الغَيبَةُ أو بين يَدَي الظهور؟! تصحيح لثقافة وعقلية النظر

بواسطة Admin
0 تعليق

كلَّما تسارعت أحداث الزمان ووقائع الليل والنهار، وكلَّما تظافرت الفِتن، وتقاربت أطراف النوائب تجرُّ بعضها بعضًا، نرى ارتفاعًا في الاهتمام بأمر الإمام المُظفَّر حجَّة لله ابن الحسن (عجَّل اللهم فرجه ويسر مخرجه)، وهذا ليس بالأمر الجديد، فقد قال شيخُ الطائفة الطوسي (علا برهانه) في مقدَّمة كتابه الموسوم بالغيبة:

“أمَّا بَعْدُ، فإنِّي مُجيبٌ إلى ما رَسَمَهُ الشيخُ الجليلُ (أطال الله بقاءه) مِن إملاءِ كلامٍ في غَيبَةِ صَاحِبِ الزمان، وسببِ غيبتِهِ، والعِلَّةِ التي لأجْلِها طَالتْ غَيبَتُهُ، وامتداد استتاره، مَعَ شِدَّةِ الحَاجَةِ إليه وانتِشَارِ الحِيَلِ، ووقُوعِ الهَرْجِ والمرْجِ، وكثرةِ الفَسَادِ في الأرضِ، وظهورِه في البَرِّ والبَحْرِ، ولِمَ لَمْ يظهر؟ وما المانِعُ منه؟ وما المُحوِجُ إليه؟ والجواب عن كُلِّ ما يُسْألُ في ذلك مِنْ شُبَهِ المُخَالفين، ومَطَاعِنِ المعَانِدين”.

هذا وقد كانت وفاةُ الشيخ (نوَّر اللهُ مرقده الشرف) سنة (460 للهجرة) أي قبل قرابة عشرة قرون، ونلاحظ أنَّ الشكوى هي الشكوى، وعين النظر هي عين النظر، ما يُؤكِّدُ عدم اطمئنان المؤمنين لأيِّ حال دون حال العدل التام، أو الغالب، وإلَّا فالزمان لا يُمدَح عندهم، ولكنَّه موضوعٌ لمدح من يأتي في أزمنة بعدهم؛ عندما تقع المقارنة ويظهر للاحقين اشتداد الفساد عمَّا كان!

إنَّه وبالرغم ممَّا نراه اليوم ظهورًا للفساد في البرِّ والبحر، إلَّا أنَّ قلوبنا مستقرَّةٌ رائِقةٌ، مضيئةٌ بوعد الله جلَّ في علاه (وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ)[1]. ولكنَّ أمرًا ربَّما كان له دورٌ في سلب بعض المؤمنين نعمة الاستقرار، وإذهالِهم عن وظائفهم ومسؤولياتهم التي أراد الله تعالى لهم ان يتحملوها. أنَّه توجُّه بعض الأفاضل لتركيز الحديث في علامات الظهور الشريف للقائم المُظفَّر (صلوات الله وسلامه عليه)، حتَّى جَنَحَ منهم من جَنَحَ فبالغ إلى حدِّ إسقاط الأحداث المشهودة على الروايات الشريفة ولو إيحاءً!

أدَّى ذلك إلى تخلُّفٍ في عقلية الترقب والانتظار، وهذا أخطرُ ممَّا قد نتصور؛ فإنَّ تأخر الفرج بحسب موازين البشر وتقديراتهم قد يكون طريقًا سالكًا للتشكيك في أصل قضية الإمام المهدي (أرواحنا فداه)، بل وقد يتجاوز الأمر إلى اختلال في عقيدة التوحيد.

هذا، وقد جاء عن أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام)، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلَّى الله عليه وآله):

“إِنَّ هَذَا الدِّينَ مَتِينٌ، فَأَوْغِلُوا فِيه بِرِفْقٍ، ولَا تُكَرِّهُوا عِبَادَةَ اللَّه إِلَى عِبَادِ اللَّه فَتَكُونُوا كَالرَّاكِبِ الْمُنْبَتِّ الَّذِي لَا سَفَراً قَطَعَ ولَا ظَهْراً أَبْقَى”[2]، ولا شكَّ في عِظم أمر أهل البيت (عليهم السلام)، سيما الإمام المهدي (عجَّل اللهم فرجه الشريف) وأمر غيبته ووجوده التكويني في آثاره، فكان من الحكمة الهدوء والتريث والاتِّزان في الحديث حوله (عليه السلام) إلى عامَّة الناس وجمهور المؤمنين (أعزَّهم الله ورفع كلمتهم).

قال الإمامُ الباقرُ (عليه السلام):

“إِنَّ حَدِيثَكُمْ هَذَا لَتَشْمَئِزُّ مِنْه قُلُوبُ الرِّجَالِ، فَمَنْ أَقَرَّ بِه فَزِيدُوه، ومَنْ أَنْكَرَه فَذَرُوه؛ إِنَّه لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ فِتْنَةٌ يَسْقُطُ فِيهَا كُلُّ بِطَانَةٍ ووَلِيجَةٍ، حَتَّى يَسْقُطَ فِيهَا مَنْ يَشُقُّ الشَّعْرَ بِشَعْرَتَيْنِ، حَتَّى لَا يَبْقَى إِلَّا نَحْنُ وشِيعَتُنَا”[3].

