“راح حمَّال الأسِيَّة”.. بهذه الكلمات عانقني ابنُ عمَّتي (خالد بن المرحوم علي بن عبد الوهاب الزرقي)[1]، عصر الخامس والعشرين من شهر صفر لسنة ألف وأربعمئة وخمس وثلاثين للهجرة (29 ديسمبر 2013م)، في مستشفى السلمانية الطبي.. في عصر هذا اليوم رحل والدي عن هذه الدنيا..
لم أبكِ حينها، ولا أتذكر شيئًا من مشاعري، ولا شيئًا ممَّا داخل أفكاري؛ فربَّما كان الخطبُ أكبَرَ مِنْ استيعابي، وكيف كان.. فلن يُحدِّثني والدي ثانية.. رحل..
رحل والدي بعد أكثر من سبعة عقود قضاها في هذه الدنيا بفلسفة خاصَّة، عاشها مع نفسه وفي محيطه الأُسَري والعائلي، وفي دائرة عمله، وفي علاقاته الاجتماعية، فعندما أتصفح ملف رسائله أجده هو الذي عرفته منذ وَعَيتُهُ، نفسه الذي كان يكاتب أصدقاءه من العراق وسوريا ولبنان ومِصر ولم يكن حينها قد تجاوز السادسة عشر من عمره، وأجده هو نفسه في مكاتباته الداخلية مع الموظفين والمسؤولين في دائرة المواصلات التي تحولت فيما بعد إلى وزارة المواصلات.. شخصية تتطور في حدود وأبعاد واضحة المعالم، فعلوي السيد حسين العاشق للعروبة ونظرياتها له صورة قبل وفاته سنة أو سنتين وهو يقف على حدود فلسطين وقد رفع يديه بعلامة النصر المعروفة (victory)، وهو امتدادٌ لما كان عليه عندما دخل في أنشطة الرعيل الأوَّل لنادي العروبة.
رجلٌ ذو عناوين واضحة؛ فقد كان مبدَئِيًا وعصاميًا بلا تصنُعٍ ولا تكلُّف، ولم تكن مبدَئِيَتُهُ ولا عِصَاميتُه لتُبْعِدَانِهِ ساعةً عن حياة التمدُّن والرقي، وأخال ذلك من مكتسباته الجينية من والده السيد حسين (رحمه الله)، وقد يتضح ذلك من المقارنات التالية:
- يذكر الوجيه الأديب، الأستاذ تقي بن المرحوم الحاج محمَّد مكِّي البحارنة، في كتابه (أوراق ملونة)، أنَّه في صباه كان يخرج صباحًا صحبة والده، وكان “يمارس عادةً مُحبَّبةً مألوفةً من توقف عند جدار منزل جار البيت المقابل لبيته، لكي يحفر في (الأساس) أي أساس الجدار، حيث تعود أن يكتشف كنزه المعتاد. وهو عبادة عن بعض من (الآنات) النقدية عوَّده ذلك الجار الطيب الوقور (السيد حسين)[2] ان يدسها له في التراب تحت موقع النافذة؛ إكرامية له كلَّما خرج في الصباح ذاهبًا إلى عمله، وكأنَّ هذا الرجل الفاضل من فرط أدبه وتواضعه يتحرج أن يظهر بمظهر المعطي أو المانح لهذا الصبي الذي يحبه كأحد أبنائه، تقديرًا له وإكرامًا لصداقة والده. فهو يهيئ لهذا الصغير شعور الفرحة باستخراج كنزه بيده، بعد أن يشير إليه من بعيد بالموقع المعين، ثم لا ينسى أن يوصيه بالكتمان بلغة الإشارة دون كلام!”.
- ذكرت لي عمَّتي السيد نجيبة (زوجة السيد عبد الرزاق بن السيد ناصر العلوي) بأنَّ جدِّي قد أخذها في مطلع الثلاثينات ليسجلها للدراسة في الإرسالية الأمريكية (The American Mission) والتي تغير اسمها إلى (مدرسة الرجاء)، غير أنَّ جدَّتي السيدة شريفة بنت السيد هاشم قد عارضت ولم تسمح بذلك، فوافق الجدُّ ولم يصر على رأيه!
