صرَّحَتْ الأحاديثُ الشريفَةُ بالعظيم من الفضل لزيارة أبي عبد الله الحسين (عليه السلام) ما خَلَقَ وَأوجَدَ في صدور المؤمنين أشواقًا تتلاحق بها أنفاسهم الولهة وتَنبض بها قلوبهم الحَرَّة.
الأمر مع السبط الشهيد مختلف.. مختلف جدًّا..
جاء في نوادر علي بن أسباط، عن أحدهما (عليهما السلام)، أنَّه قال:
“يا زرارة، ما في الأرضِ مُؤمِنَةٌ إلَّا وقد وَجَبَ عليها أن تُسعِدَ فَاطِمَةَ (صلَّى الله عليها) في زيارة الحسين (عليه السلام).
ثُمَّ قال (عليه السلام): يا زرارة، إنَّه إذا كان يوم القيامة جَلَسَ الحُسَينُ (عليه السلام) في ظلِّ العرشِ، وجَمَعَ اللهُ زُوَّارَهُ وشيعَتَهُ ليَصِيرُوا مِنَ الكَرَامَةِ والنَظِرَةِ والبَهْجَةِ والسرُورِ إلى أمْرٍ لا يَعْلَمُ صِفَتَهُ إلَّا الله، فيأتيهم رُسُلُ أزواجهم من الحُورِ العِينِ مِنَ الجَنَّةِ؛ فَيَقُولونَ: إنَّا رُسُلُ أزواجِكُم إليكم، يَقُلْنَ: إنَّا قد اشْتَقْنَاكُم وأبْطَأتُم عَنَّا! فَيَحمِلُهُم ما فيه مِنَ السُرُورِ والكَرَامَةِ إلى أنْ يَقُولُوا لِرُسُلِهِم: سوف نَجيئُكم إن شاء الله”[1].
هذا شيءٌ ممَّا جعله اللهُ تعالى على عهدة المؤمنين، وشيءٌ ممَّا وعد به زوَّار الإمام الحسين (عليه السلام)، فلا كلام في كون الزَائِرِ على أشرف أبواب الخير والفلاح، وإنَّما الكلام في عدم التوفيق للزيارة، فهل هو (عدم توفيق) دون إضافات بيانية؟
نسمع كثيرًا حسرات وآهات من لم تُكتَب لهم الزيارة، يبثونها من منطلق واحد ومنشأ فارد، هو أنَّ الله تعالى قد حرمهم التوفيق، وأنَّ الإمام الحسين (عليه السلام) لم ينادهم لزيارته!
على إثر هذه الحالة وتمكنها من نفوس المؤمنين تتحرَّك قرائح الشعراء لمحاكاتها في قصائد يتلوها الشيَّالة والمناشيد، فتتأكد الفكرةُ وتترسخُ ثقافةً إسلاميةً شيعيةً في وجدان الشيعة، والحال أنَّ الأمر ليس على الإطلاق الذي تنصرف إليه النفوس والأذهان، بل قد يكون على الخلاف تمامًا…
هنا أمران ينبغي حضورهما في النفس دائمًا:
الأوَّل: كل أمر المؤمن خير:
جاء عن رسول الله (صلَّى اللهُ عليه وآله) أنَّه قال: “عجبًا لأمر المؤمن، إنَّ أمْرَهُ كله له خَيرٌ، وليس ذلك لأحدٍ إلَّا للمؤمن؛ إنْ أصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فكان خيرًا له، وإْن أصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ، فكان خيرًا له”[2].
ينحصر نظرُ المؤمِنِ في حدود ما يريد تحقُّقه، ومن أمثلة ذلك من يطلب الذرية، فهو لا يقوى على النظر في غير طلبه، والحال أنَّه عاجزٌ تكوينًا عن الإحاطة بكلِّ ما يتعلق به، ولذلك جاء في دعاء الافتتاح: “فَاِنْ أَبْطأَ عَنّي عَتَبْتُ بِجَهْلي عَلَيْكَ، وَلَعَلَّ الَّذي اَبْطأَ عَنّي هُوَ خَيْرٌ لي لِعِلْمِكَ بِعاقِبَةِ الأمُورِ”[3].
