العلماء بين الفضل وأحاديث الذم

بواسطة Admin
0 تعليق

 

يبحث المؤمنون باستمرار عن أسلم طرق الفكر وأرضاها لله تعالى، وهو أمر مُقلِقٌ للأبالسة والشياطين الذين لم يتركوا آدم وحواء (عليهما السلام) في جنَّتيهما حتَّى قاسماهما (إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ)[1]، وكان قد قال لهما: (مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ)[2].

عمد الملعونُ إلى تشكيك آدم وحواء (عليهما السلام) في مِلاكات الأمر الإلهي وما يريده الله تعالى بهما، فبيَّن لهما إضلالًا وإغواءً أنَّ النهي عن الشجرة إنَّما كان لإبعادهما عن الترقي إلى أن يكونا مَلَكَين أو أن يكونا من الخالدين، وهي درجات ومقامات لا تُنال إلَّا بالأكل من الشجرة!!

منذ تلك الساعة وقد استنفر إبليسُ وجُنُودُهُ قواهم وطاقاتِهم لإبعادِ وحَرفِ المُؤمِنينَ عن صِراطِ اللهِ المُسْتَقيم، وقد اتَّخذوا طريقًا خطيرًا في خصوص مناوراتهم مع النابهين من المؤمنين، وهو طريق الإتيان من جهة البِرِ والصلاحِ والخيرِ، وهو نفس الطريق الذي سلكه الشيطان في غوايته لآدم وحواء (عليهما السلام).

نرى اليوم كيف أنَّ بعض المؤمنين في تناحر معنوي خطير ضد بعضهم البعض.. قربة إلى الله تعالى!! هكذا يعمل الشياطين وكأنَّه الوحي يسدِّدُ أهل الإيمان!

نسألُ اللهَ تعالى السلامة في الدين والدنيا..

ظهرتْ في السنوات الأخيرة تيَّاراتٌ من عمق مجتمعات التدين، تدعو إلى إقصاء العلماء والاعتماد على النفس في قراءة النصوص المعصومة وفهمها، محتجين بأنَّ نفس هذه النصوص ألقاها الأئمة الطاهرين (عليهم السلام) على العامَّة، ولم يلزموهم بالانقياد لا إلى عالِمٍ ولا إلى فقيه، بل أمروهم بالثقلين أن يتمسَّكوا بهما فيُعصموا عن الضلال. ويقولون: إنَّ التعبير في النصوص الشريفة بالعلماء والفقهاء فالمقصود نفسُ أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، وإن توسعت الدائرة فتلامذتهم المخلصين، مثل زرارة بن أعين ومحمَّد بن مسلم ويونس بن عبد الرحمن، لا غيرهم ممَّن جاؤوا في أزمنة متأخرة، خصوصًا وقد وردت فيهم أحاديث تذمُّهم وتحذر منهم!

مِنَ المؤسف أنَّ هذه التيارات مِنَ المؤمنين تقف بعنادٍ غريب أمام تاريخٍ عريضٍ شامخٍ للتشيع يتَّصل دون فصل بزمنٍ الحضور الشريف للأئمة الهدى (عليهم السلام). نسأل الله تعالى الهداية لنا ولهم..

إنَّ من أعظم ما يعانيه العلم استعجال الناس في تكوين معارفهم ومبانيهم؛ بأخذهم بيانات علمية دون وعي بما يفسرها من بيانات أخرى، ظانِّين تمام البيان بها، فيقعون في مزالق التطرف تارة ومهاوي التناقضات تارة أخرى، والحال أنَّهم لو رجعوا إلى أعلام الفقهاء لفهموا النصوص كما ينبغي.

تتَّضح بذلك جوانب من الأهمية البالغة لدراسة العلوم الآلية، لا من جهة ما يُبحث فيها من مسائل فحسب، بل من جهة دخالتها المهمَّة في تكوين العمق والسعة في عقلية طالب العلم، وتمكينه العلمي من التفكيك والتركيب على وفق أسس علمية رصينة، فالدراسة العلمية ليست فقط لضبط المسائل، ولكن لتعلُّم التعقُّل والحِكمَة بما يؤمِّن لصحة السلوك العلمي.

نستعرض في ما يلي نماذج من الأحاديث الواردة في العلماء والفقهاء.

الأحاديث الواردة في فضل العلماء والفقهاء:

  • جاء عن الإمام الحسن بن علي العسكري (عليهما السلام)، قال: قال جعفر بن محمَّد الصادق (عليهما السلام):

“عُلَمَاءُ شِيعَتنا مُرابِطُونَ في الثَغرِ الذي يَلِي إبليس وعفاريته، يَمْنَعُونَهم عن الخُرُوجِ على ضُعَفَاءِ شِيعَتِنَا وعن أنْ يَتَسَلَّطَ عليهم إبليسُ وشيعتُه والنواصِبُ. ألا فَمَنْ انتَصَبَ لذلِكَ مِنْ شيعتنا كان أفضلَ مِمَّنْ جَاهَدَ الرُومَ والتُرْكَ والخزرَ ألفَ ألفَ مَرَّةٍ؛ لأنَّه يَدْفَعُ عن أديان مُحبِّينا وذلك يدفع عن أبدانهم”.

أوَّلًا: لا كلام في أنَّ المقصود من العلماء في هذا الحديث الشريف ليس الأئمة (عليهم السلام)، بقرينة قوله (عليه السلام): “علماء شيعتنا”، فتثبت في المقام ثلاثة أطراف: العلماء والشيعة وأهل البيت (عليهم السلام)، وهو ما يُؤيده أيضًا سياق الحديث.