- ذكرت لي عمَّتي السيدة نجيبة بأنَّ جدِّي قد اشترى لها دراجة هوائية ليأخذها عليها يوميًا إلى مُعلمة القرآن الكريم، وكان ذلك في مطلع الثلاثينيات.
- كان للجدِّ مائدة طعام يمدُّها للمعوزين كل ليلة جمعة، وهذا أيضًا ممَّا ذكرته لي العمَّة (أطال الله في عمرها).
- أهدى جدِّي السيد حسين (رحمه الله) لولده (عمِّي السيد حمزة)، ولابنته -عمَّتي- (السيدة معصومة، زوجة عالم الدين السيد حسين الموسوي) في زواجهما سريرين استوردهما لهما خصوصًا من الهند، ولا يزال إلى اليوم سرير العم السيد حمزة موجودًا في غرفته وعلى حاله دون طروء تغير لا على لونه ولا على الرسومات والزخارف المرسومة والمنحوتة عليه، فهو ذو جودة عالية جدًّا.
أمَّا المبدئية فواضحة في طريقة تعامله مع الحاج تقي البحارنة، وفي تعاطيه مع زوجته في مسألة إلحاق ابنتهما السيدة نجيبة لمدرسة الإرسالية الأمريكية، وكذا في إطعامه الأسبوعي للمعوزين، وفي اصطحابه بنفسه لابنته إلى مُعلِّمة القرآن..
التقيتُ بالأستاذ الوجيه تقي البحارنة، وبالحاج الوجيه حسن السماهيجي (رحمه الله) وقد حدَّثاني بأحاديث مهمَّة وشيقة عن جدِّي السيد حسين (رحمه الله)، وما أريد الإلفات إليه هنا هو أنَّ الحديث عنه كأنَّه الحديث عن والدي، ولذلك أشرتُ إلى تأثره الجيني بما كان عليه الجدُّ، وهو ما تقرأه فصيحًا بليغًا في سيرته بعد وفاة والده، فقد احتضن الجميع دون أدنى مَنٍّ أو أذى..
كأن ولدًا وأبًا وأخًا لوالدته المرحومة السيدة شريفة، وكان أخًا ووالدًا لأخواته السيدة معصومة، والسيدة علوية، والسيدة عفيفة، والسيدة ملكة، والسيدة نجيبة، وكان لأخويه السيد حمزة والسيد محمود نعم الأخ، وكلاهما يكبرانه، بل هو الأصغر بين الذكور والإناث.
كسائر الأُسر والعوائل، مرَّ أبناء العائلة بظروف ومشاكل ومصاعب، كان فيها الجميع على قدر المسؤولية، إلَّا أنَّ الملجأ وصمَّام الأمان في الغالب كان الوالد (رحمه الله)، خصوصًا مع أخواته العفيفات الصابرات، وأبنائهنَّ الذين يحملون له أسمى وأرقى مشاعر الحب والوفاء، وأمَّا أولاد العم السيد حمزة (رحمه الله) فلم يكن ليتأخر عنهم ساعة إن استدعى الأمر وجوده، خصوصًا وأنَّ العمَّ كان من موظفي شركة بابكو الذين يبقون في الوظيفة طوال أيَّام العمل الأسبوعي.
احتَضَنَ الجميعَ بِكُلِّ ما تحمل الكلِمَةُ مِنْ مَعْنَى، ولم نكن لنشعر يومًا بأنَّه في مقام تأدية وظيفة تجاه أهله وأرحامه، بل ما فهمناه ونشأنا عليه أنَّ ما نشهده ونعيشه هو الوضع الطبيعي، وما دونه غلط!