نعم، قد يرجع الأمر إلى: “سَيِّدي لَعَلَّكَ عَنْ بابِكَ طَرَدْتَني، وَعَنْ خِدْمَتِكَ نَحَّيْتَني.. اَوْ لَعَلَّكَ رَأيْتَني مُسْتَخِفًّا بِحَقِّكَ؛ فَأقْصَيْتَني.. اَوْ لَعَلَّكَ رَأيْتَني مُعْرِضًا عَنْكَ؛ فَقَلَيْتَني.. اَوْ لَعَلَّكَ وَجَدْتَني في مَقامِ الْكاذِبينَ؛ فَرَفَضْتَني.. اَوْ لَعَلَّكَ رَأيْتَني غَيْرَ شاكِر لِنَعْمائِكَ؛ فَحَرَمْتَني.. اَوْ لَعَلَّكَ فَقَدْتَني مِنْ مَجالِسِ الْعُلَماءِ؛ فَخَذَلْتَني.. اَوْ لَعَلَّكَ رَأيْتَني فِي الْغافِلينَ؛ فَمِنْ رَحْمَتِكَ آيَسْتَني.. اَوْ لَعَلَّكَ رَأيْتَني آلفَ مَجالِسِ الْبَطّالينَ؛ فَبَيْني وَبَيْنَهُمْ خَلَّيْتَني.. اَوْ لَعَلَّكَ لَمْ تُحِبَّ اَنْ تَسْمَعَ دُعائي؛ فَباعَدْتَني.. اَوْ لَعَلَّكَ بِجُرْمي وَجَريرَتي؛ كافَيْتَني.. اَوْ لَعَلَّكَ بِقِلَّةِ حَيائي مِنْكَ؛ جازَيْتَني”[4] كما في دعاء أبي حمزة الثمالي، إلَّا أنَّ ما ينبغي الانتباه إليه جيِّدً أنَّ هذا في مقام تجريم النفس بين يدي الخالق جلَّ في علاه، وهو مقامٌ خاصٌّ يسلكه العبد في طريق تهذيبه لنفسه وتعويدها على النفور من الذنوب والمعاصي.
أمَّا في مقام البناء على الإيمان بالله وأنبيائه ورسله، فالمؤمن يسلك طريق الثقة برحمة الله تعالى ولطفه ورأفته، فلا يُظْهِرُ غير الحمد والشكر واليقين بأنَّ الله تعالى لا يريد به غير الخير والصلاح. فيقول:
إلهي.. تعلم شوقي ومدى ولهي بأن أكون زائِرًا لعرشك العظيم في أرض كربلاء.. إلهي.. أنت العالم بتفطر قلبي اشتياقًا لزيارة السبط الشهيد (عليه السلام)، وأنا العبدُ المؤمنُ بأوليائك الطاهرين أقطع متيقنًا بأنَّك لم تكتبني في عامي هذا زائِرًا إلَّا لخيرٍ لي قد عميتْ عنه عيني، فالحمد لله حمدًا لا غاية لأمده، وأشكر شكرًا لا يُحصيه غيرك يا الله..
لذا، فإنَّ من لم يُرزق الذرية، قد يكون في نعمة عنها، ولو رُزِق لحُرم غيرها. ولا يقال: أليس الله تعالى قادر على تسوية أمور العبد وأن تكون الذرية وغيرها -في مثالنا- من نعمه سبحانه عليه؟
لأنَّ الأمر ليس بهذه الصورة، فما يظنه العبد مرتبطًا به، هو في واقعه مرتبط بكل ما يحيط به، وما يحيط بما يحيط به في معادلة معقدة غاية التعقيد، يديرها الله تعالى بميزان الحكمة.. نحتاج إلى فهم ذلك جيِّدً..
يدخل هذا في صميم الأمر:
الثاني، وهو: حسن الظنِّ بالله تعالى:
قال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) يحكي عن ربِّهِ: “أنا عِند حُسن ظنِّ عبدي بي.. يا محمَّد، فمن زَاغَ عن وفاء حقيقة موجبات ظنِّه بربِّه، فقد أعظَمَ الحجَّةَ على نفسه، وكان من المخدوعين في أسر هواه”[5].