ثانيًا: يُخبِرُ الإمامُ (عليه السلام) عن الواقعِ في جُمْلَةٍ خَبَريةٍ تامَّة، مبتدأها (علماءُ) مُعرَّفٌ بإضافة (شيعتنا)، وخبرُها (المُرَابِطُون)، والظِاهرُ إخبارٌ عن حالٍ واقع، لا عن صفة، وإلَّا لقال: علماء شيعتنا (هم) المرابطون. أو: علماء شيعتنا المرابطون. وبالتالي يكون المعنى: تتحقق المرابطة بتحقق الصدق، أي: متى ما كان العالم عالِمَ شيعةٍ الأئمة الأطهار (عليهم السلام) فهو مرابِطٌ.

ثالثًا: يَخْتَارُ الشيعيُّ هذا المقام الخطير بسلوكه طريقَ طلب العلم، وما إن يصل إلى منصب العَالِم كان أفضل مِمَّن جاهد الروم والترك والزر ألف ألف مرَّة. ومن هنا تظهر لنا جوانب مهمَّة من معاني ومقاصد أحاديث شريفة مثل ما عن أبي عبد الله الصادق جعفر بن محمَّد (عليه السلام) في قوله:

“إذا كان يوم القيامةِ جَمَعَ اللهُ عَزَّ وجَلَّ الناسَ في صَعيدٍ واحِدٍ، ووُضِعَتِ الموازين، فَتُوزَن دِمَاءُ الشُهداءِ مَعَ مِدَاد العُلمَاءِ، فيرجَحُ مِدَادُ العُلمَاءِ على دِمَاءِ الشُهَداءِ”[3].

وما عنه (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله:

“مَنْ سَلَكَ طريقًا يَطلُبُ فيه عِلمًا سَلَكَ اللهُ بِهِ طريقًا إلى الجَنَّةِ، وإنَّ الملائِكَةَ لَتَضَعُ أجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ العِلمِ رضًا بِهِ، وإنَّه يَسْتَغْفِرُ لِطَالِبِ العِلمِ مَنْ في السَمَاءِ ومَنْ في الأرْضِ حَتَّى الحوتُ في البحر. وفَضْلُ العَالِمِ على العَابِدِ كَفَضْلِ القَمَرِ على سَائِرِ النُجُومِ ليلةَ البَدْرِ، وإنَّ العُلمَاءَ ورَثَةَ الأنْبيَاءِ؛ إنَّ الأنْبيَاءَ لم يُوَرِّثُوا دينَارًا ولا دِرْهَمًا، ولكِنْ وَرَّثُوا العِلمَ، فَمَنْ أخَذَ مِنْهُ أخَذَ بِحَظٍّ وافِرٍ”[4].

إنَّ للتلبُّس بطلب علوم الإسلام فضلًا عظيمًا يُبَينُهُ قولُهُ (صَلَّى اللهُ عليه وآله): “مَنْ سَلَكَ طريقًا”، وأمَّا أن يَصدُقَ عليه عنوان العالم فذاك مقامٌ لا يسعنا فهمُ أكثر من معالمه العامَّة.

  • عن أبي محمد الحسن العسكري (عليه السلام)، قال: قال عليُّ بن أبي طالب (عليه السلام):

مَنْ كانَ من شيعتنا عالِمًا بشريعتِنَا فَأخْرَجَ ضُعَفَاءَ شِيعَتِنَا مِنْ ظُلمَةِ جَهلِهِم إلى نُورِ العِلمِ الذي حَبَونَاهُ بِهِ، جَاءَ يَومَ القيامَةِ على رأسِهِ تَاجٌ مِن نُورٍ يُضئُ لجميع أهْلِ العَرَصَاتِ، وحلَّةٌ لا تَقومُ لأقلِّ سِلْكٍ منها الدنيا بحذافيرها، ثُمَّ يُنَادي مُنَادٍ: يا عِبَادَ الله، هذا عَالِمٌ مِنْ تَلامِذَةِ بَعْضِ عُلمَاء آلِ مُحَمَّدٍ، ألا فَمَنْ أخْرَجَهُ في الدنيا من حَيرَةِ جَهْلِهِ فَليَتَشَبَّثْ بِنُورِهِ لِيُخْرِجهُ مِنْ حَيرَةِ ظُلْمَةِ هَذِهِ العَرَصَاتِ إلى نزْهَةِ الجِنَانِ. فَيَخْرُجُ كُلُّ مَنْ كَانَ عَلَّمَهُ في الدُنيَا خَيرًا، أو فَتَحَ عَنْ قَلبِهِ مِنَ الجَهْلِ قُفْلًا، أو أوضَحَ لَهُ عَنْ شُبْهَةٍ”[5].

أوَّلًا: الإخراجُ من ظُلمَةِ الجهل إلى نور العلم مُتَفَرِّعٌ عن العلم بشريعة أهل البيت (عليهم السلام)، وما لم يكن كذلك فهو إخراج مشوبٌ بما قد يجعله من ظلمة إلى ظلمة، ومن جهل إلى جهل.

ثانيًا: العِلمُ الذي يُخرِجُ بِهِ العالِمُ ضعفاء الشيعة من ظلمة جهلهم إلى نور العلم حبوةٌ من أهل البيت (عليهم السلام) إلى نفس العالِم، والحبوة عطيَّةٌ يُحتَبَىَ بها، أي يُشتَمَلُ بها. فيظهر عمقُ الاتِّصَالِ بينَ العَالِمِ وسَادَتِهِ مِنْ أهْلِ البيت (عليهم السلام)، فلا يكون العِلمُ بكثرة التعلُّم دون وعاء طاهر بالعبودية لله تعالى ورعًا وتقوى وزهدًا.

ثالثًا: يُمَيِّزُ اللهُ تعالى العلماء المعهودين بتيجان وحلل لا تُقارن بسلك منها الدنيا بما فيها، بل بأدقِّ ما فيها، وهو َتمييزُ بالتعظيم والإجلال، وإن كان هذا أدب الله تعالى مع العلماء فلا شكَّ في أنَّ فعله من الناس في هذا الدنيا فضيلةٌ يطلبها المُؤمن.