كان كثيرًا جدًّا ما يقول: ليس من شيءٍ أهم من صلة الرحم واكتساب المعارف، ولذلك وجدناه مداومًا بالتزام تام على صلة الرحم، فيأخذنا جميعًا لزيارة الأهل كل أسبوع. أمَّا المعارف، فالغريب في علاقات الوالد الاجتماعية أنَّنا كنا نحسبها من العلاقات الأهلية أيضًا، فمن شدَّة تقاربه مع الأصدقاء ما كنَّا نفرِّق بينهم وبين الأرحام، وإنَّني شخصيًا لم أشعر يومًا، وإلى الآن، بأنَّ عائلة المنصور الكريمة، وعلى رأسها العم الغالي الوجيه الحاج إبراهيم المنصور ليسوا من الأهل، بل لا أتمكَّن من النظر إلى خليل ومحمد ومنصور أبناء العم إبراهيم، وعلي وحسين أبناء المرحوم العم حميد المنصور إلَّا إخوةً مثلهم مثل أخي المرحوم السيد حسين وأخي الحبيب وسندي السيد أحمد.
أحتاج هنا إلى قوسين أكتب بينهما: (كان الوالد يوصينا، ولكنَّني لا أذكره قد أوصى خيرًا بأكثر ممَّا أوصانا ببيت العم إبراهيم المنصور. كان يقول: لن تجدوا مثلَ أبي خليل، ولا أم خليل، ولا أولادهما، ولن تجدوا مثلَ أبي علي (المرحوم الحاج حميد المنصور) ولا مثل أم علي، ولا مثل أولادهما؛ فهؤلاء هم الذهب الخالص والمعدن الطيب. وبالفعل، فسلوتي وطيب خاطري وانشراح صدري عندما التقي بعمي وتاج رأسي الحاج إبراهيم المنصور (أبو خليل)، ولا تسعني الفرحة عنما التقي أولاده (إخواني) الغالين. فالحمد لله على هذه النعمة العظيمة).
قلبُ والدي.. قلبٌ مفتوحٌ للجميع.. مُحِبٌّ للجميع.. يطلبُ الخير للجميع..
قلبٌ يبكي بحرقة لأدنى أذى ينزل بأيِّ إنسان، فبالرغم من صلابته الشديدة في الحياة، إلَّا أنَّ قلبه تجاه الإنسان في غاية الرقة والرأفة، وربَّما كان ذلك سببًا في عدم شعورنا في البيت بالمشاكل الطبيعية التي تنشب بينه وبين والدتي الغالية السيدة سلوى بنت السيد خلف بن السيد ناصر العلوي (أدامها الله تاجًا على رؤوسنا)، فلا أستبعد أنَّه لا يريد أن يرانا في أذى بأي شكل من الأشكال، وهذا ما كوَّن في نفس والدتي ثقافة مهمَّة جدًّا ألهمتنا إيَّاها ببراعة كبيرة، وعادة ما تلخصها لنا في العبارة التالي، إذ تقول: “يا أولادي، لم يعلم أحدٌ، ولن يعلم أحدٌ بدود بطننا”؛ إشارة إلى أنَّ ما يدور بيننا من خلافات أو ما شابه، فإنَّه لن يخرج عن حدود باب غرفتنا الخاصَّة.
يبدو أنَّ سِمَة الهدوء والوقار كانت سارية من الجدِّ في أولاده ذكورًا وإناثًا، فكانوا مِمَّا تميزوا به النأي بأنفسهم عن المشاكل والخلافات إلى درجة الاقتراب من الانغلاق على أنفسهم في مأتم السيد حسين للنساء الذي أوقفته عمَّتي السيدة عفيفة رحمها الله، وهي زوجة المرحوم الوجيه الحاج حبيب محمود، لإحياء أمر أهل البيت (عليهم السلام) بعد أنَّ خصَّص جدِّي مساحته في البيت الكبير لنفس الغرض، وكان هو حصَّة العمَّة عفيفة من الإرث، فأوقفته لأهل البيت (عليهم السلام).
نفس هذا الرجل بعصاميته ومبادئه نجده في دائرة (فيما بعد: وزارة) المواصلات، التي كان يراها مكانه ومحلَّه الذي قام على أكتاف ثلَّة من الرجال، هو أحدهم، إلى جانب رفيق دربه المرحوم حسن المدني. كنَّا نرى المواصلات، دائرةً ووزارةً، عندنا في البيت، في كلام والدي وفي تنظيراته عندما يستعين بأختي سهير (أم طلال) في كتابة بعض الرسائل فيما يتعلق بأمور الوزارة وحل مشاكل الموظفين وما نحو ذلك.