خطر التشخيص:

عندما يُبرِّرُ بعض المؤمنين عقلية مراقبة الأحداث الجارية ومحاولة ربطها التعيُّني بالأحاديث الشريفة، فإنَّهم، كما يظهر، قد غفلوا ما يؤدِّي إليه ذلك من خطورة الخطأ في تشخيص الإمام (عليه السلام) عند ادِّعاء مقامه الشريف مِن مُدَّعٍ آثم، وعندما يأذن له اللهُ تعالى بالفرج، وإنَّنا نرى ونسمع عن كثرة المُدَّعين للمهدوية أو لليمانية أو للسفارة الخاصَّة، وهي ادِّعاءاتٌ ترجع بشكل كبير في وجودها إلى ارتفاع وتيرة الترقب المعلول لعقلية الاسقاطات وربط الحوادث بما رود في الأحاديث الشريفة ربطًا تعيُّنيًا، أو يكاد أن يكون كذلك ولو إيحاءً أو بما يُؤسِّسُ لذلك.

ليس من الصعب أنْ نقول اليوم: عندما يظهر الإمام (عليه السلام) فسوف نعرفه، ولا شكَّ في أنَّه لن يكون مثل فلان أو فلان من المدَّعين، وبالتالي فإنَّ الاشتباه غير متصور؛ كيف وهو (عجَّل اللهم فرجه الشريف) من سلالة النبيين وعليه هيبة أهل بيت العصمة (عليهم السلام)..

إنَّ أخشى ما نخشاه هو أن يكون مثلُ هذا الكلام نظريًا يتوافق مع العقيدة فتهدأ معه النفس، وهو ما قد نجده الأقرب إلى طبيعة التكوين الثقافي والفكري للإنسان من جهة تعرفه على الأشياء من خلال القياس وإعمال المعايير، فتكون المشكلة في نفس قوانين القياس والمعايير من جهة، وفي القدرة على القياس والتشخيص من جهة أخرى. ومع تزايد الادِّعاءات بالمهدوية واليمانية والسفارة، وفي قبالها ارتفاع مستوى الإنكار والتحذير من التسليم لمثل هذه التيارات المنحرفة، تتشكل عقلية التشكيك، بل والرفض كأصل يُتمسَّك به عند مواجهة ادِّعاء من هذا القبيل، ومن هنا يأتي الخوف الحقيقي من إنكار الإمام المهدي (عليه السلام) عند ظهوره المبارك.

عَنِ الْمُفَضَّلِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّه (عليه السلام) يَقُولُ:

“إِيَّاكُمْ والتَّنْوِيه؛ أَمَا واللَّه لَيَغِيبَنَّ إِمَامُكُمْ سِنِينًا مِنْ دَهْرِكُمْ، ولَتُمَحَّصُنَّ حَتَّى يُقَالَ مَاتَ.. قُتِلَ.. هَلَكَ.. بِأَيِّ وَادٍ سَلَكَ! ولَتَدْمَعَنَّ عَلَيْه عُيُونُ الْمُؤْمِنِينَ، ولَتُكْفَأنَّ كَمَا تُكْفَأُ السُّفُنُ فِي أَمْوَاجِ الْبَحْرِ، فَلَا يَنْجُو إِلَّا مَنْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَه وكَتَبَ فِي قَلْبِه الإِيمَانَ وأَيَّدَه بِرُوحٍ مِنْه، ولَتُرْفَعَنَّ اثْنَتَا عَشْرَةَ رَايَةً مُشْتَبِهَةً، لَا يُدْرَى أَيٌّ مِنْ أَيٍّ!

قَالَ: فَبَكَيْتُ. ثُمَّ قُلْتُ: فَكَيْفَ نَصْنَعُ؟!

قَالَ (عليه السلام): فَنَظَرَ إِلَى شَمْسٍ دَاخِلَةٍ فِي الصُّفَّةِ، فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّه، تَرَى هَذِه الشَّمْسَ؟

قُلْتُ: نَعَمْ.

فَقَالَ (عليه السلام): واللَّه لأَمْرُنَا أَبْيَنُ مِنْ هَذِه الشَّمْسِ”[4].

إنَّه وبالرغم من كون أمرهم (عليهم السلام) أبينَ من الشمس، إلَّا أنَّه الحقُّ، وأكثرهم للحقِّ كارهون، وحتَّى من لا يكره الحقَّ، فإنَّه ما لم يحافظ على صفاء قلبه ونقاء سريرته بالاستقامة على كلمة الله تعالى تمسُّكًا بالثقلين، كتاب الله والعترة الطاهرة، كان مُتعرِّضًا لكدورات النفس، خصوصًا عندما تجرفه أمواج الفتن وتسيطر عليه اجتهاداتٌ يحسبها الحقَّ المبين.

إنَّنا في زمن الغيبة مأمورون بكل وضوح أن نلتزم شاطئ الاحتياط، وهو التزام قد يكون من أشدِّ درجات الجهاد؛ كيف لا، وفي البحر كنوز وكنوز قد ضلَّ السالكون إليها عندما أمسكوا بنواصي علوم الإبحار وفنون الغوص، فحسبوا أنفسهم سفَّاني العصر، يشقون الشعر بشعرتين!