رابِعًا: إنَّ لعمل العلماء المعهودين من عظيم الفضل ما يمتدُّ أثرُه الخطير إلى عرصات يوم القيامة، وبه يُستنقذ المؤمنون الذين كان لهم اتصالٌ حَسَنٌ بالعلماء، وبالتالي فإنَّ إجلال المؤمنين للعلماء في هذه الدنيا وإطاعتهم في كلِّ ما يتَّصل بعلوم الكتاب والعترة، يجعلهم في معرض الرحمة يوم القيامة.

  • عن عليٍّ (عليه السلام):

“جُلوسُ سَاعةٍ عِنْدَ العُلمَاءِ أحَبُّ إلى اللهِ مِنْ عِبَادَةِ ألف سَنَة، والنَظَرُ إلى العَالِمِ أحَبُّ إلى اللهِ مِنْ اعْتِكَافِ سَنَة في بيت الحرام، وزيارةُ العُلمَاءِ أحَبُّ إلى اللهِ تعالى مِنْ سبعين طَوَافًا حول البيت وأفضل من سبعين حجَّة وعُمْرَة مَبْرُورَة مَقْبُولَة، وَرَفَعَ اللهُ تَعَالى لَهُ سَبعينَ دَرَجَةٍ وأنْزَلَ اللهُ عَليه الرَحْمَةَ، وشَهدتْ لَهُ الملائِكَةُ أنَّ الجَنَّةَ وَجَبَتْ لَهُ”[6].

أوَّلًا: يُكشِفُ هذا الحديثُ الشريفُ للمُؤمنين عن بابٍ من أبواب الخير والصلاح والرحمة، وهو باب العلاقة الطيبة مع العلماء وإجلالهم.

ثانيًا: يُقايسُ الحديثُ بين العلاقة مع العالِم وبين اهتمام المؤمن ببنائه العبادي الخاص (العبادة، الاعتكاف، الحج والعمرة) ويصرِّحُ برجحان كفَّة العِلاقة مع العالِم رجحانًا لا يترك مجالًا لأصل المقارنة، وهذا، بلا شكٍّ، لا يعني الاستغناء بها عن العبادات، ولكنَّها تكشف عن الأهمية البالغة للعلاقة الطيبة بالعلماء في تقويم العبادات وحفظها وصيانتها.

ثالثًا: الظاهر أنَّ الموضُوعَ لشهادةِ الملائكة هو من يجالس العلماء وينظر إليهم ويزورهم، وهذا يعني ظهور خصوص هذا السلوك منه على سائر أفعاله في الدنيا، وهو أمر يستحقُّ كثير تأمُّل وتدبُّر.

من مجموع هذه الأحاديث الشريفة وغيرها، نقف على أهمية المساهمة والدفع نحو التكوين العلمائي في مجتمعاتنا؛ لما في وجود العلماء والعلاقة الإجلالية والطيبة بهم من الخير الكثير والصلاح الوفير والبركات العظيمة.

لا يخفى أنَّ بين أيدينا وفرة وافرة من الأحاديث الشريفة التي تُبين فضلَ العلمِ والعُلمَاء، وهي الأصل الحاكم على غيرها من سائر الأحاديث المُعارِضة؛ لوضوح محلِّها من الامتداد الوجودي لما في الثقلين المقدَّسين من علوم ومعارف. وقد جاء عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنَّه قال:

“حَديثٌ تَدريه خَيرٌ مِنْ ألفِ حَديثٍ تَرويه، ولا يَكُونُ الرجلُ مِنْكُم فَقيهًا حَتَّى يَعرِفَ مَعَاريضَ كَلامِنَا، وإنَّ الكلِمَةَ مِنْ كَلامِنَا لَتَنْصَرِفُ على سَبعينَ وجْهًا، لنا مِنْ جَميعهَا المَخْرَجُ”[7].

وهو موافقٌ لما جاء عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنَّه قال:

“قد كانَ يَكُونُ مِنْ رَسولِ اللهِ (صلَّى اللهُ عليه وآله) الكلامُ له وجهان: كلامٌ عَامٌّ وكلامٌ خَاصٌّ مثل القُرآنِ، وقال اللهُ عزَّ وجَلَّ في كتابه: (مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا)[8] فيَشْتَبِهُ على مَنْ لم يَعرِفْ ولم يَدْرِ ما عَنَى اللهُ بِهِ ورسُولُهُ (صلَّى اللهُ عليه وآله)”[9].

فالحديث لا يُؤخذ على عواهنه، بل لا بُدَّ من الفحص وتتبع الأخبار الشريفة وفهم جهات التعارض وطرق الجمع، والوقوف الدقيق على ما انتهى إليه العلماء وآراء الفقهاء، خصوصًا في المسائل المهمَّة التي تتعلَّق بالمصائر الثقافية والفكرية والأدبية للمجتمعات، وإن لم تراعى مثل هذه الموازين الضرورية فالأقرب إلى من يسلك طريق الأخذ دون تريث وفهم الانحدار المُهلِك إلى مهاوي التقول على الله تعالى والأئمة الطاهرين (عليهم السلام)، وتتضاعف الخطورة عند اللحظة التي يحسب نفسه خبيرًا واعيًا فاهمًا بالحديث الشريف، وقد قال الله تعالى في الكتاب العزيز (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا)[10].

عند تتبُّع الأحاديث الشريفة نقف على معارضات لتلك التي تتحدَّث عن فضل العلماء ووجوب تعظيمهم وإجلالهم، ومن ذلك ما فيها الذم والتحذير من علماء آخر الزمان، ومنها ما يُحذِّرُ من وضع العلماء في مقامات التقديس والتنزيه، ومنها ما يطلق الذم.