تدرج الوالدُ (رحمه الله) في الوزارة إلى أن تقاعد عن القائم بأعمال مدير الشؤون الإدارية والموظفين خَلَفًا للمرحوم حسن المدني، فقد كان أحد الثلاثة الكبار في الوزارة بعد الوزير، وكما ذكرتُ قبل قليل من أنَّه كان يراها بيته ومكانه والهواء الذي يتنفسه، ما جعلنا في البيت نحمل همَّ تقاعده عن العمل بعد أن قضى فيه خمسين عامًا!!
نعم.. تأثر الوالد بعد التقاعد، ولكن ليس بالشكل الذي كنَّا نتخوفه، فقد كان، عمومًا، في الإطار الطبيعي، وأُرجِع ذلك إلى فلسفته الراقية في مجمل حياته. تلك الفلسفة التي نجدها ممتدة في اتجاهات مختلفة، منها حبُّه (رحمه الله) للطبيعة بشكل ملفت، فنحن في بيتنا لا أذكر أنَّه قد خلا يومًا من الطيور بمختلف أنواعها، ومن حوضٍ لسمك الزينة، إلى درجة أنَّ من أهم ما كان يرجع به من سفراته كناري أو سمك زينة أو ببغاء!! كان يجلس في بعض أوقات اليوم أمام حوض السمك متأملًا، أو عند (البلبول البحراني) أو الكناري، أو في (صندقة) الحمام، كما ولم يخلُ البيتُ من أُصُصِ الزرع الداخلي..
أمَّا في أيَّام البرد، فقد كان يشد الرحال إلى منطقة الصخير للتخييم، وقبلها كان يأخذنا إلى رأس البر، وهي طرف البحرين، وقد كان ذلك منذ سبعينات القرن المنصرم، وكان ممَّن يصحبنا خالتي المرحومة السيدة بهيجة بنت السيد خلف العلوي وزوجها المرحوم العم إبراهيم بن أحمد هزيم وأولادهما، وخالتي المرحومة السيدة فوزية وزوجها العم الغالي السيد علوي بن السيد حسن بن السيد سلمان العلوي (حفظه الله وأبقاه في خير) وأولادهما، ويلحق بنا آخرون من الأهل والأحباب..
في مثل هذه الرحلات أو الترتيبات، فإنَّ أحدًا لا يخشى تقصيرًا في أي جانب من الجوانب، فقد كان والدي شغوفًا جدًّا بتحمل سائر التجهيزات، حتَّى صندوق الصيدلية والإسعافات الأولية! فلا تسأل عن شوي اللحوم والدجاج، فقط كان يشتري أجود الأنواع من برادات جواد، ويقوم هو بتتبيلها، وعند ساعة الصفر يجهز النار في (المنقلة) ويبدأ الشوي… عندما يكون علوي في أمر، فكن مطمئنًا. (استطراد: في البيت وفي سيارته وسيارة الوالدة، كان في كلٍّ منها طفايةٌ للحريق، وصندوقٌ للإسعافات الأولية).
هل يمرُّ علينا صيفٌ دون سفر؟ كانت متعته عندما يجمعنا والأهل، كل في سيارته، ونتجه إلى فرضة المنامة، ونحمل السيارات في العبَّارة إلى ميناء الخُبر، ثُمَّ ننطلق إلى الأردن وسوريا ولبنان وتركيا. وأذكر أنَّه (رحمه الله) قد هيأ لي في السيارة مكانًا للنوم، على اعتباري حينها أصغر الأولاد، فصنع قطعتين خشبيتين مستطيلتين، غلفهما بإسفنج وجلد، أذكره أحمرًا، يضعهما وقت النوم محل ما يضع ركَّاب المقعد الخلفي أرجلهم، فأتمدد وأنام، في حين تتقاسم أختي سهير، وأخي المرحوم المقعد!
