٌ إذا حقَّق الحكمة بالعلم، وجربزةٌ إذا أفرط أو جاهلٌ إذا فرَّط.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإنَّ العلمَ يُطلبُ لذاته، ولكن في الحدود التي يريدها الله تعالى، ولذلك نُهي الإنسان عن طلب علوم خاصَّة، بل وذَمَّ الشارِعُ المقدَّسُ علومًا بعينها، وأكثر من ذلك أنَّه قد حدَّد العِلمَ في ثَلَاثة؛ فعَنْ أَبِي الْحَسَنِ مُوسَى (عليه السَّلام)، قَالَ: “دَخَلَ رَسُولُ اللَّه (صلَّى الله عليه وآله) الْمَسْجِدَ فَإِذَا جَمَاعَةٌ قَدْ أَطَافُوا بِرَجُلٍ، فَقَالَ: مَا هَذَا؟
فَقِيلَ: عَلَّامَةٌ.
فَقَالَ: ومَا الْعَلَّامَةُ؟
فَقَالُوا لَه: أَعْلَمُ النَّاسِ بِأَنْسَابِ الْعَرَبِ ووَقَائِعِهَا وأَيَّامِ الْجَاهِلِيَّةِ والأَشْعَارِ الْعَرَبِيَّةِ.
قَالَ: فَقَالَ النَّبِيُّ (صلَّى الله عليه وآله): ذَاكَ عِلْمٌ لَا يَضُرُّ مَنْ جَهِلَه ولَا يَنْفَعُ مَنْ عَلِمَه. ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ (صلَّى الله عليه وآله): إِنَّمَا الْعِلْمُ ثَلَاثَةٌ؛ آيَةٌ مُحْكَمَةٌ أَوْ فَرِيضَةٌ عَادِلَةٌ أَوْ سُنَّةٌ قَائِمَةٌ، ومَا خَلَاهُنَّ فَهُوَ فَضْلٌ”[11].
أمَّا ما ليس بفضلٍ فقد حَصَرَهُ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) بـ(إنَّما) في الثلاثة المذكورة، وأمَّا كون ما عداه فضلًا فلعدم أو لضعف دخالته في الغاية التي خُلِق من أجلها الإنسان والغاية التي يعمل في هذه الدنيا من أجلها، فهو قد خُلِق لإقامة أمر الله تعالى، وهو قوله تبارك ذكره (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً)، وقوام الخلافة الإلهية في الأرض عبادته جلَّ في علاه؛ ولذا قال: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ)[12].
وما لا مكابرة فيه واقعُ انقلابِ الأمر في عموم حياتنا، فالأصل اليوم هو طلب العلوم الدنيوية من أجل الشهادة والوظيفة من جهة، ومن جهة أخرى فإنَّ قياس العالم حُصِر في الدارسة الأكاديمية والشهادة، لذا فإنَّ من لا يحصل عليها يُستَقلُ ولا يُزوَّج ويُتَّهم بالتقصير والاستهتار وما إلى ذلك من تنقيص وتحقير.. نعم، هو اليوم كذلك؛ فمسألة الدراسة والشهادة والوظيفة هي الأصل، وما عداها فضل!
تذكير بالأطروحة العلمانية:
لم يعد المهمُّ هو مكان الإنسان من الطريق إلى الآخرة، فهذا بحسب كثافة التثقيف العلماني خاصٌّ للعبد مع ربِّه، بل الأهمُّ مطلقًا هو موقعه من واقعه الاجتماعي، وشتَّان بينهما؛ فقد جاء في عيون الحِكَمِ والمواعظ، عن أمير المؤمنين (عليه السَّلام) أنَّه قال: “طَلَبُ الجَمْعِ بَينَ الدُنْيَا وَالآخِرَةِ مِنْ خِدَاعِ النَّفْسِ”[13].
أمَّا قوله تعالى (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا)[14]فَعَن عَليٍّ (عليه السَّلام)، في قول الله عزَّ وجلَّ: (وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا)، قال: “لا تَنْسَ صِحَّتَكَ وقُوتَكَ وفَرَاغَكَ وشَبَابَكَ وَنَشَاطَكَ أنْ تَطْلُب بِهَا الآخِرَةَ”، وهي ممَّا يُسأل عنه العبد؛ فقد جاء عن أمير المؤمنين (عليه السَّلام) أنَّه قال: قال رسول الله (صلَّى اللهُ عليه وآله): “لا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَومَ القِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلُ عَنْ أرْبَعٍ؛ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أفْنَاهُ، وَعَنْ شَبَابِهِ فِيمَا أبْلَاهُ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أينَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَا أنْفَقَهُ، وَعَنْ حُبِّنَا أهْلَ البَيتِ”[15].