  • رُويَ عن النبيِّ (صلَّى الله عليه وآله) أنَّه قال:

“سيأتي في آخر الزمان عُلمَاء يُزَهِّدُونَ في الدُنيا ولا يَزْهَدُون، ويُرَغِّبُونَ في الآخِرَةِ ولا يَرْغَبُون، ويَنْهَونَ عن الدُخُولِ على الولاة ولا يَنْتَهون، ويُبَاعِدُونَ الفُقَرَاءَ، ويُقَرِّبُونَ الأغنياء، أولئِكَ هُمُ الجَبَّارُونَ أعداء الله”[11].

أوَّلاً: ينقل التاريخ نماذج لمثل هذا الصنف من العلماء، وبحسب طبيعة الاجتماع البشري فإنَّ مجتمعًا لا يكاد يسلم من مثل هذه النماذج، سواء من علماء الدين أو غيرهم من المنادين للمبادئ والقيم -نسأل الله تعالى النجاة من حبائل النفس-، وقد قال الله عزَّ وجلَّ في محكم كتابه العزيز (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ)[12]، وجاء عن يزيد الصائغ، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال:

“يا يزيد، إنَّ أشَدَّ الناسِ حَسْرَةً يومَ القيامَةِ الذين وَصَفُوا العَدْلَ ثُمَّ خَالفُوه، وهو قولُ اللهِ عَزَّ وجَلَّ: (أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ)[13][14].

“وعن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عَزَّ وجَلَّ: (فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ)[15] قال: من وَصَفَ عَدْلًا ثُمَّ خَالفَهُ إلى غَيرِهِ”[16].

إذًا، يظهر أنَّ تخصيص الرسول الأكرم (صلَّى الله عليه وآله) آخرَ الزمان إنَّما هو لغلبة هذا الصنف من العلماء، وقد تكون غلبة عددية، أو غلبة حضورية.

ثانيًا: بما أنَّ الكلام في علماء آخر الزمان، فينبغي تشخص الزمان بحيث يُقطع بكونه آخر الزمان، وإلَّا فلا يمكن حمل الحديث على غير المعرفة والنظر الثبوتيين، وفي أحسن الأحوال فإنَّ تَمَكَّنَ النظر من إحراز غلبة هذا الصنف من العلماء كان ذلك أمارة على كون الزمان آخر الزمان، وهنا تنبيه مهم:

لا تحصل الصور الذهنية عند عامَّة الناس اليوم عن طُرُقٍ عِلميةٍ يُحتجُّ بها إلَّا ما رحم ربِّي؛ وإلَّا فعلى التحقيق يلعب الإعلام الدور الأعظم في تشكيل الثقافات والذهنيات والعقليات التحصيلية، وبهذا التشكُّل يُنظر إلى الموضوعات الخارجية، فتتبع الأحكامُ والنتائجُ مقدماتها في الخطأ والزيغ والانحراف.

قد لا يكون خافيًا بأقل التفات بعدُ الناس عن طلب البينة المُبرِئة للذمَّة، بل أنَّ معنى البيِّنة مشكوك الإحراز عند عامَّة الناس؛ ولنأخذ مثالًا أي تهمةٍ توجَّه إلى العلماء، ولنطرح السؤال عن الدليل عليها، فما الإجابة المتوقعة؟

واحدة منها: الأمر واضح ولا يحتاج إلى دليل!! وأخرى: الأمر معروف ومن لا يراه أعمى!! ألا ترى منهم كذا وكذا!!

وعندما يشتغل الشيطان في مثل هذه الموارد بشكل أكثر احترافية، نرى ضحاياه وقد ذهبوا في طريق جمع عدد كبير ممَّا يظنونه أدلة، وسطروها بطريقة تعمي العقول عن اكتشاف بطلانها، فيدخل نفس هذا الفعل في طوفان الإعلام والترويج للتسقيط وإضعاف العلماء.

نسمع الكثير جدًّا من الأقاويل والتهم وما نحوها، ولم نجد يومًا إحصاء علمي أو دلائل يقبلها الشرع في أكثر مناطقه تساهلًا، وإنَّما هي: قال فلان، وهو (ثقة)، ومنه انتشر الأمر وتردَّد على ألسنة مجموعة من (الثقات)، وهكذا حتَّى سلَّم به عامَّة.. وخاصَّة، والحال أنَّ حتَّى مفهوم (الثقة) مشكوك الإحراز عند عامَّة الناس!!

من النادر جدًّا أن نرى اليوم استنادًا علميًا إلى إحصاءات صحيحة وأدلة موافقة لموازين النظر.

قد يُقال: وكيف نجري عملية إحصاء علمي؟ هذا غير ممكن!

فأقول: بأي منطق نثبت ونجيز التخرص عند تعذر الدليل؟! فما لم نتوفر على الأدلة المبرئة للذمة بين يدي الله تعالى كان الصمت متعينًا بلا مُزاحِم.

وربَّما قيل: من يتَّهم ويحكم يحملُ وزرَ تهمه وأحكامه، وليس من حقِّ أحدٍ منعه من الكلام.

فيُقال: عندما يتعلَّق الأمر به، فهذا شأنه، ولكن عندما يتعداه إلى غيره فهذا تجاوز منه لحدود حرياته الشخصية، وإلَّا لما حكم الإسلام بحدِّ القاذف دون بينة.