قال الإمامُ أبو عبد الله الصادق (عليه السلام): “الوقوفُ عند الشُبهَةِ خَيرٌ من الاقتِحَامِ في الهَلَكَةِ”[5].

عن أبي المرهف، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): “هلكتِ المحاضير.

قال: قلتُ: وما المحاضير؟

قال (عليه السلام): المستعجلون! ونجا المُقْرِبُون، وثَبَتَ الحِصنُ على أوتادِها. كونوا أحلاسَ بيوتكم، فإنَّ الغَبرةَ على مَنْ أثَارها، وأنَّهم لا يُريدُونكم بجائحة[6] إلَّا أتاهم اللهُ بشَاغِلٍ، إلَّا مَنْ تَعَرَّضَ لَهُم”[7].

لا تذهب ببعض المؤمنين المذاهب، فإنَّ قوله (عليه السلام): ” كونوا أحلاسَ بيوتكم” شديد الوضوح في الاهتمام بالبناء العقائدي وصيانته في النفس وفي مجتمع المؤمنين، وهذا ما سوف يتَّضح قريبًا إن شاء الله تعالى.

المُتحصل ممَّا مرَّ، ضرورة المبالغة جدًّا في التحرز من ارتكاب الشبهات واقتحام الهلكات، فإنَّ قضية الإمام المهدي (عليه السلام) محورٌ أوحد يدور عليه العالم.. والشرُّ كثيرٌ، يملأ سماءً قد تلبَّدت بغيوم مُصْطَكَّةٍ من الشبهات والضلالات، وليس لنا الوصية الأصل لرسول الله (صلَّى الله عليه وآله)، قال:

“معاشر الناس، إنِّي راحِلٌ عن قريب، ومُنطَلِقٌ إلى المغيب، فأودعكم وأوصيكم بِوصِيةٍ فاحفظوها: إنِّي تارك فيكم الثقلين؛ كتاب الله وعترتي أهل بيتي، إنْ تَمَسَّكْتُم بهما لن تَضلُّوا أبدًا، معاشر الناس، إنِّي مُنذِرٌ وعليٌّ هَاد، والعَاقِبَةُ للمُتَّقين، والحمدُ لله ربِّ العالمين”[8].

مشكلة الانضغاط الثقافي والفكري:

يرجع الكثير من أخطائنا في التقديرات والتشخيصات الموضوعية إلى الضغط الثقافي والفكري الذي تصنعه التداولات وعقلية الفرز، إذ فيها يفقد الفردُ والجماعات نِسبًا متفاوتة ولكنَّها في الجملة لا يُستهان بها من الاستقلالية في التعقُّل والتقدير؛ فإنَّ شدَّة الدفع وتيارات التوجيه ليست بخافية على ذي عقل عند أدنى التفات، وهي مشكلةٌ لها امتداداها التاريخي، ما بعث علماء النفس والاجتماع على بحثها وبذل الجهود في تحليلها.

هكذا يُصنَّفُ الناس: متهورون منفلتون.. وفي قبالهم جبناء متخاذلون… متمرِّد.. وفي قباله إمَّعة!! وبالتالي فإنَّ السلامة من قواطع الفرز والتصنيف صعبة غاية الصعوبة، خصوصًا في الأجواء الحارَّة!

هذا أمر مُؤسفٌ، ولا نملك غير الوصية لأنفسنا والمؤمنين بضرورة حمل بعضنا البعض على محامل الخير، وليكن حاضرًا في النفس والذهن أنَّ ادِّعاءَ وضوح الحقيقة لا يعني وضوحها، بل قد تكون على خلاف المدَّعى، كما وأنَّ التوجهات والآراء التي قد تبدو متباينة أو حتَّى متعاكسة، ربَّما التقت في الكثير من المبادئ والمفاصل، وليس اختلافها أو تعاكسها إلَّا توهمات صنعها نفس الفرز وضغط الاصطفافات.

وحتَّى لو كانت الرؤى متعاكسةً فعلًا، فإنَّ حمل الآخر على محامل سلامة النية وصدق المقصد، يكفي في عدم مصادرته وإقصائه.

قال الله تعالى (رُحَمَاء بَيْنَهُمْ)[9].

وظيفة المؤمنين في زمن الغيبة:

عَنْ زُرَارَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّه (عليه السلام) يَقُولُ:

“إِنَّ لِلْغُلَامِ غَيْبَةً قَبْلَ أَنْ يَقُومَ.

قَالَ: قُلْتُ: ولِمَ؟

قَالَ (عليه السلام): يَخَافُ. وأَوْمَأَ بِيَدِه إِلَى بَطْنِه. ثُمَّ قَالَ: يَا زُرَارَةُ، وهُوَ الْمُنْتَظَرُ، وهُوَ الَّذِي يُشَكُّ فِي وِلَادَتِه؛ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ مَاتَ أَبُوه بِلَا خَلَفٍ، ومِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ حَمْلٌ، ومِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ إِنَّه وُلِدَ قَبْلَ مَوْتِ أَبِيه بِسَنَتَيْنِ، وهُوَ الْمُنْتَظَرُ، غَيْرَ أَنَّ اللَّه عَزَّ وجَلَّ يُحِبُّ أَنْ يَمْتَحِنَ الشِّيعَةَ. فَعِنْدَ ذَلِكَ يَرْتَابُ الْمُبْطِلُونَ يَا زُرَارَةُ.