الحَقُّ الذي لا يُزَاحَم:
إنَّ الله تعالى هو الملكُ الحقُّ لا إله إلَّا هو ربُّ العرشِ الكريم، وهو مالِكُ الملك يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممَّن يشاء، ويُعزُّ من يشاء ويُذلُّ من يشاء، وهو الذي لا يُسأل عمَّا يفعل وهم يُسألون. ولا شكَّ ولا تردُّد على الإطلاق في أنَّ العقل السليم يقضي بالتسليم المُطلق لله تعالى، فلو أراد عبده في جزيرة نائية لا شيء فيها غير الماء والزرع سلَّم العبدُ شاكرًا حامدًا، ولو حرَّم عليه ملاذَّ أو كمالات دنيوية سلَّم حامدًا شاكرًا.. والوجه في ذلك هو أنَّ ما يريده اللهُ تعالى لأي خلق من خلقه فهو الكمال بالنسبة له. أمَّا ما يُعترض به على النصوص الشرعية وتضعيفها لمصلحة الاجتهادات العصرية وما يقتضيها ويوجهها من أفهام فهي من تسويلات وتلوينات الشيطان الرجيم، وقد قال جلَّ في علاه: (إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ)[16].
تطبيق مباشر:
روى في الكافي عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (عليه السَّلام)، قَالَ: “إِنَّ اللَّه خَلَقَ حَوَّاءَ مِنْ آدَمَ فَهِمَّةُ النِّسَاءِ الرِّجَالُ فَحَصِّنُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ”[17].
فنقول: كَمَال حواء في خَلْقِهَا مِنْ آدم، وقد يُؤيد خَلْقَهَا مِنْهُ قَولُه تعالى (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)[18]، وَكَمَالُ النِسَاءِ في كَوْنِ هِمَّتهنَّ الرجال، وَكَمَالُ المُجْتمع في ضَبْطِ الخُرُوج عن جادَّة الشرع بتحصين النساء في البيوت، وهو كَمَالٌ لَهُنَّ.
ولا يخفى أنَّ هذه الكمالات كمالاتٌ لجهاتها الخاصَّة، فكمال الشيء بحسب الكمال في مختلف جهاته.
إنَّ هذه الهمَّة التي تشير إليها النصوص الشريفة كمالٌ للمجتمعِ أيضًا؛ لما فيها من استقرارٍ تضفيه على الحياة الزوجية. ولتقنين وضبط هذه الحالة التكوينية جاء عَنِ الأَصْبَغِ بْنِ نُبَاتَةَ، قَالَ: قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السَّلام): “خَلَقَ اللَّه الشَّهْوَةَ عَشَرَةَ أَجْزَاءٍ فَجَعَلَ تِسْعَةَ أَجْزَاءٍ فِي النِّسَاءِ وجُزْءًا وَاحِدًا فِي الرِّجَالِ، ولَوْ لَا مَا جَعَلَ اللَّهُ فِيهِنَّ مِنَ الْحَيَاءِ عَلَى قَدْرِ أَجْزَاءِ الشَّهْوَةِ لَكَانَ لِكُلِّ رَجُلٍ تِسْعُ نِسْوَةٍ مُتَعَلِّقَاتٍ بِه”.
فهذه الهِمَّةُ المُودَعَةُ فِي المَرْأةِ قَدْ ضُبِطَتْ تكوينًا بِقُوَّةِ الحَيَاءِ المُودَعة فيها تكوينًا كذلك. وأيُّ خلل سواء في جانب الهمَّة أو في جانب الحياء فهو لفسادٍ أحدثه الإنسان بيده، وقد قال جلَّ في عُلاه (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ).
فائدة:
يظهر أثرُ التسليم لما ورد في الثقلين الشريفين، وأثرُ الحَذَرِ وتَجَنُّبِ الاجتهاد في قبال الوارد أو الاجتهاد في نفس الوارد تطويرًا وتنقيحًا بحسب ما تقتضيه موازين الزمان والمكان؛ في الفهم المستقيم للنصوص الشريفة ما يُبعِد المؤمن عن مزالق المصادمات وتغليب ثقافات العصر على مضامين الآيات والروايات.
