يحتاج المؤمنُ العاقِلُ إلى تهذيب نفسه وترويضها على عدم المبالغة في التأثُّر بضلال الآخرين وبعدهم عن طريق الهداية والصلاح والرُشد، فقد قال الله تعالى (أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ)[1]، وحتَّى لو تعدَّى هؤلاء على شخص المؤمن، فإنَّه يتأسَّى بالرسول الأكرم (صلَّى الله عليه وآله) في حلمه وسعة صدره وتجاوزه، خصوصًا وقد قال الله تعالى مواسيًا إيَّاه (إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ * الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ * وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ * وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ)[2].
هذا ما ينبغي أن يكون عليه المُؤمِن العاقِل، إلَّا أنَّ أمرًا لا يصحُّ إدخاله تحت ضوابط الصبر وسعة الصدر والتجاوز؛ لما في السكوت عليه من مساهمة في إضلال العِباد والتلبيس على الأفهام بالباطل، وهو ما أحاول توضيحه في السطور التالية..
نلاحظ انتشارَ مجموعةٍ من المقولات التي تقوم في جوهرها على المصادرات عن جهلٍ مُركَّبٍ صريح، وهي في الغالب لا شغل لها غير النيل من الإسلام وشعائره بأساليب ملؤها المشاغبات الغريبة التي لا يُنتظر أن يكون لها حظٌّ من المرور على من يملك مِسكة من عقل.
يعرضون صورةً، أو مشهدًا حيًّا لفقراء، بل لمسحوقين يعيشون على فتات ما تجود به الطبيعةُ عليهم، وربَّما ما يحصلون عليه من بعض المزابل!
يعرضون ذلك ويكتبون أسفله: “اتركوا الطواف حول الكعبة، وطوفوا حول ديار الفقراء؛ فبينهم ستجدون الله حتمًا”!!
ويقول آخر: “إنِّي أُفَضِّلُ المشيَ في الشارعِ وأنا أُفَكِّرُ في الله على الجلوس في المسجد وأنا أُفَكِّرُ في حِذَائِي”!!
وثالثٌ يتذمَّر من زيارة المؤمنين للمشاهد المُعظَّمة؛ بحجَّة أنَّ صرفَ هذه الأموال في إغناء الفقراء أو معالجة المرضى أولى وأكثر محبوبية لله تعالى!!
وهناك من يقول: عفيفة غير محجَّبة، أفضل بآلاف المرَّات من محجَّبة (…)!!
تستسلم بعضُ العقليات لمثل هذه المقولات، بل وتدافع عنها، وتطالب بماء الذهب لتكتب به وتعلَّق أيقونات للإنسانية وشفافية الروح.
فلنرى حال هذه المقولات مع أبسط الردود النقضية..
لِمَ لا يُقال: اتركوا عنكم الطواف حول صالات وفساتين وصالونات الأعراس التي تحترق فيها رُزَمُ الدنانير في ليلة واحدة، وطوفوا بأموالكم حول ديار الفقراء؛ فبذلك ستجدون الراحة النفسية حتمًا! وكذا يجري الأمر في السيارات الفارهة والبيوت والأثاث، والسفرات السياحية.. وقس على ذلك عشرات الرغبات التي تحولت في الحياة إلى ضرورات مزيَّفة كاذبة..
لِمَ الإصرار على أمثلة الحجِّ والعمرةِ وزيارة المشاهد المُقدَّسة؟!
الجواب، بكلِّ بساطة: لتعلُّقها بالدين والتدين. وفقط.
هذا من جانب النقض. وأمَّا الحل، فأوَّلًا: يتحقَّق التزاحم، في مثل هذه الموارد، عند عدم إمكان الإتيان بأحد الأمرين إلَّا بعدم الآخر، والحال أنَّه لا علاقة بين الطواف بالكعبة، أو زيارة المشاهد المقدَّسة، أو حتَّى المبالغة في مصاريف الزواج والتأثيث، وما شابه، وبين إعانة الفقير أو معالجة المريض أو ما نحو ذلك، بل نحن اليوم نشهد كيف أنَّ الجمعيات والصناديق الخيرية في بلدنا البحرين قد جمعت خلال سنة واحدة مئات الآلاف من الدنانير لتكاليف علاج المرضى في حملات شعبية خاصَّة، وقد رأينا كيف أنَّ الحملة لا تستغرق أكثر من أيَّام معدودة لاستيفاء مبلغها المطلوب. هذا، ونفس هؤلاء المتبرعين يذهبون إلى الحج والعمرة والزيارة، ويزوجون أولادهم ويسافرون ويُؤثِّثون بيوتهم، وهو ما نوضِّحه في ثانيًا:
لا ينبغي من العقلاء ضعف الاهتمام بالتفريق بين موارد البذل الشخصية والأخرى التكافلية، فإنَّ مسائل الحج والعمرة والزيارة والزواج، وما نحو ذلك، مسائل شخصية، لا يُنظر فيها إلى بعد تكافلي، على عكس إعانة الفقراء بما يغير أو يصنع واقعًا جديدًا، فهي من المسائل التي تتوقف على حالة من التكافل بين أعداد من الناس بحسب الحالات التي يُراد معالجتها، إلَّا أنَّ يُقال بأمر، هو ما أبينه في ثالِثًا:
عندما يُقال للحجَّاج والمعتمرين والزائرين، ومن يريد الزواج أو بناء بيت أو تأثيثه: ابذل مالك في انقاذ الفقراء وتغيير أحوالهم إلى الأفضل، فهذا يحتاج إلى سنِّ قانون تكافلي خاصّ، إمَّا بالاستناد إلى ما يسوِّغه شرعًا، أو ما يسمح به قانونًا، وإلَّا فيُترك للجهود الأهلية العرفية، وهذه متوقفة على مدى تجاوب الناس دون فرض أو قيد أو ما شابه.
