بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، محمَّدٍ وآله الطاهرين، واللعن الدائم على أعدائهم إلى قيام يوم الدين.
مسألة (العيلولة) وضابطة (الضم)
- التحديد الأصل:
تُحدِّدُ الروايات الشريفة[1] من يجب على غيرهم إخراج فطرتهم في: الولد والمملوك والزوجة وأم الولد.
فعن عبد الرحمن بن الحجَّاج، قال: “سألتُ أبا الحسن (عليه السلام) عن رجُلٍ يُنْفِقُ على رَجُلٍ ليس من عياله، إلَّا أنَّه يَتَكَلَّفُ لَهُ نَفَقَتَهُ وكسْوَتَهُ، أتَكُونُ عليه فِطرته؟
قال: لا، إنَّمَا تَكُونُ فِطْرَتُهُ على عِيَالِهِ صَدَقَةً دُونَهُ. وقال (عليه السلام): العيالُ: الوَلَدُ والمَمْلُوكُ والزَوجَةُ وأمُّ الوَلَدِ”.
قال شيخنا الحرُّ العاملي: “أقول: المفروض أنَّ الرَجُلَ المذكور ليس من عياله؛ بل يَتَصَدَّقُ عليه بِنَفَقَتِهِ وكسْوَتِهِ، أو يَبْعَثُ بهما إليه هديةً”.
ويدخل الأبُ والأمُّ في حال كانا في عيلولة الولد، وكذا الخادم إن لم يكن مستقلًا بشؤون حياته كالموظف، أو كما هو الحال اليوم مع الخدم في المنازل بنظام الساعات.
فعن إسحاق بن عمَّار، قال: “سألتُ أبا عبد الله (عليه السلام) عن الفطرة – إلى أن قال – وقال: الواجِبُ عليك أن تُعْطِي عن نَفْسِكَ وأبيك وأُمِّك وولدك وامرأتك وخادِمك”.
ويظهر تفسير العيلولة في قول الإمام الصادق (عليه السلام): ” كل من ضَمَمْتَ إلى عِيَالِكَ مِنْ حُرٍّ أو مَملُوكٍ فَعَليَكَ أنْ تُؤدِّي الفِطْرَةَ عَنْهُ”.
فالعيلولة هي كون كون الشخص مفتقرًا افتقارًا شرعيًا لغيره، وهو على قسمين:
العيال بالأصل، كالولد والزوجة والمملوك.
العيال بالدخول لعارض، كالأب والأم.
أو افتقارًا عرفيًا كمن ينزل ضيفًا نزولًا يتحقَّق فيه نوع تبعية، فيكون المُضيف شِبه مسؤولٍ عن ضيفه ولو لفترة قصيرة، ولذلك عبَّرت بعضُ الروايات الشريفة بـ(الضم)، أي: أن يضمَّه المُضيف لعياله فيكون كواحد منهم من خصوص جهة الإعالة.
وبالتالي، فإنَّه لا يبعد أن تكون هاتان الروايتان مُفسِّرتين لما جاء من الروايات في هذا الباب.
- طوائف الروايات:
الطائفة الأولى: المُصرِّحة بالعيلولة:
- عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: “الفِطْرَةُ واجِبَةٌ على كُلِّ مَنْ يَعُول“.
فيُقال: من ولد وزوجة وأمِّ ولدٍ ومملوكٍ، وأبٍ وأمٍّ وخادمٍ؛ إن دخلوا في عيلولته، أي: أن ضمَّهم إلى عياله.
- عن محمَّد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: “سألتُهُ عمَّا يجب على الرجل في أهله من صدقة الفطرة؟
قال: تصدَّق عن جميع من تَعُول”
- عن إسحاق بن عمَّار، عن معتب عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: اذهب فاعط عن عيالِنَا الفِطْرَةَ وعن الرقيق وأجمعهم، ولا تدع منهم أحدًا؛ فإنَّك إن تَرَكْتَ منهم إنسانًا تخوفتُ عليه الفوتَ.
قلتُ: وما الفوتُ؟
قال (عليه السلام): الموت”.
في هذا الحديث وضوحٌ من جهة معلومية العيال لمعتب، فلا يكون الضيف أو من في حكمه عيالًا إلَّا بالضم؛ كما صرَّح به الإمام (عليه السلام) بقوله: “كلُّ من ضممتَ إلى عيالك”، فهي صفة زائدة على غير المحدَّدين شرعًا، فتحتاج إلى اختيار المعيل ما لم تُفرض عليه العيلولة فرضًا شرعًا لعارض، كما في الأب والأم.