مسألة التزويج في عصر الرأسمالية:
بين أيدينا مجموعة من النصوص الشريفة تُبيِّنُ فضيلةَ التبكير في التزويج وحُسنَ التبعل وطبيعةَ عِلَاقَةِ المَرْأَةِ بِزَوْجِهَا، إلَّا أنَّها اليوم مردودة مرفوضة، وفي أفضل الأحوال تُعَطَّلُ لِمَصْلَحَةِ الواقع المعيشي وما تفرضه الحياة العصرية من أمور تُقصي ما خطَّه أئمة الهُدْى للمؤمنين.
عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (عليه السَّلام)، قَالَ: “إِنَّ اللَّه عَزَّ وجَلَّ لَمْ يَتْرُكْ شَيْئًا مِمَّا يُحْتَاجُ إِلَيْه إِلَّا عَلَّمَه نَبِيَّه (صلَّى لله عليه وآله) فَكَانَ مِنْ تَعْلِيمِه إِيَّاه أَنَّه صَعِدَ الْمِنْبَرَ ذَاتَ يَوْمٍ فَحَمِدَ اللَّه وأَثْنَى عَلَيْه، ثُمَّ قَالَ:
أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ جَبْرَئِيلَ أَتَانِي عَنِ اللَّطِيفِ الْخَبِيرِ فَقَالَ إِنَّ الأَبْكَارَ بِمَنْزِلَةِ الثَّمَرِ عَلَى الشَّجَرِ؛ إِذَا أَدْرَكَ ثَمَرُه فَلَمْ يُجْتَنَ أَفْسَدَتْه الشَّمْسُ ونَثَرَتْه الرِّيَاحُ، وكَذَلِكَ الأَبْكَارُ إِذَا أَدْرَكْنَ مَا يُدْرِكُ النِّسَاءُ فَلَيْسَ لَهُنَّ دَوَاءٌ إِلَّا الْبُعُولَةُ وإِلَّا لَمْ يُؤْمَنْ عَلَيْهِنَّ الْفَسَادُ؛ لأَنَّهُنَّ بَشَرٌ”[19].
ولذا، جاء عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (عليه السَّلام) أنَّه قَالَ: “مِنْ سَعَادَةِ الْمَرْءِ أَنْ لَا تَطْمَثَ ابْنَتُه فِي بَيْتِه”[20].
لا شكَّ في تعذُّر، أو الصعوبة البالغة للأخذ بهذه الأحاديث الشريفة وإيقاع مضامينها فعلًا؛ حيث إنَّ العلمانية لن تعترف بمن لا يُنتج المال، والطريق الأوَّل لإنتاجه هو البرنامج العلمي الأكاديمي الذي يمتدُّ في قرابة الثمانية عشر سنة من الروضة إلى أربع سنوات الجامعة مرورًا باثنتي عشر سنة في مراحل الابتدائية والإعدادية والثانوية. ومن مقتضيات هذه العملية التثقيفية (ولا أقول التعليمية) امتداد فترة الطفولة إلى ستة عشر سنة عند الذكر والأنثى على حدٍّ سواء، وبذلك اتَّخذت المناهج التربوية في البيت والمدرسة طريقًا مخالفًا ومعاكسًا لما ورد صريحًا في الثقلين المقدَّسين.
ومن جهة أخرى فإنَّ من قِوَام الآلة البشرية لإنتاج المال إخراج المرأة إلى سوق العمل بمختلف ميادينه.. ولك أن تتصور اللوازم الإفسادية المترتبة على ذلك..
ومنها: فقدان الأب ليده التربوية على أولاده لا سيَّما البنات منهم؛ فهم يخرجون من البيت في سن الرابعة ليبقون ساعات في الروضةِ يتلقون فيها ما يُمَهِّدُ لهم الطَريقَ لِدُخُولِ المَدْرَسَةِ في السَادِسَة، وهناك تتناولهم مناهج التثقيف المناسبة للرؤية والسياسة العامَّة، ومنها الترسيخ للأولوية المطلقة لسوق العمل.