كانت حياتنا مملؤةً به، حتَّى في غيابه يكون موجودًا، فعندما يذهب إلى (الحداق) في البحر صحبة أصدقائه المرحوم علي الحداد والمرحوم سلمان الإسكافي ومحمَّد الحداد (حفظه الله) كنَّا ننتظر رجوعه في اليوم الثاني بما لذ وطاب من الهامور والشعري، وفي بعض الأحيان السبيطي، وكان لا يرتضي سمكَ بحرٍ غير بحر الدراز الممتد للجسر، وإن أراد شراءه من السوق فإمَّا أن يكون سمك سترة أو حوار، وإلَّا فهو يعرفه من رائحته!
إذا سافر دوننا، ففي العادة يكون مع أصدقائه الذين ما كانَّا نفهم إلَّا أنَّهم إخوانه، فننادي كل واحد منهم (عمَّي).. على رأس القائمة الحبيب الغالي العم إبراهيم المنصور والعم الغالي زوج خالتي السيد علوي بن السيد حسن العلوي، والأعمام المرحومين حميد المنصور، وفهد المنصور وحسن الخيَّاط، وعلي الخيَّاط، وعلي حسن جواد السلمان، وجعفر زبر..
كانوا، وغيرهم مثل الأعمام الدكتور حسن العرادي والدكتور عزيز العريض والدكتور خليل العريض، يجتمعون في أكثر العصريات عند العم المرحوم علي جواد في برادات جواد في باربار، فقد كان هناك مكتب عند المدخل الرئيسي للبرادة، وله نافذة زجاجية كبيرة..
بالمناسبة، كان عند العم علي جواد (دولاب) خلف البرادات تقريبًا، وفيه بركة سباحة جميلة قد صممت على أحدث الطُرُز، ولم يكن في ذلك الوقت الذهاب في رحلات عائلية إلى بركة العم علي جواد في حاجةٍ إلى أكثر من قرارٍ صَبَاحَ الجُمُعَة، وإذا بنا نتناول الغداء هناك!!
كم كانت تلك الأيَّام جميلةً هادئةً رائقةً.. كانت كذلك بهم، بالكبار، فقد تميزت تلك الحقبة بميزة فريدة، وهي التقاء الكبار والصغار في اهتمامات مشتركة، خصوصًا عندما يكون الحديث في العلاقات الأسرية والعائلية وبرامج الترفيه و(تغيير الجو).. كانت الأمور سهلة لا تعقيدات فيها.
تتسق وتنسجم هذه الروحية مع خلفية وأرضية ثقافية وفكرية مميزة، فكما أشَرْتُ في بداية حديثي، أنَّ الوالد (رحمه الله) كان وطنيًا عروبيًا ممَّن يرون الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر رمزًا للرجل العربي الحر الذي جاء لعزَّة العرب وكرامتهم بعد ذل وهوان، ولم تقتصر هذه الرؤية على والدي فقط، بل هي كذلك عند عمي المرحوم السيد حمزة، وكذا في جملة من أولاده وأولاد عمَّاتي، وكان ممَّا يميز المؤمنين بهذا التوجه الفكري اهتمامهم بالقراءة والمطالعة ومتابعة الأخبار السياسية، لذا كان ممَّا يميز بيتنا وجود مكتبة تتزين بمؤلفات لأكابر المفكرين والأدباء، وكان وقت القراءة بالنسبة للوالد فترة المساء في غرفته، وعندما يريد النوم يضع الكتاب على الطاولة الصغيرة إلى جانب السرير، كما وكانت من أهمِّ التزاماته اليومية قراءة الصحف المحلية ووضع علامات على العناوين والمواضيع المهمَّة واقتصاص الأهم منها للاحتفاظ به ملف خاص يطلق عليه ملف (المتفرقات)، وهو ملف إلى جانب ملف الرسائل وملف الأرصدة، وغيرها، فالوالد من المهتمين بالتوثيق والاحتفاظ بالأوراق مهمَّا صغر شأنها.