رابعًا: إنَّ في أداء العبادات، مثل الحج والعمرة وزيارة المشاهد المقدَّسة، بعدٌ تعبُّدي تسليمي محوره ورود النصِّ الشرعي فقط، كما أنَّ في مساعدة الفقير وإعانة الملهوف نصوص شرعية خاصَّة، وبالتالي، فإنَّ من جهة الله عزَّ وجلَّ هذه عبادة يُثاب عليها العبد، وتلك عبادة يُثاب عليها العبد.
نعم، عند التزاحم المستقر، بحيث انحصر الأمر بين إمَّا وإلَّا، فالترجيح حينها للمِلاك الأهم، وهذا هو الحاصل فعلًا دون حاجة إلى تنبيه، وهو ما يتَّضح في خامسًا:
إنَّه وبشيءٍ من التتبع البسيط، ودون أدنى تكلُّف، سوف يتَّضح تمامًا إقدام أهل الحج والعمرة والزيارة، على مساعدة الفقراء والمساهمات المالية الفاعلة على مدار السنة؛ لرفع حوائج المحتاجين، وذلك من خلال صناديق الصدقات وأداء الحقوق الشرعية، وما نحو ذلك. فالناس في الواقع يؤدُّون المطلوب منهم، كما وأنَّ الجمعيات والصناديق الخيرية كذلك، ولا ينبغي مطالبتهم بتحمُّل مسؤولية كلِّ ما يحدث في المجتمعات، وفي بعض الأحيان في الكرة الأرضية؛ والحال أنَّ الخلل الذي أدَّى ويُؤدِّي إلى الفقر والمجاعات، إنَّما هو في التوحش الرأسمالي ونتائجه ومخرجاته. فتأمَّل جيِّدًا.
أمَّا من يُفضِّل المشي في الشارع متفكِّرًا في الله تعالى، على البقاء في المسجد وهو يفكِّر في حذائه، فهذه سذاجةٌ تنفر من شدَّتها النفوس السليمة؛ كيف لا، والمسألة إن كانت في ضياع الأحذية عند أبواب المساجد، فالحل حينها في إيجاد ما يرفع المشكلة، لا في مغادرة المسج. وإن لم تُحل، فعلى المصلي إيجاد طريقة يكسب من خلالها أجر وثواب وفضيلة التواجد في المسجد دون التفكير في الحذاء!
هذا، أيُّها الأكارم، تنزُّلًا لمناقشة الأمر، وإلَّا فهذه المقولة لها أبعاد أخرى فائقة الخطورة، منها سلب المسجد فضيلة التواجد فيها مجرَّدًا عن أي عنوان زائد، ولذلك وردت الأحاديث الكثيرة في ثواب المكوث في المساجد وانتظار الجماعة. أمَّا التفكير في الحذاء، فمعه التفكير في التبضع للبيت وفي الديون والفواتير، وغيرها ممَّا يشغل عن التفكير في الله تعالى، سواء كان في المسجد أو في الشارع!
هذا، والردود النقضية على هذه المقولة أكثر من أن تُحصر، وكيف كان، فعلى صاحب التفكير (الحذائي) معالجة نفسه للتخلص من هذه الحالة، لا أن يستسلم لأمراضه ويغادر المسجد من أجل حذاء!! كما ومن يقول بأنَّ ذهنه يصفى في الشارع؟ أوليس الفكر قد ينشغل حينها بالكثير من مظاهر السفور والميوعة؟ فليترك التفكير في الله تعالى من رأس!!
نأتي إلى العفيفة ذات الأخلاق العالية من غير المحجَّبات، في قبال المحجَّبة (…)، وهذه المقولة أكثر سخافة من سابقاتها، فالحجاب مطلوب في نفسه شرعًا، سواء كانت المرأة محترمةً عفيفةً صائِنَةً لنفسها، أو لا، فإنَّها إن تحجَّبت أُثِيبَتْ على الحجاب، وحُوسِبَتْ على أعمالها الأخرى بحسبها، وبالتالي، فإنَّ كون المرأة محترمةً عفيفةً صائِنَةً لنفسها، لا يُسوِّغُ لها ولا يُبرِّر أن لا ترتدي الحجاب، كما وأنَّ كونها غير محترمة ولا عفيفة ولا صائِنة لنفسها لا يُبرِّر ولا يُسوِّغ، ولا يعني أن تنزع حجابها.
هناك، في الواقع، حالات مرضية نفسية نعانيها كثيرًا في مجتمعاتنا، محورها، في الغالب، أحد أمرين: إمَّا التحسُّس من الإسلام وعلمائه وتعاليمه، والتدين بشكل عام، وإمَّا حقارة النفس ودناءتها، ما يجعلها مندفعة دائمًا للانبهار بالغرب وما فيه من بعض المظاهر التي تبدو إنسانية أو علمية أو ما شابه، ويعود هؤلاء، في الغالب، على مجتمعاتنا بالذم والاستنقاص، في حين أنَّ حقيقة الأمر هي حقارة نفسية يعيشها هؤلاء ضد أنفسهم.
على أيَّة حال، فالكلام ليس مع هؤلاء، ولكنَّه مع المؤمنين؛ ليحذروا من الانسياق وراء مثل هذه المقولات البلهاء الساذجة، فالمؤمن أكبر من أن يُخدع بما لا وزن له.
السيد محمَّد بن السيد علي العلوي
26 من شهر رمضان 1440 للهجرة
البحرين المحروسة
………………………………….
[1] – الآية 8 من سورة فاطر
[2] – الآيات من 95 إلى 99 من سورة الحجر