مِنْ لَوَازِمِ هذه الغاية إضعاف أي ثقافة معاكسة أو ناقضة لما يراد للطالب أن يكون عليه، فتقرَّرَ مَدُّ سنين الطفولة إلى الثامنة عشرة؛ حيث إنَّ التربية الطبيعية التي جاءت التعاليم الإسلامية موافقةً لها تُهَيِّؤ الإنسانَ عند سنِّ البلوغ لِتَحَمُّل المسؤولية والدخول شيئًا فشيئًا في معترك الحياة، غير إنَّ ذلك يُنمِّي في النفس مَلَكَات الفهم الناضج وتقديم الدين وتعاليمه على كلِّ ما سواه مطلقًا.
جاء في المادَّة الأولى مِنْ اتِّفاقية حقوق الطفل “لأغراض هذه الاتفاقية، يعنى الطفل الإنسان لم يتجاوز الثامنة عشرة، ما لم يبلغ سنَّ الرشد قبل ذلك بموجب القانون المنطبق عليه”[21].
إنَّنا اليوم نلاحظ فعلًا شدَّة الاستنكار، بل والتقزُّز من مجرَّد طرح فكرة التبكير بالزواج، بل ويُقال لأهل من تتزوج في الثامنة عشرة: إنَّكم تظلمون هذه الطفلة!!
ومنها: إشاعة ثقافة الاختلاط، وإظهار أي دعوى للفصل على أنَّها رجعية وتخلُّف، والترويج إلى كونها من أشد المخاطر التي يوجهها المجتمع!
تنبيه:
إنَّ في الاختلاط مِنَ المفاسد التي يشيبُ مِنْها رأسُ الجنين في بطن أمِّه؛ ويكفي لتصور شيءٍ من تلك المفاسد الالتفات إلى توسُّع عين الولد بمجالسته واختلاطه بالبنات والنساء، وكذا توسُّع عين البنت بمجالستها ومخالطتها للأولاد والرجال، وهذا التوسُّع يبقي في النفس صورًا كثيرةً تَعْتَمِلُ عن قريب لتبدأ المقارنات والأماني والأحلام. وربَّما كان هذا من العوامل الرئيسية في الاستخفاف بمسألة الطلاق!
ومنها: اعتبار المادَّة أساسًا في التزويج، ومقياسها الشهادة الأكاديمية والوظيفة، لا سيَّما فيما لو كانت الفتاة جامعية أو موظفة؛ فهي حينها تبحث عن زوج بمواصفات (دنيوية) خاصَّة.
جاء عن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) أنَّه قال: ” إِذَا جَاءَكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ خُلُقَه ودِينَه فَزَوِّجُوه، إِلَّا تَفْعَلُوه تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وفَسادٌ كَبِيرٌ”[22].
أمران:
الأوَّل: إذا كان الخاطِبُ ذا دِينٍ وخُلُقٍ فمقتضى تدينه أن يكون عارفًا بحقِّ النفقة والكسوة والسكنى عليه، ومقتضى خُلُقِه أنْ يكون صادِقًا في تحمُّلِه لمسؤولية الزواج. فكان السؤال عن الدين والخُلُق كافيًا ومغنيًا عن السؤال عن الوظيفة أو الراتب أو ما شابه.
الثاني: إنَّ ما يترتَّب على مخالفة أمره (صلَّى الله عليه وآله) الظاهر في قوله ” فَزَوِّجُوه” وقوع الفتنة والفساد، ويكون كلُّ مَنْ يُخَالِف مساهمًا في وقوع الفتنة والفساد. وقد جاء عن أبي عبد الله الصادق (عليه السَّلام) أنَّ الله تعالى “يُعَذِّبُ عَلَى تَرْكِ السُّنَّةِ”[23]. ومِنَ الواضح أنَّ الترك المقصود ليس مطلق الترك، وإنَّما ما تُرِك من السُنَّة المفروضة، ومن غير المفروضة استخفافًا بها أو اجتهادًا في قبالها وتعطيلها.
(ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)
إنَّنا غالبًا ما نفشل، أو حتَّى لا نفهم كيف نُرجِع موجات الفساد إلى أصولها ومسبباتها، بل الأمَرُّ من ذلك ما وصل إليه الحال من التطبيع المتعاظم مع المفاسد حتَّى صار الصلاحُ إفسادًا والفسادُ صلاحًا.. ألا ترى الأب وهو يردُّ خاطب ابنته قائلًا: الأمر ليس بيدي، والبنت تريد إكمال دراستها!
نعم، لا بدَّ من موافقة الفتاة على من يتقدَّم لخطبتها وإلَّا فالشرع لا يقبل بقسرها عليه، ولكن لا أن تكون رافضة لأصل فكرة الزواج وقد مضى على بلوغها سنوات!