كان محبًّا للملتقيات الثقافية واللقاءات ذات الوزن الفكري، ولذلك نجده في قمَّة سعادته أيَّام السبت من كل أسبوع، وهو اليوم الذي خصَّه ابنُ عمَّتي الدكتور السيد ناصر بن السيد حسين الموسوي (حفظه الله وأبقاه في خير وعافية) لزيارة والدي، فالدكتور صاحب رؤى دقيقة وراقية في مختلف شؤون الحياة، وعندما يتحدث فحديثه حديث العالِم الفاهم، وكذا كان الوالد يأنس كثيرًا بمجالسة ابن عمِّي السيد حمزة، وأقصد السيد شوقي العلوي -أبو بشرى- (حفظه الله) فلحديثه مذاقٌ وطنيٌّ وعروبيٌّ خاصٌّ. وللسيدين عزيز ومناف ابني عمَّتي السيدة نجيبة مكانهما الخاص أيضًا في قلب الوالد، وكذا سائر الأعمام والعمَّات وأولادهم..
لم أهمل الحديث عن عاطفة الوالد، فقد أشرتُ إليها في بداية كلامي، إلَّا أنَّني قد أرجأتُ شيئًا مهمًّا منها لغرض الدخول منه إلى خاتمة المقال..
عندما تحمَّل والدي (رحمه الله) مسؤولية العائلة الكبيرة، فإنَّ ذلك لم يكن من منطلق الواجب أو ما شابه، بل كان يراه الأمر الطبيعي، فكما يتحمل مسؤولية زوجته وأولاده، فهو يتحمل مسؤولية أهله. وهنا أتذكر جيِّدا ما مرَّ به من أزمة عاطفية ونفسية شديدة عند وفاة ابن عمَّتي الغالي المرحوم حميد بن علي بن عبد الوهاب الزرقي، وكان معروفًا في الفريق باسم (حمزون).. مرَّت شهور وشهور على وفاة حميد، وكنت أرى والدي في بعض خلواته يبكي بحرقه، ويأنُّ أنينًا من أعماقه، وكنت أقول له: على حميد؟ فيقول: قطعة من قلبي مزَّقها البَين!
حبيبي.. ماذا نقول نحن؟ قالت ابنة عمَّتي المرحومة فريدة الزرقي (زوجة ابن عمَّتي المرحوم السيد أسامة بن السيد عبد الرزاق العلوي، وأم السيد علي) قبل وفاتك بساعات: أخذوا من عمري وأعطوا خالي؛ فهو المظلة التي تظللنا جميعًا!!
لم تكن والدًا وحسب، ولا أخًا ولا صديقًا، بل كنتَ فينا وجودًا آخر..
كنتَ فينا قلبًا.. عاطفةً.. فكرًا.. عقلًا.. ثقافةً.. حكمةً.. كنتَ فينا كلَّ شيءٍ جميل، ولذلك انتُزِعنا بوفاتك.. وبقيتَ أنتَ..
رحمك الله حبيبي، وأسأل الله تعالى بحقِّ أجدادك الطاهرين أن يجعلك في خير منازل الصالحين، وأن يعيننا على برِّك والإحسان لك..
كتبه عن والدته السيدة سلوى العلوي، واخته السيدة سهير، وأخيه السيد أحمد (ولا أنسى المرحوم أخي السيد حسين)
السيد محمَّد بن السيد علي بن السيد حسين بن السيد محمَّد بن السيد أحمد العلوي
25 من صفر 1441 للهجرة
البحرين المحروسة
……………………………………..
[1] – اسم العائلة (السليمان) كما أخبرني ابنُ عمَّتي خالد، إلَّا أنَّني كتبتُ في المقالة (الزرقي) لكونه اللقب المعروفين به في البحرين.
[2] – هو جدِّي.
……………………………………..
مجموعة صورة:
صورة حديثة لي مع زوج خالتي السيدة فوزية، العم الغالي السيد علوي بن السيد حسن العلوي حفظه الله ورعاه في خير وعافية
…………………………….
صور من المقبرة..