قَالَ: قُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، إِنْ أَدْرَكْتُ ذَلِكَ الزَّمَانَ أَيَّ شَيْءٍ أَعْمَلُ؟

قَالَ (عليه السلام): يَا زُرَارَةُ، إِذَا أَدْرَكْتَ هَذَا الزَّمَانَ فَادْعُ بِهَذَا الدُّعَاءِ:

(اللَّهُمَّ عَرِّفْنِي نَفْسَكَ فَإِنَّكَ إِنْ لَمْ تُعَرِّفْنِي نَفْسَكَ لَمْ أَعْرِفْ نَبِيَّكَ اللَّهُمَّ عَرِّفْنِي رَسُولَكَ فَإِنَّكَ إِنْ لَمْ تُعَرِّفْنِي رَسُولَكَ لَمْ أَعْرِفْ حُجَّتَكَ اللَّهُمَّ عَرِّفْنِي حُجَّتَكَ فَإِنَّكَ إِنْ لَمْ تُعَرِّفْنِي حُجَّتَكَ ضَلَلْتُ عَنْ دِينِي)”[10].

هنا ثلاثة أمور:

أوَّلًا: الالتزام مطلقًا بمحور العقيدة (التوحيد، النبوة، والإمامة).

عندما يكون الحديث في التوحيد والنبوة والإمامة عمقًا وبسطًا فهو حينها عن كلِّ ما يخصُّ المؤمن من علوم وجوده مطلقًا، فيقف بوضوح على ما ينبغي له علمه وما ينبغي له عمله، وما لا ينبغي له علمه وما لا ينبغي له عمله، وبذلك يستقيم على الطريقة التي أرادها الله تعالى، قال عزَّ وجلَّ (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ)[11]، وقال تبارك ذكره (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)[12]، فمصير الإنسان من جهة رضا الله تعالى مرتبطٌ بمدى اهتمامه بهذه الأمور الثلاثة؛ كلَّما بالغ في الاهتمام نظرًا وتعلُّمًا وعملًا تعرَّضَ لرضاه جلَّ في علاه، وكلَّما تراجع في اهتمامه تعرَّض للزيغ والضلال والتِيه، قال الإمام الصادق (عليه السلام):

“الإِسْلَامُ هُوَ الظَّاهِرُ الَّذِي عَلَيْه النَّاسُ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه وَحْدَه لَا شَرِيكَ لَه وأَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُه ورَسُولُه وإِقَامُ الصَّلَاةِ وإِيتَاءُ الزَّكَاةِ وحِجُّ الْبَيْتِ وصِيَامُ شَهْرِ رَمَضَانَ فَهَذَا الإِسْلَامُ وقَالَ الإِيمَانُ مَعْرِفَةُ هَذَا الأَمْرِ مَعَ هَذَا فَإِنْ أَقَرَّ بِهَا ولَمْ يَعْرِفْ هَذَا الأَمْرَ كَانَ مُسْلِماً وكَانَ ضَالًّا”[13].

وجاء عَنْ سَمَاعَةَ، قَالَ: قُلْتُ لأَبِي عَبْدِ اللَّه (عليه السلام):

“أَخْبِرْنِي عَنِ الإِسْلَامِ والإِيمَانِ؛ أهُمَا مُخْتَلِفَانِ؟

فَقَالَ (عليه السلام): إِنَّ الإِيمَانَ يُشَارِكُ الإِسْلَامَ، والإِسْلَامَ لَا يُشَارِكُ الإِيمَانَ.

فَقُلْتُ: فَصِفْهُمَا لِي.

فَقَالَ (عليه السلام): الإِسْلَامُ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه، والتَّصْدِيقُ بِرَسُولِ اللَّه (صلَّى الله عليه وآله)، بِه حُقِنَتِ الدِّمَاءُ وعَلَيْه جَرَتِ الْمَنَاكِحُ والْمَوَارِيثُ، وعَلَى ظَاهِرِه جَمَاعَةُ النَّاسِ. والإِيمَانُ الْهُدَى ومَا يَثْبُتُ فِي الْقُلُوبِ مِنْ صِفَةِ الإِسْلَامِ ومَا ظَهَرَ مِنَ الْعَمَلِ بِه. والإِيمَانُ أَرْفَعُ مِنَ الإِسْلَامِ بِدَرَجَةٍ. إِنَّ الإِيمَانَ يُشَارِكُ الإِسْلَامَ فِي الظَّاهِرِ، والإِسْلَامَ لَا يُشَارِكُ الإِيمَانَ فِي الْبَاطِنِ وإِنِ اجْتَمَعَا فِي الْقَوْلِ والصِّفَةِ”[14].

ثانيًا: تفتقرُ المعرفةُ العَقَديةُ مُطْلقًا إلى هداية من الله تعالى على نحو الحصر.