- محمَّد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: “سألتُه عمَّا يجب على الرجل في أهله من صدقة الفطرة؟
قال: تصدق عن جميع من تعول مِنْ حُرٍّ أو عبد أو صغير أو كبير، مَنْ أدْرَكَ منهم الصَلَاةَ”.
قال شيخنا الحرُّ العاملي: “أقول: المرادُ صَلاةُ العيدِ”.
- قال أمير المؤمنين (عليه السلام) في خطبة العيد يوم الفطر: “أدُّوا فطرتكم، فإنَّها سُنَّةُ نبيكم، وفريضةٌ واجِبَةٌ من ربِّكم، فليؤدِّها كلُّ امرئ منكم عن عياله كلهم، ذكرهم وأنثاهم، وصغيرهم وكبيرهم، وحرهم ومملوكهم. عن كُلِّ إنسانٍ منهم صاعا من تمرٍ، أو صاعا من برٍّ، أو صاعا من شعير”.
- عن عبد الله بن الحسن، عن جدِّه علي بن جعفر، عن أخيه موسى بن جعفر (عليه السلام)، قال: “سألتُه عن فِطْرَةِ شهر رمضان؛ على كُلِّ إنسانٍ هي، أو على من صام وعرف الصلاة؟
قال (عليه السلام): هي على كُلِّ كبيرٍ أو صغيرٍ مِمَّن يعَولُ“.
- عن عمر بن يزيد، قال: “سألتُ أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يكون عنده الضيف من إخوانه فيحضر يوم الفطر، يؤدِّي عنه الفطرةَ؟
فقال (عليه السلام): نعم؛ الفِطْرَةُ واجِبَةٌ على كُلِّ من يعول مِنْ ذَكَرٍ أو أنثى، صَغيرٍ أو كبيرٍ، حُرٍّ أو مَمْلُوك”.
أقول: يحتمل أن تكون (نعم) جوابًا على سؤال: “يُؤدِّي عنه الفِطرة؟”، ويحتمل أن تكون استئنافية لبيان ضابطة من تجب فِطرتُهم على الغير، وهذا أقرب لما جاء من زيادة تفسير بقوله (عليه السلام): “مِنْ ذَكَرٍ أو أنثى، صَغيرٍ أو كبيرٍ، حُرٍّ أو مَمْلُوك” وعدم مدخلية هذا التفصيل في سؤال السائل.
وإن كان الأوَّل فيُحمل على فرض دخول الضيف في عيلولة مضيفه، لا مُطلق الضيف، وهذا مقتضى الجمع.
الطائفة الثانية: عبَّرت بـ(الأهل):
- عن الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: “صدقة الفطرة على كل رأس من أهلك، الصغير والكبير، والحرِّ والمملوك، والغني والفقير”.
- عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: سألتُه عن صَدَقَةِ الفِطرة؟
قال (عليه السلام): عن كُلِّ رأسٍ من أهلك، الصَغيرِ منهم والكبير، والحُرِّ والمملُوكِ، والغني والفقير، كُلِّ من ضَمَمْتَ إليك، عن كُلِّ إنْسَانٍ صَاعٍ مِنْ حنْطَةٍ، أو صَاعٍ من شَعيرٍ، أو تَمْرٍ، أو زَبيبٍ.
الطائفة الثالثة: اقتصرت على نفي ما يُتوهم مانعيته عن الفِطرة:
- عن صفوان الجمال، قال: “سألتُ أبا عبد الله (عليه السلام) عن الفطرة؟
فقال (عليه السلام): عن الصغير والكبير والحرِّ والعبد، عن كُلِّ إنسانٍ منهم صاع من حنطة أو صاع من تمرٍ أو صاع من زبيب”.
- عن أبي عبد الله، عن أبيه (عليهما السلام)، قال: “زكاة الفطرة صاعٌ من تمرٍ، أو صاعٌ من زبيبٍ، أو صاعٌ من شعيرٍ، أو صاعٌ من أقطٍ، عن كلِّ إنسانٍ حُرٍّ أو عبدٍ، صغيرٍ أو كبيرٍ.
- عن أبي عبد الله، عن أبيه (عليهما السلام)، قال: “زكاة الفطرة صاعٌ من تمرٍ، أو صاعٌ من زبيبٍ، أو صاعٌ من شعيرٍ، أو صاعٌ من أقطٍ، عن كلِّ إنسانٍ حُرٍّ أو عبدٍ، صغيرٍ أو كبيرٍ.