  • رُويَ في احتجاجات أبي محمَّد الإمام الحسن العسكري (عليه السلام)، أنَّه قال:

“وكذلك عوامُّ أمتنا إذا عرفوا من فقهائهم الفسقَ الظاهر، والعصبيةَ الشديدة والتكالبَ على حطام الدنيا وحرامها، وإهلاك من يتعصبون عليه وإن كان لإصلاح أمره مستحقًا ، وبالترفرف بالبر والإحسان على من تعصُّبوا له وإن كان للإذلال والإهانة مُسْتَحِقًّا، فَمَنْ قَلَّدَ من عَوامِّنَا مِثْلَ هؤلاءِ الفُقَهاءِ فهم مثل اليهود الذين ذمَّهم اللهُ بالتقليد لِفَسَقَةِ فقهائهم، فأمَّا من كان من الفقهاء صائنًا لنفسه، حافِظًا لِدينِه، مُخَالِفًا على هواه، مُطيعًا لأمر مولاه، فلِلعوامِّ أنْ يُقَلِّدوه، وذلك لا يكون إلَّا بعض فقهاء الشيعة لا جميعهم، فإنَّه من ركب من القبايح والفواحش مراكب فَسَقَةِ العامَّة فلا تقبلوا مِنَّا عنه شيئًا، ولا كرامة، وإنَّما كَثُرَ التخليطُ فيما يُتَحَمَّلُ عنَّا أهل البيت، لذلك لأنَّ الفَسَقَةَ يتَحَمَّلُونَ عنَّا فَيُحَرِّفُونَه بأسره بجهلهم، ويضعون الأشياء على غير وجهها لِقلَّة معرفتهم، وآخرون يَتَعَمَّدُون الكذِبَ علينا لِيَجرُّوا مِنْ عَرَضِ الدنيا ما هو زادهم إلى نار جَهَنَّم، ومنهم قَومٌ نُصَّابٌ لا يقدرون على القَدحِ فينا، يَتَعلَّمُونَ بَعْضَ علومنا الصحيحة فَيَتَوجَّهون بِهِ عِنْدَ شِيعَتِنَا، ويَنْتَقِصُونَ بِنَا عند نُصَّابِنَا، ثُمَّ يُضيفُونَ إليه أضْعَافَ وأضْعَافَ أضْعَافِهِ مِنَ الأكاذيب علينا التي نحنُ بَرَاءٌ منها، فَيَتَقبَّلُهُ المُسْتَسلِمُونَ مِنْ شِيعتِنَا على أنَّه مِنْ عُلُومِنَا، فَضَلُّوا وأضَلُّوا، وهُم أضَرُّ على ضُعفَاء شيعتنا من جيش يزيد على الحسين بن علي (عليه السلام) وأصحابه، فإنَّهم يَسلبُونَهم الأرواحَ والأموالَ، وهؤلاء عُلمَاءُ السوء الناصِبُونَ المُتَشَبِّهُونَ بِأنَّهم لنا مُوالون، ولأعدائنا مُعادون، ويُدخِلُونَ الشَكَّ والشُبْهَةَ على ضُعَفَاءِ شِيعَتِنَا فَيُضِلُّونَهُم ويَمْنَعُونَهُم عَن قَصْدِ الحَقِّ المُصيب”[17].

أوَّلًا: تَنْبيه: اقتطع بعضُ المؤمنين، اشتباهًا، جزءًا من هذا الحديث الشريف، فظهر وكأنَّ المقام مقام ذَمٍّ للعلماء والفقهاء، ووكان هذا الجزء: “وهُم أضَرُّ على ضُعفَاء شيعتنا من جيش يزيد على الحسين بن علي (عليه السلام) وأصحابه، فإنَّهم يَسلبُونَهم الأرواحَ والأموالَ، وهؤلاء عُلمَاءُ السوء الناصِبُونَ المُتَشَبِّهُونَ بِأنَّهم لنا مُوالون، ولأعدائنا مُعادون، ويُدخِلُونَ الشَكَّ والشُبْهَةَ على ضُعَفَاءِ شِيعَتِنَا فَيُضِلُّونَهُم ويَمْنَعُونَهُم عَن قَصْدِ الحَقِّ المُصيب”.

لا بُدَّ من الانتباه جيِّدًا وبمسؤولية تامَّة إلى خطر الاجتزاءات بما يُخرِجُ الكلام عن مقاصده وسايقاته.

ثانيًا: جاء هذا المقطع من احتجاج الإمام العسكري (عليه السلام) بعد ذكره لما وقع فيه اليهود من الزيغ والضلال بسبب تقليدهم لعلمائهم الضالين، وقال (عليه السلام) بعد ذلك: “وكذلك عوامُّ أمتنا إذا عرفوا من فقهائهم …”، فالمقام إذًا مقام اعتبار من الأمم السابقة وتحذير من الوقوع في ما وقعوا فيه.

ثالثًا: لعلماء السوء حضورهم البارز في التاريخ، والقرآن يحدِّثنا عن بلعم بن باعوراء والسامري، وفي سيرة أهل البيت أبو الخطَّاب والبطائني والشلمغاني. فليس من الصحيح تضخيم مثل هذه الظواهر في قِبَالِ سواد الفقهاء المخلصين على مرِّ التاريخ.

رابعًا: بيَّنَ الإمامُ (عليه السلام) حُسنَ تقليد الفقهاء من ذوي الملكات والصفات الحسنة ورضاه عن ذلك، فقال (عليه السلام): “فأمَّا من كان من الفقهاء صائنًا لنفسه، حافِظًا لِدينِه، مُخَالِفًا على هواه، مُطيعًا لأمر مولاه، فلِلعوامِّ أنْ يُقَلِّدوه”، وهذا موافِقٌ تمامًا لقانون رجوع الجاهل إلى العالِم، بل وأكثر من ذلك أنَّ الإمامَ (عليه السلام) أقَرَّ مسألة التقليد، وهي أكثر من مجرَّد الرجوع والأخذ، فظهر بذلك الموقع الرفيع للعلماء والفقهاء في أصول التشيعُّ.

خامسًا: حمَّلَ الإمامُ (عليه السلام) عوامَّ المؤمنين مسؤوليةَ النظر إلى الفقه من حيث ملكات القيَم والمبادئ الإسلامية، وهذا ما يُفهم من تشريعه (عليه السلام) تقليدَ الفقهاء، وقوله: “فأمَّا من كان من الفقهاء صائنًا لنفسه، حافِظًا لِدينِه، مُخَالِفًا على هواه، مُطيعًا لأمر مولاه”، فكان النظر في صيانة الفقيه لنفسه، وحفظه لدينه، ومخالفته على هواه، وطاعته لأمر مولاه، مسؤولية المُقَلِّد.