خلقَ اللهُ تعالى العقل كاملًا مطيعًا مُسلِّمًا لأمر مولاه، فعَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الباقر (عليه السلام)، قَالَ:

“لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الْعَقْلَ اسْتَنْطَقَه، ثُمَّ قَالَ لَه أَقْبِلْ فَأَقْبَلَ، ثُمَّ قَالَ لَه أَدْبِرْ فَأَدْبَرَ. ثُمَّ قَالَ: وعِزَّتِي وجَلَالِي، مَا خَلَقْتُ خَلْقًا هُوَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْكَ، ولَا أَكْمَلْتُكَ إِلَّا فِيمَنْ أُحِبُّ. أَمَا إِنِّي إِيَّاكَ آمُرُ وإِيَّاكَ أَنْهَى وإِيَّاكَ أُعَاقِبُ وإِيَّاكَ أُثِيبُ”[15].

ركَّب الله تعالى العقل في الإنسان كل بحسبه على وفق حكمته تعالى، ولذلك قال “ولَا أَكْمَلْتُكَ إِلَّا فِيمَنْ أُحِبُّ”، فَتَبَيَّنَ التفاوت بين البشر في العقول، وقد جاء عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَمَّارٍ، قَالَ: قُلْتُ لأَبِي عَبْدِ اللَّه (عليه السلام):

“الرَّجُلُ آتِيه وأُكَلِّمُه بِبَعْضِ كَلَامِي فَيَعْرِفُه كُلَّه، ومِنْهُمْ مَنْ آتِيه فَأُكَلِّمُه بِالْكَلَامِ فَيَسْتَوْفِي كَلَامِي كُلَّه ثُمَّ يَرُدُّه عَلَيَّ كَمَا كَلَّمْتُه، ومِنْهُمْ مَنْ آتِيه فَأُكَلِّمُه فَيَقُولُ أَعِدْ عَلَيَّ!

فَقَالَ (عليه السلام): يَا إِسْحَاقُ، ومَا تَدْرِي لِمَ هَذَا؟

قُلْتُ: لَا.

قَالَ (عليه السلام): الَّذِي تُكَلِّمُه بِبَعْضِ كَلَامِكَ فَيَعْرِفُه كُلَّه فَذَاكَ مَنْ عُجِنَتْ نُطْفَتُه بِعَقْلِه، وأَمَّا الَّذِي تُكَلِّمُه فَيَسْتَوْفِي كَلَامَكَ ثُمَّ يُجِيبُكَ عَلَى كَلَامِكَ فَذَاكَ الَّذِي رُكِّبَ عَقْلُه فِيه فِي بَطْنِ أُمِّه، وأَمَّا الَّذِي تُكَلِّمُه بِالْكَلَامِ فَيَقُولُ أَعِدْ عَلَيَّ فَذَاكَ الَّذِي رُكِّبَ عَقْلُه فِيه بَعْدَ مَا كَبِرَ فَهُوَ يَقُولُ لَكَ أَعِدْ عَلَيَّ”[16].

وعن عبد الله بن سنان، قال: سألت أبا عبد الله جعفر بن محمد الصادق (عليهما السلام): فقلتُ:

“الملائكة أفضل أم بنو آدم؟

فقال (عليه السلام): قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام): إنَّ الله رَكَّبَ في الملائكة عقلًا بلا شهوة، وركَّبَ في البهائم شهوةً بلا عقلٍ، وركَّبَ في بني آدم كلتيهما، فمن غَلَبَ عقلُهُ شهوتَهُ فهو خيرٌ مِنَ الملائِكَةِ، ومن غَلَبَ شهوتُهُ عقْلَهُ فهو شَرٌّ من البهائِمِ”[17].

يتبين بذلك محلُّ الإنسان من مخاطر الزيغ والضلال والانحراف، ما يوجبُ عليه المبالغة في التحرُّز عن المزِلَّات؛ ففيها هلاكه والخسران المبين. ولأنَّ نفس الإنسان مهما بلغ من العلم فإنَّه لن يصل إلى درجة العصمة من ارتكاب خطأ قاتل.

لذا، حَكَمَ العقلُ السليمُ بوجوب صيانة النفس بطلب التوفيق والهُدى من الله تعالى والتعرُّض دائمًا للطفه ورحمته، وإلَّا فالعلم وحده دون هداية ولطف من الله جلَّ في علاه مهلكةٌ بعد ضياع، ولنا في الشلمغاني، وقبله السامري عبرة.

——————————

ثالثًا: إنَّ هذا الدعاء من مقتضيات بقاء الموجود، لا الإيجاد.

أراد الداعي العصمةَ من الضلال عن الدين، فهو صاحب دين قد توجَّه إلى الله تعالى بالدعاء أن يعصمه من الضلال، وما يبدو للنظر القاصر أنَّ الإمام (عليه السلام) يُنبِّه في هذا الدعاء الشريف إلى ما يَعْرُضُ على الإنسان في هذه الدنيا من مُضلَّات الفِتن والبِدع بما يحرفه عن الله تعالى أو عن معرفته كما يريدها للإنسان، وهذا ما حاولنا تبينه في الأمر الثاني. وبالتالي، فبعد الإيمان والكون على الطريقة المستقيمة كانت وظيفة المؤمن البحث عن كلِّ ما يُحقِّقُ له صحَّة اللجوء إلى بارئه سبحانه والاحتماء بقربه، خصوصًا وأنَّ الطريق المستقيم محفوف بمخاطر الانزلاق، كيف لا وعينُ ابليس وشياطين الجنِّ والإنسِ مُصَوبةٌ نحوه تبحث عن سالكيه؟

قال بما يحكيه الذكر الحكيم (قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ)[18].