المشكلة أنَّ المناهج التربوية في الأسرة والمدرسة وعموم المجتمع تُؤكِّدُ على الطفولة إلى سنِّ السادسة عشرة أو الثامنة عشرة، وفي نفس الوقت يُوكِلُ الآباء أمر الزواج لبناتهم وهنَّ في مثل هذا السن وأكبر بقليل! فكيف لها وهي لا تمتلك الخبرة الكافية أن تُحدِّد مصيرها بقبول أو رفض الزواج؟
بل المشكلة أكثر تعقيدًا من ذلك، فالأولاد والبنات على مناهج تربوية قد أوهِموا فيها، ومعهم المجتمع، بأنَّهم على مستويات عالية من الوعي ويتمكنون من اتخاذ القرارات السليمة وتحديد مصائرهم.. هكذا هو طوفان التناقضات يجتاح المجتمع وثقافة المجتمع طولًا وعرضًا.
عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (عليه السَّلام)، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ (صلَّى الله عليه وآله):
“كَيْفَ بِكُمْ إِذَا فَسَدَتْ نِسَاؤُكُمْ وفَسَقَ شَبَابُكُمْ ولَمْ تَأْمُرُوا بِالْمَعْرُوفِ ولَمْ تَنْهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ؟!
فَقِيلَ لَه: ويَكُونُ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّه؟!
فَقَالَ: نَعَمْ، وشَرٌّ مِنْ ذَلِكَ؛ كَيْفَ بِكُمْ إِذَا أَمَرْتُمْ بِالْمُنْكَرِ ونَهَيْتُمْ عَنِ الْمَعْرُوفِ؟!
فَقِيلَ لَه: يَا رَسُولَ اللَّه، ويَكُونُ ذَلِكَ؟
قَالَ (صلَّى الله عليه وآله): نَعَمْ، وشَرٌّ مِنْ ذَلِكَ؛ كَيْفَ بِكُمْ إِذَا رَأَيْتُمُ الْمَعْرُوفَ مُنْكَرًا والْمُنْكَرَ مَعْرُوفًا؟!”[24].
بيانٌ فصل:
عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (عليه السَّلام)، قَالَ: فِي رِسَالَةِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السَّلام) إِلَى الْحَسَنِ (عليه السَّلام):
“لَا تُمَلِّكِ الْمَرْأَةَ مِنَ الأَمْرِ مَا يُجَاوِزُ نَفْسَهَا؛ فَإِنَّ ذَلِكَ أَنْعَمُ لِحَالِهَا وأَرْخَى لِبَالِهَا وأَدْوَمُ لِجَمَالِهَا، فَإِنَّ الْمَرْأَةَ رَيْحَانَةٌ ولَيْسَتْ بِقَهْرَمَانَةٍ. ولَا تَعْدُ بِكَرَامَتِهَا نَفْسَهَا. واغْضُضْ بَصَرَهَا بِسِتْرِكَ واكْفُفْهَا بِحِجَابِكَ، ولَا تُطْمِعْهَا أَنْ تَشْفَعَ لِغَيْرِهَا فَيَمِيلَ عَلَيْكَ مَنْ شَفَعَتْ لَه عَلَيْكَ مَعَهَا. واسْتَبْقِ مِنْ نَفْسِكَ بَقِيَّةً؛ فَإِنَّ إِمْسَاكَكَ نَفْسَكَ عَنْهُنَّ وهُنَّ يَرَيْنَ أَنَّكَ ذُو اقْتِدَارٍ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَرَيْنَ مِنْكَ حَالاً عَلَى انْكِسَارٍ”[25].
تقدَّمتْ الإشارةُ إلى أنَّ كمالَ كل شيءٍ بحسب ما فرض الله تعالى له وعليه، وأنَّ أدنى حيدٍ أو انحرافٍ نقصٌ وتراجعٌ وضلال. وإنَّ الرسول الأكرم (صلَّى الله عليه وآله) يبين في هذه الرسالة ما يناسب ويليق بالمرأة وما لا يناسب ولا يليق، هذا والله تعالى هو خالقها وهو العالم بحالها من جميع الجهات، والرسول الأكرم (صلَّى الله عليه وآله) ما ينطلق عن الهوى، وقد أَمَرَنَا الباري جلَّ في عُلاه امتثال ما يأتي به مطلقًا، فقال عزَّ مِنْ قائل: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ)[26].