سادسًا: يؤكِّد الإمام (عليه السلام)، في الفقرة الأخيرة من المُقتَبس، على الضرورة البالغة لحضور النصوص الشريفة من الثقلين المقدَّسين في شخصية العالم فقهًا وحديثًا وكتابةً ودرسًا، فلا بدَّ أن تقوم شخصيتُه على أُسس وبناءات الكِتاب والعِترة، دون ان يُضيف إليها ما لا تقبله، وإلَّا آل أمرُه ومن يُقلِّده إلى الزيغ والضلال.

تبين أنَّ الحديث في سياق التحذير من أمر عامٍّ، لا التحذير من العلماء واتباعهم وإجلالهم وتقديرهم، فهو أقرب إلى البيان الحقيقي منه إلى البيان الخارجي، أي: حتَّى لو لم يوجد في التاريخ عالم ضال واحد، فإنَّ هذا الحديث عن الإمام العسكري (عليه السلام) يبقى على أهميته وفاعليته؛ كون ما جاء فيه على تقدير الوقوع، لا إخبار عن أمر وقع بالفعل.

  • عن مالك بن ضمرة، قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام):

“يا مالك بن ضمرة، كيف أنت إذا اختلفتِ الشيعَةُ هكذا – وشبك أصابعه وأدخل بعضها في بعض -؟

فقلتُ: يا أمير المؤمنين، ما عند ذلك من خير؟

قال (عليه السلام): الخيرُ كلُّه عِنْدَ ذلك؛ يا مالك، عند ذلك يقومُ قائِمُنَا فَيُقَدِّم سَبعينَ رَجُلُا يَكذِبُون على اللهِ وعلى رسولِهِ (صلَّى اللهُ عليه وآله) فَيقتلهم، ثُمَّ يَجْمَعُهُم اللهُ على أمرٍ واحِدٍ”[18].

أوَّلًا: لا يظهر من الحديث كون السبعين من الشيعة أم من غيرهم، بل ولا يظهر إن كان هؤلاء هم السبب المباشر في اختلاف الشيعة أم لا.

ثانيًا: قد يكون السبب في توحيد الكلمة هو نفس الإجراء الصارم من الإمام (عجَّل اللهم فرجه الشريف) مع من يكذبون على الله وعلى رسوله (صلَّى الله عليه وآله)، فهو إجراء شديد يُنبِّه ويردع ويؤدِّب.

ثالثًا: يُضمُّ إلى هذا الحديث الشريف أحاديث مثل ما جاء عن عميرة بنت نفيل، قالت: “سمعتُ الحُسينَ بن علي (عليهما السلام) يقول:

“لا يكونُ الأمرُ الذي تَنتَظِرُونَهُ حَتَّى يَبرأَ بَعضُكُم مِنْ بعض، ويَتْفِلَ بَعضُكُم في وجُوهِ بعض، ويَشْهَدَ بعضُكُم على بعضٍ بالكُفر، ويلعنَ بعضُكُم بعضًا.

فقلتُ له: ما في ذلك الزمانُ من خير؟

فقال الحُسَينُ (عليه السلام): الخيرُ كُلُّه في ذلك الزمان، يَقُومُ قَائِمُنَا ويَدْفَعُ ذلك كُله”[19].

بهذا الجمع يظهر أنَّ الاختلاف الذي مَثَّلَ له أميرُ المؤمنين (عليه السلام) بشبكه أصابعه الشريفة وإدخال بعضها في بعض هو اختلاف تنازع مُتشخص ظاهر.

رابعًا: لا تُبين هذه الأحاديث الشريفة أسباب الاختلافات الشيعية، وقد نُرجع اليوم ما نراه منها إلى التأسيسات الحزبية وجر عقليتها إلى المرجعيات الدينية، لا المراجع، فانتبه! وقد يُؤيد ذلك سلامةُ المرجعيات الدينية البعيدة عن التبلس الحزبي، وفي كلا الحالتين لا يمكنُ جعلُ خصوص علماء وفقهاء الطبقة الأولى (المراجع) موضوعًا لأحاديث الاختلافات والتنازعات. وإن كان بعضٌ فلا يصح التعميم.

مُحَصَّلُ الكلام:

أوَّلًا: لا شكَّ في أنَّ الأحاديثَ التي تحضُّ على إجلال العلماء وتوقيرهم، وتُؤكِّدُ على تميز مقاماتهم عن غيرهم من سائر عباد الله سبحانه وتعالى لها لسانُ التفسير على ما يعارضها ظاهرًا من نصوص الثقلين المقدَّسين.

ثانيًا: قصور النصوص الشريفة المعارِضة ظاهرًا لنصوص الإجلال والتوقير عن الدلالة على تعيُّن الذم في علماء مكان أو زمان، بل هي في مقام تناول قضية ثبوتية من جهة الوقوع في آخر الزمان كما بينته بعضُ الأحاديث الشريفة، وحقيقية في قبال الخارجية، أنَّ الموقف الشرعي كذا وكذا على تقدير التشخص والتعين الخارجي، وهو كما سيأتي في النقطة الثالثة له وجود فعلًا، إلَّا أنَّ التشخيص مشكلُ شرعًا ما لم تقم بينة مرضية عند الله تعالى.

ثالثًا: جاءت أحاديثُ الذمِّ لتخبر عن واقع قائم في أيَّام التاريخ ودولِها، وهو أمر صحيح وطبيعي في المجتمع البشري، وخير مثال على ذلك ما كان من إخوة نبي الله يوسف (عليه السلام) مع ما لهم من العلم والمقام الديني الرفيع، فهل تصح تعدية سلوك الفساد إلى العموم؟ هذا والكلام عن أمر واقع ومتشخص في الخارج فعلًا. هذا حرامٌ شرعًا ومخالفةٌ عِلميَةٌ فضيعةٌ، وفي الغالب تنتهي بمرتكبها إلى التلبس العميق بالجهل المركب، خصوصًا عندما تتمكَّن منه العِزَّة فتأخذه بالإثم.