إشكال الإخمال وتعطيل العقول:

هناك الكثير من الأحاديث الشريفة التي تتحدَّث عن أحوال الزمان بين يدي الظهور المُقدَّس للإمام المهدي المنتظر (أرواحنا فداه)، وعن علامات الظهور وما شابه، ومن الواضح أنَّ الغاية من تصريح الأئمة الطاهرين (عليهم السلام) بها، وتقييض الله تعالى لها من يجمعها ويدونها ويحفظها في الكتب، أن يتعرَّض لها المؤمنون فيفهمونها وينظرون إلى واقع الحياة من خلالها. فكيف يصحُّ حصر وظيفة المؤمن في المعرفة العقدية والدعاء؟ أليس هذا إخمال له عن دوره الفاعل في المجتمع؟ أوليس في ذلك تعطيل للعقول؟

الجواب: أمران ينبغي الوعي بهما جيِّدًا، هما:

الأوَّل: ليس من المعقول، ولا يُعقل أن يقول أو يتبنى عاقِلٌ إيكَالَ كُلِّ أمرٍ يَهُمُّ الفرد إلى الفردِ نَفْسِهِ؛ فمن الواضح جدًّا عدم الملازمة بين كون الأمر مهمًّا لي أن أكون مسؤولًا عن معرفته معرفة تفصيلية، ولذلك قال الفقهاء: المُكلَّف إمَّا مجتهِدٌ أو مُحتاطٌ، وإلَّا فمُقلِّد، وقال العقلاء بوجوب رجوع الجاهل إلى العاقل.

جاء في التوقيع الشريف لبقية الله الأعظم (أرواحنا فداه) أنَّه قال:

“أمَّا الحَوادِث الواقِعَة فارجعوا فيها إلى روَاةِ حَدِيثِنا؛ فإنَّهم حُجَّتِي عليكم وأنا حُجَّةُ اللهِ عَليهم”[19].

من جهة التخصُّص، يشترك الفقهاء مع الأطباء والمهندسين والاقتصاديين في كونهم المرجع الصحيح لمن هم دونهم من غير المُختَصِّين، وكما أنَّ العرف السليم، فضلًا عن العقلاء، يلوم العامِّي ويرى إعذاره سفهًا إذا اجتهد في علاج أمراضه دون الرجوع إلى الطبيب المختص، فكذلك عندما يضع نفسه موضع الفقيه الذي جعله الله تعالى قائدًا للعباد.

قال رسول الله (صلَّى اللهُ عليه وآله): “المُتَّقُونَ سَادَةٌ، والفُقَهَاءُ قَادَةٌ، والجُلوسُ إليهم عِبَادَةٌ”[20].

إنَّ التزام المؤمنين طريقةَ الفقهاء إنَّما هو التزام بما عليه مجموعهم، أي: ما عليه المرجعية الشيعية، لا المراجع فرادى حتَّى يُقال: هناك ما هم مُختَلِفون فيه. وهنا أبيِّنُ أمرًا:

هناك المُبَلِّغون من طلبة العلوم الدينية، ويُقصدُ بهم – في الجملة – أئمة الجماعة وأصحاب الموعظة الحسنة، ومن يعرِّفون المؤمنين بالأحكام الشرعية وفتاوى فقهاء الطائفة، وهؤلاء الكِرام من طلبة العلم عامِلُ حفظٍ للمؤمنين وواسطة بينهم وبين المراجع في الأحكام الشرعية وما نحوها.

وهناك عنوان المرجعية الدينية، وهو الجامع الأعلى لأفراد الفقهاء، صمَّام الأمان الأكثر خطرًا.

بين المبلغين والمرجعية مواقع يشغلها طلبة العلم على مختلف مستوياتهم.

ما ينبغي التنبُّه إليه جيدًا، والتأكيد عليه بشدَّة، هو ضرورة التزام كلّ من هو دون المرجعية الدينية بالخطوط العامَّة لها في الرؤى والمواقف، وهي ضرورة لا يصح استسهال مخالفتها ولو بأقل ما يكون؛ فقد قامت الأدلة القطعية على أنَّ المرجعية الدينية، على رؤى المُحدِّثين والمجتهدين، مُؤيَّدةٌ ومسَدَّدةٌ من الله العلي القدير، وأنَّها من أهمِّ مظاهر وتجليات اللطف الإلهي.

قال الإمام الصادق (عليه السلام) في العدَّة التي يخرج فيها الإمام المهدي (عليه السلام):

“هذه العدَّةُ التي يُخرِجُ اللهُ فيها القائِمَ (عليه السلام)، هم النُجَبَاءُ والقُضَاةُ والحُكَّامُ والفُقَهَاءُ في الدين، يَمْسَحَ بُطُونَهم وظُهورَهم فَلا يَشْتَبِهُ عليهم حُكْمٌ”[21].