في الوصية الشريفة أمورٌ، نأخذ منها محلَّ الشاهِد:
مِنَ الغايات المقصودة محافظةُ المرأةِ على حالها وراحة بالها ونضارة جمالها، ومن الطرق التي حدَّدها أميرُ المؤمنين (عليه السَّلام) لهذه الغاية العبادية ألَّا تُمَلَّكُ المرأةُ ما يجاوز نفسها.
فائدة مهمَّة:
من كمالات المرأة نِعمُ حالها ورخاء بالها ودوام جمالها، وهي كمالات تنعكس على بيتها من زوج وأولاد، ثُمَّ لا شكَّ في أنَّ ذلك ينعكس على المجتمع. لذا، فإنَّ مِنَ الأصول في سلامة واستقرار المجتمع ألَّا تُمَلَّكُ المرأةُ ما يُجاوز نفسها.
القهرمان هو المُدَبِّرُ والمُتَولِّي لِشُئون البَيْتِ التي تحتاج إلى إدارة، فهو بذلك (مدير المنزل) بحسب المصطلح الحديث.
شبِّهَ الإمامُ (عليه السَّلام) المرأة بالريحانة ونفى مناسبتها لموقع القهرمان. أمَّا الريحانة فلا تُعرَّض لغير النسيم، ولا يُقتَربُ منها إلَّا لمسًا فتفوح طيبًا وجمالًا.. هذا هو شأن المرأة وما يناسبها ويليق بها.
نشهدُ في هذا العصر إصرارًا شديدًا وصراعًا من أجل إخراج المرأة وتعريضها لكلِّ ما أراد الإسلام إبعادها عنه حفظًا لكرامَتِها وراحةِ بالِها ودوامِ جَمَالِها، وفي ذلك مصلحتها التامَّة ومصلحة المؤمنين.
عندما تخرج المرأة إلى أي دائرة تتجاوز فيها نفسَها تتعرَّض إلى رئيس ومرؤوس وقرين، وهذا يعترض وذاك يدافع، وآخر يتَّهم ويقابله من يُبرِّر.. وما إلى ذلك من صراعات الحياة ومتاعب الناس وشهوات المصالح والمناصب، ناهيك عن الذئاب ممَّن يرون المرأة (…)..
تخرجُ المرأةُ إلى هذه الأجواء وتعود إلى بيتها مشوشة الذهن مُتعبة النفس، وإن لم تلحظ حالها فذاك فلِمَا وَصَلَ إليهِ المُجْتَمَعُ مِنْ تَطْبيِعٍ تَامٍّ مَعَ مَا نَهَى عَنْهُ إسلامنا العظيم.
لا شكَّ في أنَّ هذه الحالة تنعكس على البيت وتُؤثِّر فيه تأثيرًا عميقًا، فهي حلقات متتابعة تَجُرُّ كلُّ حلقةٍ الأخرى فتتشكَّل ثقافة مادِّية صِرفة تقوم عليها الأسس التربوية للأولاد.. وهكذا تَنْدَرِسُ تعاليمُ الدين، والشواهد أكثر من أن تُحصى، فأُورِدُ واحدًا ليس ببعيد عن أحدنا..
أطرح السؤال التالي: كيف تحوَّلتْ المرأة، في ظرف عقود أربعة، مِنْ حيائها من أن تمشي بعباءتها أمام رجل في الشارع، إلى لبس الضيق وإظهار الزينة والمفاتن أمام حشود من الرجال في المجمَّعات والأسواق وغيرها؟!
إنَّ لهذا التحوُّل الحاد في معايير الحياء تفسيرًا واحدًا لا غير؛ وهو التطبيع التام مع ما يُفسِدُ المرأةَ ويُفسِدُ المجتمع. وقد بيَّن أميرُ المؤمنين (عليه السَّلام) أسبابه في وصيته لولده الإمام الحسن (عليه السَّلام).
خاتمة:
ذكرتُ في المقال الأوَّل من (الدين وواقع الحياة) بأنَّني لا أخاطب المفتونَ المُصِرَّ على صياغة دينه بحسب مشتهياته ومصالحه الدنيوية، وإنَّما خطابي للمؤمنين الذين يمتلكون الاستعداد لمراجعة النفس والعمل على إصلاحها.