رابعًا: لو قُطِعَ بوجود مفسدين أو ضالين في مجموع العلماء والفقهاء المُعينين، فإمَّا أن نبني على عدمهم فنتعامل مع الجميع على وفق الظاهر، وهذا مخالف لمقتضى القطع، أو أن نبني على إمكان أن يكون كلَّ واحد منفردًا هو الضال أو المُفسِد، وهذا مخالفٌ أيضًا للقطع بوجود الصالحين المرضيين عند الله تعالى، فهذا العلم الإجمالي ليس من قبيل القطع بنجاسة أحد الإناءين.

إنَّ ما يقتضيه هذا العلم الإجمالي تحرِّي حال من يكون موضوعًا للتقليد أو ما نحوه من اتِّباع أو اعتبار، فلا أحد على الإطلاق يقول بوجوب إجلال وتوقير كل من سلك طريق العلم والتحصيل.

حصانة الحوزة العلمية ومظهر اللطف الإلهي:

لكلِّ كيانٍ ثقافي أو فكري أو ما شابه حدودٌ تميزه عن غيره وتعمل عمل الجمع والمنع، أي أنَّ هذه الحدود تسمح بدخول الموافق وتمنع المخالف، فمن لا يتبنى، أو لا يتوافق مع توجهات كيان ما، فإنَّ نفس هذا الكيان بما هو كيان يرفضه، بطرده أو بتهميشه أو بعدم إعطائه الاعتبار المطلوب ولو على المستوى الأدبي.

إنَّنا نرى بوضوح كيف أنَّ الحوزة العلمية، بما هي كيان له حدوده الثقافية والفكرية الخاصة والثابتة، صارمة وحازمة جدًّا في تعاملها مع من يخرج على حدودها وثوابتها العلمية والأدبية، ولو أنَّه يبذل من الجهود أعلاها فإنَّ ذلك لن يجدي نفعًا ما لم يقبله كيان الحوزة العلمية، وكم من اسم سَطَعَ في ليلةٍ، وما أن أشرقت شمس نهارها إلَّا وقد خبا ونُسي، وربَّما بقي للموعظة والاعتبار! وكم من أسم لم يكن معروفًا أصلًا، ولكن لمكانه الثقافي والفكري احتضنه كيان الحوزة وأنتجه علمًا بارزًا يُشار إليه بالبنان ولو بعد موته..

كما وأنَّ يد اللطف الإلهي وتجليها في الوجود الشريف لصاحب الأمر (عليه السلام) مُؤَمِّنٌ لمجتمع المؤمنين. قال الخلفُ الحجَّةُ (عليه السلام) في التوقيع الشريف:

“نحن وإنْ كُنَّا نائين بِمَكانِنا النائي عن مساكن الظالمين، حسب الذي أراناه اللهُ تعالى لنا مِنَ الصلاح ولشيعتنا المؤمنين في ذلك ما دامت دولة الدنيا للفاسقين، فإنَّا نُحيطُ عِلمًا بأنبائكم، ولا يعزُبُ عنَّا شيءٌ مِنْ أخبارِكُم، ومعرفتنا بالذل الذي أصابكم مُذْ جَنَحَ كَثيرٌ مِنْكُم إلى ما كان السَلَفُ الصَالِحُ عَنْهُ شاسِعًا، ونبذوا العَهْدَ المأخوذ وراء ظهورهم كأنَّهم لا يعلمون! إنَّا غير مُهملينَ لِمُرَاعَاتِكُم، ولا ناسين لِذِكرِكُم، ولولا ذلك لَنَزَلَ بكم اللأواء واصطلمكم الأعدَاءُ. فاتَّقُوا اللهَ جَلَّ جلالُهُ وظَاهِرُونَا على انتياشِكُم مِنْ فِتْنَةٍ قد أنافتْ عليكم، يهلكُ فيها من حَمَّ أجلُهُ، ويحمَى عنها من أدْرَكَ أمَلَهُ”[20].

إنَّ ممَّا تقوم عليه عقيدتنا وقوع المؤمنين تحت نظر وعناية الله تعالى الذي لا يتركهم عرضة لعواصف الدنيا وأمواج بحورها، وقد قال في الذكر الحكيم (إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ)[21]، وليس على المؤمن إلى الصبر والتمسك بِعُرَى التقوى والورع، خصوصًا في مواطن الابتلاء والتمحيص التي كلَّما اشتدت اشتدَّ المؤمن في تمسكه بتقواه وورعه.

لا نواجه، كمجتمع مؤمن متدين إن شاء الله تعالى، مشاكل أكثر قسوة وخطورة من ما يُحدِثه مثيرو التشكيك والشبهات والفتن ضد الحوزة العلمية وأكابر الفقهاء والمراجع الكرام، فهؤلاء كأنَّهم قد أُوحِيَ لهم وبُعِثوا رسلًا وأنبياء بتكليف مباشر من الله تعالى أن يحاربوا الحوزات والعلماء!!

الأمر ليس كذلك قطعًا، وهو ليس أكثر من تسويغ ذاتي منهم للاجتهاد؛ استحسانًا وقياسًا، في فهم النصوص وتقرير التكليف الشرعي، فصاروا منابعَ للفتن وضيق صدور المؤمنين. وقد قال أمير المؤمنين (عليه السلام): “لو سَكَتَ الجَاهِلُ ما اختَلَفَ النَاسُ”[22]، وما أدق قوله (عليه السلام): “مَقتَلُ الرَجلِ بين لحييه، والرأيُ مَعَ الأنَاة، وبِئسَ الظَهيرِ الرأي الفَطير[23][24].

التزاحم ونوع الموضوع والتكليف الشرعي:

قد يرد السؤال عن التكليف الشرعي في حال ثبت يقينًا لشخص أو مجموعة أشخاص ضلال أو فساد أحد العلماء أو كان مصداقًا لعالم السوء.