ولا ينبغي أن ننسى شمول اللطف الإلهي للأمَّة، وهو ما جاء عن الناحية المقدَّسة إلى الشيخ المفيد (علا برهانه)، قال (أرواحا فداه):

“سَلامٌ عليك أيُّها الوليُّ المخلص في الدين، المخصوص فينا باليقين، فإنَّا نحمد إليك اللهَ الذي لا إله إلَّا هو، ونسألُه الصلاةَ على سيدنا ومولانا ونبينا محمَّد وآله الطاهرين، ونُعلِمُكَ – أدام اللهُ توفيقَكَ لِنُصرَة الحقِّ، وأجْزَلَ مَثُوبَتَكَ على نُطقِكَ عَنَّا الصدق: أنَّه قد أُذِنَ لنا في تشريفك بالمكاتبة، وتكليفك ما تؤديه عنَّا إلى مَوَالينا قِبَلك – أعزَّهم اللهُ بطاعته، وكفاهم المُهِمَّ برعايته لهم وحراسته – فَقِفْ أيَّدَكَ اللهُ بعونه على أعدائه المارقين من دينه على ما أذكره، واعمل في تأديته إلى مَنْ تسكن إليه بما نرسمه إن شاء الله.

نحن وإنْ كُنَّا نائين بمكاننا النائي عن مساكن الظالمين، حسب الذي أراناه اللهُ تعالى لنا من الصلاح ولشيعتنا المؤمنين في ذلك ما دامت دولة الدنيا للفاسقين، فإنَّا نُحيطُ عِلمًا بأنبائكم، ولا يَعزُبُ عنَّا شيءٌ من أخباركم، ومعرفتنا بالذل الذي أصابكم مُذْ جَنَحَ كثيرٌ منكم إلى ما كان السَلَفُ الصَالِحُ عنه شَاسِعًا، ونبذوا العهد المأخوذ وراء ظهورهم كأنَّهم لا يعلمون.

إنَّا غير مهملين لمراعاتكم، ولا ناسين لذكركم، ولولا ذلك لنزل بكم اللأواء واصطلمكم الأعداء، فاتَّقُوا اللهَ جَلَّ جلالُهُ وظَاهِرُونا على انتياشِكُم مِنْ فِتْنَةٍ قد أنافَتْ عليكم، يهلك فيها من حَمَّ أجلُه ويحمى عنها من أدْرَكَ أمله، وهي أمارة لأزوف حركتنا ومباثتكم بأمرنا ونهينا، والله مُتِم نوره ولو كره المشركون”[22].

فلنعي جيِّدًا أنَّ فقهاء الطائفة المُحقَّة، من مُحدِّثين ومجتهدين، ليسوا ببعيدين عن مقام الشيخ المُعظَّم أبي عبد الله محمَّد بن محمَّد بن النعمان بن عبد السَّلام الحارثي المذحجي العكبري، المعروف بابن المعلم، والمفيد (علا برهانه وطاب رمسه)، وإنِّي لأرى بأنَّ ما حظي به من تشريف مهدوي عِتروي باهر، لهو تشريفٌ للأتقياء العدول من فقهاء الطائفة على مرِّ العصور، فالحمد لله دائِمًا أبدًا.

الثاني: فلنُسلِّم بما قد يُصرُّ عليه البعض ويراه من حقوق المؤمنين كافَّة، وهو تتبع أخبار الملاحم والفتن، والوقوف على أحاديث علامة الظهور الشريف وأشراط الساعة، ولنبحث بعدئذ في مقام هذه الأحاديث الشريفة إن كان مقام ثبوت أو إثبات.

عندما نقف على نقل التاريخ للكثير من الأحداث التي حسبها المؤمنون من أهم علامات الظهور، حتَّى كان الرجال يبيتون وأسلحتهم تحت رؤوسهم تحسبًا لوقوع الساعة المنتظرة، كما وكانوا يخرجون في أيَّام الجمع إلى الصحاري تحريًا لقدومه المبارك (أرواحنا فداه)، نعلم بأنَّ الحدث الواقع في الخارج إن لم يكن هو العلامة فلن يكن كاشفًا عن شيء يتعلَّق بالظهور الشريف، والحال أنَّ أحدًا لا يمكنه القطع بكون هذه الحادثة هي العلامة أو لا، فاتضح أنَّ أحاديث الملاحم والفتن ثبوتيَّةٌ لا إثباتية، أي أنَّ موضوعها هو الواقع الثابت الذي يسميه العلماء بالواقع ونفس الأمر، فلا يصح الاستدلال بها على قرب أو بعد الظهور.

إنَّ ما عليه مراجع الطائفة في عنوانهم المرجعي العام هو عدم الحديث عن علامات الظهور الشريف بالشكل والطريقة التي تربط ساعة الفرج بالأحداث والوقائع الخارجية، وما ذاك إلَّا لعمق فهمهم ورسوخ فقاهتهم، فلا يدفعون المؤمنين في اتِّجاه التعلق بما لا يمكنهم القطع به، وهذه لعمري حكمة الفقهاء وطريقة العلماء.

أمَّا ما يُنسب إلى بعض الفقهاء من تصريحات بقرب ساعة الظهور الشريف، فهي لم تثبت عن أحد منهم أصلًا، وإن ثبتت فإنَّ كلامنا في المرجعية الدينية بما هي عنوان شامل، لا بما هي أفراد المراجع.