إنَّ ما أريدُ التنبيه إليه في هذه الخاتمة هو أنَّنا لا نتمكَّن من مواجهة فواعل الإفساد؛ والوجه في ذلك عدم تورعها عن استخدام أي شيء يوصلها إلى غاياتها دون رعاية إلى قِيمَةٍ أو خُلق، أو أي موازين يعتبرها الشرفُ وتتحرى الغيرةُ التزامها. لذا فإنَّ في مواجهتها أو محاولة مجاراتها ما فيه من نقضٍ للغرض، مضافًا لقوَّةِ احتماليةِ الانحراف وتضييع الغاية، وهو ممَّا تجرُّ إليه ملاحقة فواعل الإفساد.
من هنا، فإنَّ ما يراه النظر القاصر هو انحصار الحل في العمل وبذل الجهد مع القوابل بخلق الموانع وتقويتها وجعلها من الأصول التي لا يُتنازل عنها مطلقًا. وإنَّما جاءت هذه المقالات للتنبيه المباشر والجاد على الأخطار الداهمة التي اخترقتنا وتحيط بنا، فنقف على ضرورة فهم أهمية الموانع الرادعة والحامية، وطلبها من أهل الدين والعلم والحكم.
علينا أن نكون فواعل فاعلة في خلق الموانع، لا في مواجهة فواعل الإفساد والشر؛ وذلك لما بيَّناه.
عَنْ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا الأَنْصَارِيِّ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (عليه السَّلام)، قَالَ: سَمِعْتُه يَقُولُ:
“مَنْ سَرَّه أَنْ يَسْتَكْمِلَ الإِيمَانَ كُلَّه فَلْيَقُلِ الْقَوْلُ مِنِّي فِي جَمِيعِ الأَشْيَاءِ قَوْلُ آلِ مُحَمَّدٍ فِيمَا أَسَرُّوا ومَا أَعْلَنُوا وفِيمَا بَلَغَنِي عَنْهُمْ وفِيمَا لَمْ يَبْلُغْنِي”[27].
السَّيد محمَّد بن السَّيد علي العلوي
28 من شهر رمضان 1442 للهجرة
البحرين المحروسة
…………………………………….
[1] – (الدينُ وواقِعُ الحياةِ) – الحلقة الأولى: مُقدِّمةٌ أسَاسٌ في موقِعِ الدينِ مِنْ وَاقِعِ الدُنْيَا http://alghadeer-voice.com/archives/5763
(الدينُ وواقعُ الحياة) – الحلقة الثانية: مقالة التنقيح .. فريضتا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر http://alghadeer-voice.com/archives/5779
[2] – الكافي – الشيخ الكليني – ج 5 – ص 338
[3] – دعائم الإسلام – القاضي النعمان المغربي – ج 2 – ص 215
[4] – المصدر السابق.
[5] – مصباح الفقاهة في المعاملات، المكاسب المحرَّمة – السَّيد الخوئي- ص28
[6] – الآية 31 من سورة النور
[7] – الكافي – الشيخ الكليني – ج 5 – ص 520 – 521
[8] – http://alghadeer-voice.com/archives/5763
[9] – مستدرك الوسائل – ميرزا حسين النوري الطبرسي – ج 13 – ص 25
[10] – الكافي – الشيخ الكليني – ج 5 – ص 331
[11] – الكافي – الشيخ الكليني – ج 1 – ص 32
[12] – الآية 56 من سورة الذاريات
[13] – عيون الحكم والمواعظ – علي بن محمد الليثي الواسطي – ص 317
[14] – الآية 77 من سورة القصص
[15] – الخصال – الشيخ الصدوق – ص 253
[16] – الآية 25 من سورة محمَّد
[17] – الكافي – الشيخ الكليني – ج 5 – ص 337
[18] – الآية 21 من سورة الروم
[19] الكافي – الشيخ الكليني – ج 5 – ص 337
[20] – المصدر السابق
[21] – راجع الموقع الرسمي للأمام المتحدة، حقوق الإنسان، مكتب المفوض السامي: https://www.ohchr.org/ar/professionalinterest/pages/crc.aspx
[22] – الكافي – الشيخ الكليني – ج 5 – ص 347
[23] – الكافي – الشيخ الكليني – ج 3 – ص 443
[24] – الكافي – الشيخ الكليني – ج 5 – ص 59
[25] – الكافي – الشيخ الكليني – ج 5 – ص 510
[26] – الآية 7 من سورة الحشر
[27] – الكافي – الشيخ الكليني – ج 1 – ص 391