ينبغي الانتباه جيِّدًا إلى أنَّ ثبوتَ فسادِ هذا العالم أو ذاك طرفٌ من أطراف مسألة التصدي والمعالجة، فلا يَسُوغُ الكلام عنه بما فيه من فساد أو ما في حكمه ما لم يُحط بباقي الأطراف إحاطة علم وفهم؛ وذاك لأهمية الوقوف على مدى التزاحم بين المِلاكات وأي منها يرجح على غيره.

عندما يكون فسادُ هذا الشخص محدودًا في آماد أو جهات مُعينة، وكان لوجوده بين الناس اعتبارٌ له آثار وانعكاسات إيجابية، فعلى المُتصدِّي للمعالجة النظر بعين الحكمة في مِلَاكَي الكلام فيه أو السكوت، ومِلَاكَي السكوت مطلقًا أو تخصيص الكلام في حدود معينة؛ فإنَّ الغاية هي الإصلاح، وما أدى إليه في ضمن الحدود الآمنة من معارضة المفاسد اتُّبِعَ وتُرِكَ غيرُه.

لن تُغادرَ أذهانَنَا مواقفُ أميرِ المؤمنين (عليه السلام) المحكومة ببلاغة (سلامة الدين).

بكى رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) يومًا، فقال له أمير المؤمنين (عليه السلام):

“ما يُبكيك يا رسول الله؟

قال (صلَّى الله عليه وآله): ضغائنُ في صدور قومٍ لا يُبدونها لك حتَّى يفقدوني.

فقال (عليه السلام): يا رسول الله، أفلا أضع سيفي على عاتقي فأبيد خَضراءهم؟

قال (صلَّى الله عليه وآله): بل تصبر.

قال (عليه السلام): فإنْ صبرتُ؟

قال (صلَّى الله عليه وآله): تلاقي جهدًا.

قال (عليه السلام): أفي سلامةٍ مِنْ ديني؟

قال (صلَّى الله عليه وآله): نعم.

قال (عليه السلام): فإذًا لا أُبَالي”[25].

وقال (صلَّى الله عليه وآله) لعلي (عليه السلام):

“يا علي، إنَّكَ لاقٍ بعدي كذا وكذا.

فقال (عليه السلام): يا رسولَ الله، إنَّ السيف لذو شفرتين وما أنا بالقتل ولا الذليل!

قال (صلَّى الله عليه وآله): فاصبر يا علي.

قال عليٌّ (عليه السلام): أصْبِرُ يا رسولَ اللهِ”[26].

إذا كان مدار الأحكام الشرعية والتوجيهات والإرشادات المولوية المصالح والمفاسد، كما قامت عليه الأدلة، فلا شكَّ في أنَّ الأمر النبوي لأمير المؤمنين (عليه السلام) بالسكوت لرجحان مِلاكه، فكان صبره (عليه السلام) لمِلاك (سلامة الدين).

إذا اتَّسعت أوعيتُنا لفهم مثل هذه المعارف الجليلة، وعينا مدى السوء الذي وقع فيه بعض المؤمنين فارتمى في مهاوي التشنيع على العلماء والفقهاء والمراجع والحوزات العلمية.. إنَّه، والمشتكى لله تعالى، طريق سالِكٌ نحن سوء العاقبة، والعياذ بالله.

نسأل الله تعالى صلاح الحال والسلامة من أسقام النفس والبدن، والثبات على ولاية أهل البيت (عليهم السلام) والاستقرار تحت ظلِّ المرجعية الدينية الشريفة.

الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على محمَّد وآله الطاهرين.

 

السيد محمَّد بن السيد علي العلوي

16 جمادى الأولى 1441 للهجرة

البحرين المحروسة

…………………………………………………………

[1] – الآية 21 من سورة الأعراف

[2] – الآية 20 من سورة الأعراف

[3] – الأمالي – الشيخ الصدوق – ص 233

[4] – الكافي – الشيخ الكليني – ج 1 – ص 34

[5] – الاحتجاج – الشيخ الطبرسي – ج 1 – ص 7

[6] – عدة الداعي – ابن فهد الحلي – ص 66

[7] – معاني الأخبار – الشيخ الصدوق – ص 2

[8] – الآية 7 من سورة الحشر

[9] – الكافي – الشيخ الكليني – ج 1 – ص 63 – 64

[10] – الآيتان 103 و 104 من سورة الكهف

[11] – ميزان الحكمة – محمد الريشهري – ج 3 – ص 2324 عن تنبيه الخواطر ونزهة النواظر (المعروف بمجموعة ورَّام) لأبي الحسين ورَّام بن أبي فراس المالكي الأشتري ج1 ص 155 وص301

[12] – الآية 44 من سورة البقرة

[13] – الآية 56 من سورة الزمر

[14] – المحاسن – أحمد بن محمد بن خالد البرقي – ج 1 – ص 120

[15] – الآية 94 من سورة الشعراء

[16] – المحاسن – أحمد بن محمد بن خالد البرقي – ج 1 – ص 120

[17] – الاحتجاج – الشيخ الطبرسي – ج 2 – ص 263 – 264

[18] – كتاب الغيبة – محمد بن إبراهيم النعماني – ص 214

[19] – كتاب الغيبة – محمد بن إبراهيم النعماني – ص 213

[20] – المزار – الشيخ المفيد – ص 8

[21] – الآية 38 من سورة الحج

[22] – بحار الأنوار – العلامة المجلسي – ج 75 – ص 81

[23] – الفطير: كل ما أعجل عن إدراكه

[24] – بحار الأنوار – العلامة المجلسي – ج 75 – ص 81

[25] – بحار الأنوار – العلامة المجلسي – ج 34 – ص 339

[26] – مناقب آل أبي طالب – ابن شهر آشوب – ج 3 – ص 17

مقالات مشابهة

اترك تعليق


The reCAPTCHA verification period has expired. Please reload the page.