ولعمري، ليس غير الإنسان نفسه يتباعد عن التسليم لله تعالى فيفرض بذلك قيودًا حقيقية ينحبس في وثاقها فيبقى حائِرًا تائِهًا في اختراعاتٍ كلَّما تعلق بها ازداد بعدًا عن الله تبارك ذكره، والحال أنَّ الأمر لا يحتاج إلى أكثر من عزم على حسن الظنِّ بالرحمن الرحيم حقيقةً وصدقًا. كيف لا، وقد جاء عنه (صلَّى الله عليه وآله): “إنَّ حُسنَ الظَنِّ بالله مِنْ حُسنِ العِبَادَةِ”[6].
إنَّ لحسن الظنِّ بالله تعالى دور مفصلي في تحديد مصير العبد في الدنيا والآخرة، فقد جاء رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) أنَّه قال: قال الله تبارك وتعالى:
“لا يَتَّكِلُ العاملون على أعمالهم التي يعملونها لثوابي؛ فأنَّهم لو اجتهدوا وأتعبوا أنفسهم – أعمارهم – في عبادتي كانوا مقصرين غير بالغين في عبادتهم كنه عبادتي فيما يطلبون عندي من كرامتي والنعيم في جناتي ورفيع الدرجات العلى في جواري، ولكن برحمتي فليثقوا، وفضلي فليرجوا، وإلى حسن الظن بي فليطمئنوا؛ فإنَّ رحمتي عند ذلك تُدركهم، ومِنِّي يبلغهم رضواني، ومغفرتي تُلبِسُهم عفوي، فإنِّي أنا اللهُ الرحمن الرحيم وبذلك تَسَميتُ”[7].
إلهي.. أخاف ذنوبي وما ارتكبتُ من موبقات، ولكنِّي أرجو فضلك وعظيم عفوك ورحمتك..
عن الحارث بن المغيرة، أو أبيه، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قلتُ له: “ما كان في وصية لقمان؟
قال (عليه السلام): كان فيها الأعاجيب، وكان أعجب ما كان فيها أن قال لابنه: خف اللهَ عزَّ وجلَّ خِيفَةً لو جِئتَه بِبِرِّ الثقلين لعَذَّبَكَ، وارجُ اللهَ رجاءً لو جِئتَه بذنوب الثقلين لرَحِمَك.
ثُمَّ قال أبو عبد الله (عليه السلام): كان أبي (عليه السلام) يقول: إنَّه ليس من عبدٍ مُؤمنٍ إلَّا وفي قلبه نوران: نُورُ خِيفَةٍ ونُورُ رَجَاءٍ، لو وُزِنَ هذا لم يَزِدْ على هذا، ولو وُزِنَ هذا لم يَزِدْ على هذا”[8].
إلهي.. إنَّنا سعداء مسرورون لكلِّ مؤمنٍ كُتِبتْ له الزيارة الشريفة لأبي عبد الله الحسين (عليه السلام)، وندعوك بكل صدقٍ وإخلاص أن تكتب غيرهم معهم في الأجر والثواب، وأن تشرفهم بالزيارة في قابل الأيَّام.. اللهم وقلوبنا الولهة لقبلة المؤمنين امسح عليها بيد الرحمة والرأفة، واجعل لها منزل صدق وقدم صدق مع الحسين (عليه السلام) في الدنيا والآخرة..
السلام على الحسين، وعلى علي بن الحسين، وعلى أولاد الحسين، وعلى أصحاب الحسين الذين بذلوا مهجهم دون الحسين (عليه السلام)..
الحمد لله كثيرًا..
السيد محمَّد بن السيد علي العلوي
18 صفر 1441 للهجرة
البحرين المحروسة
…………………………………..
[1] – الأصول الستة عشر – عدة محدثين – ص 123
[2] – مستدرك الوسائل – الميرزا النوري – ج 2 – ص 426
[3] – تهذيب الأحكام – الشيخ الطوسي – ج 3 – ص 89
[4] – الصحيفة السجادية (ابطحي) – الإمام زين العابدين (ع) – ص 222
[5] – مستدرك الوسائل – الميرزا النوري – ج 11 – ص 251 – 252
[6] – المصدر السابق.
[7] – الكافي – الشيخ الكليني – ج 2 – ص 71
[8] – الكافي – الشيخ الكليني – ج 2 – ص 67