إنَّ مسألة الإمام المهدي (عليه السلام) مسألة الحجَّة التي يحفظ الله تعالى بها الأرض؛ فعن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله):

إنِّي واثني عشر من ولدي وأنت يا علي زر الأرض، يعني أوتادها وجبالها، بنا أوتَدَ اللهُ الأرضَ أن تسيخ بأهلها، فإذا ذهب الاثنا عشر من ولدي ساختِ الأرضُ بأهلها ولم يُنْظَرُوا”[23].

وعن سليمان بن مهران الأعمش، عن الصادق جعفر بن محمد، عن أبيه محمَّد بن علي، عن أبيه علي بن الحسين (عليهم السلام)، قال:

“نحن أئمة المسلمين، وحجج الله على العالمين، وسادة المؤمنين، وقادة الغر المحجلين، وموالي المؤمنين. ونحن أمانُ أهل الأرض كما أنَّ النجوم أمانُ لأهل السماء. ونحن الذين بنا يُمسِكُ اللهُ السماء أنْ تقع على الأرض إلَّا بإذنه، وبنا يُمسك الأرض أن تميد بأهلها، وبنا ينزل الغيث، وبنا ينشر الرحمة، ويُخرج بركات الأرض، ولولا ما في الأرض مِنَّا لساخت بأهلها.

قال (عليه السلام): ولم تخلُ الأرضُ منذ خَلَقَ اللهُ آدم من حُجَّةٍ لله فيها، ظاهر مشهور، أو غائب مستور، ولا تخلو إلى أن تقوم الساعة من حُجَّةٍ لله فيها؛ ولولا ذلك لم يُعبد الله.

قال سليمان: فقلت للصادق (عليه السلام): فكيف ينتفع الناس بالحجة الغائب المستور؟

قال (عليه السلام): كما ينتفعون بالشمس إذا سترها السحاب”[24].

إنَّ الظهور الشريف لبقية الله الأعظم (صلوات الله وسلامه عليه) أمرٌ اقتضاه الطغيان وظهور الفساد في البرِّ والبحر بما كسبت أيدي الناس، وهو راجع إلى قضاء الله جلَّ في علاه، وسواء أذن سبحانه فوق الساعة، أو تأخَّر إلى مليون سنة، فهذا لا علاقة له على الإطلاق بالعقيدة في الوجود المقدَّس للحجَّة ابن الحسن (أرواحنا فداه)، وهذا ما ينبغي أن يكون عليه المؤمنون مع المحافظة على الدعاء بالفرج، وهو ما أُمِرنا به.

ولذا، ينبغي تجنُّب التعبير بـ(بين يدي الظهور) أو ما نحوها من تعبيرات لا تصح إلَّا للمعصوم (عليه السلام) لكونه القادر على القطع، أمَّا نحن ففي عصر الغيبة، وفقط.

عن يحيى بن زكريا الأنصاري، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: سمعتُه يقول:

“مَنْ سَرَّهُ أنْ يَسْتَكمِلَ الإيمان كله فليقُل: القولُ مِنِّي في جميع الأشياء قول آل محمَّد، فيما أسَرُّوا وما أعلنوا، وفيما بلغني عنهم وفيما لم يبلغني”[25].

 

السيد محمَّد بن السيد علي العلوي

11 جمادى الأولى 1441 للهجرة

البحرين المحروسة

…………………………………………..

[1] – الآيتان 5 و 6 من سورة القصص

[2] – الكافي، الشيخ الكليني، ج2 ص ٨٦

[3] – الكافي، الشيخ الكليني، ج1 ص ٤١٨

[4] – الكافي، الشيخ الكليني، ج1 ص ٣٨٤

[5] – وسائل الشيعة ( الإسلامية )، الحر العاملي، ج18 ص ٨٦

[6] – الجائحة: الشدَّة

[7] – الغيبة، ابن أبي زينب النعماني، ص ٢٠٣

[8] – مستدرك الوسائل، ج ١١، ميرزا حسين النوري الطبرسي، ص ٣٧٤

[9] – الآية 29 من سورة الفتح

[10] – الكافي، الشيخ الكليني، ج1 ص ٣٨٥

[11] – الآية 30 من سورة فصلت

[12] – الآيتان 13 و 14 من سورة الأحقاف

[13] – الكافي، الشيخ الكليني، ج2 ص ٢٤

[14] – الكافي، الشيخ الكليني، ج2 ص ٢٥

[15] – الكافي، الشيخ الكليني، ج1 ص ٥٨

[16] – الكافي، الشيخ الكليني، ج1 ص ٧٤

[17] – الفصول المهمة في أصول الأئمة، الحر العاملي، ج1 ص ١١٨

[18] – الآيتان 16 و 17 من سورة الأعراف

[19] – كمال الدين وتمام النعمة – الشيخ الصدوق – ص 484

[20] – بحار الأنوار – العلامة المجلسي – ج 1 – ص 201

[21] – دلائل الامامة – محمد بن جرير الطبري (الشيعي) – ص 562

[22] – المزار – الشيخ المفيد – ص 7 – 8

[23] – الكافي – الشيخ الكليني – ج 1 – ص 534

[24] – الأمالي – الشيخ الصدوق – ص 252 – 253

[25] – الكافي – الشيخ الكليني – ج 1 – ص 391

مقالات مشابهة

اترك تعليق


The reCAPTCHA verification period has expired. Please reload the page.