أمَّا ذِكر الكبير والحر، فللتأكيد على مساواة الصغير والعبد لهما في المقام.
الطائفة الرابعة: عبَّرت بـ(ما أغلق عليه بابه):
- عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: “يُؤدِّي الرَجُلُ زكاةَ الفِطْرَة عن مُكاتبه، ورقيق امرأته، وعبده النصراني والمجوسي، وما أغلق عليه بابه“.
قوله (عليه السلام): “وما أغلق عليه بابه” كناية عن تكفُّل صاحب الباب وضمِّه إياه إلى عياله.
يظهرُ قُربُ ما ذهب إليه السيد السيستاني (دام ظلُّه) من تفسير العيلولة، بقوله: “فيُعتَبَرُ في صِدق (العيلولة) نوع من التبعية؛ بمعنى كونه تحت كفالته في معيشته ولو في فترة قصيرة”[2].
- ما عليه المتقدمون من الأعلام:
نقف على شيءٍ من الاختلاف بين الأعلام في تحديد ما يُحقِّق الصدق العُرفي للعيلولة، ويبدو، للنظر القاصر، أنَّ عدم الوضوح رجَّح الاحتياط في نظر صاحب الحدائق (علا برهانه)، فبعد استعراضه لأقوال الأعلام، قال: “وبالجملة، فالمسألة عندي محل إشكال، والاحتياط فيها مطلوبٌ على كلِّ حال”[3]. ومقتضى الاحتياط أن يُخرِج كلٌّ من مشكوك العيلولة فطرته على نفسه وكذا يُخرجُ عنه مُضيفه، وهذا ما لم يرتضه السيد لشيرازي (قُدِّس سرُّه)؛ لأصل البراءة، فقد قال: “وكيف كان، فلو شكَّ في موردٍ أنَّه ممَّن تجب فطرتُه على من يعوله أم لا؟ فالظاهر العدم للشكِّ في الوجب عليه، فالبراءة تقضي بالعدم، ويجب على نفس الضيف”[4].
ولعدم وضوح الحدود المحقِّقة للعيلولة اشتراط بعضُ المتقدمين من أعلام الطائفة الضيافة طوال الشهر أو النصف الأخير منه، أو العشر الأواخر، أو آخر ليلتين، طلبًا لصدق العيلولة فعلًا.
قال الشيخ (طاب رمسه): “روى أصحابنا أنَّ من أضاف إنسانًا طول شهر رمضان وتكفَّل بعيلولته لزمته فطرته. وخالف جميع الفقهاء في ذلك” وقال: “دليلنا: إجماع الفرقة، وطريقة الاحتياط”[5].
وقال في الانتصار: “وممَّا انفردت به الإماميةُ، القول بأنَّ من أضاف غيره طول شهر رمضان، يجب عليه إخراج الفطرة عنه. والحجَّة في ذلك: الإجماع المتردِّد.
وليس لهم أن يقولوا: الضيف لا يجب عليه نفقته فلا يجب فطرته؛ لأنَّا ليس نراعي في وجوب الفطرة وجوب النفقة، بل نراعي من يعوله، سواء كان ذلك وجوبًا أو تطوُّعًا”[6].
وقال في المقنعة: “ومن أضاف مسلمًا لضرورة به إلى ذلك طول شهر رمضان، أو في النصف الأخير منه إلى آخره، وجب عليه إخراج الفطرة عنه؛ لأنَّه قد صار بالضيافة بكم العيال”[7].
أمَّا ابن إدريس (طاب رمسه)، فقال: “ويجب إخراج الفطرة عن الضيف، بشرط أن يكون آخر الشهر في ضيافته، فأمَّا إذا أفطر عنده مثلًا ثمانية وعشرين يومًا ثُمَّ انقطع باقي الشهر، فلا فطرة على مضيفه” إلى أن قال: “فإنَّه يجب عليه إخراج الفطرة عنه ولو كان إفطاره عنده في الليلتين الأخيرتين فحسب”[8].
- ما عليه المعاصرون من الأعلام:
لم يتمسَّك المتأخرون في بحوثهم، وكذا من جاء بعدهم بشرط الليلتين، فضلًا عن النصف الأخير أو الشهر بالكامل، بل دارت بحوثهم حول صدق العيلولة والعلاقة بينها وبين الضيف.
قال السيد الخوئي (قُدِّس سرُّه): “وعلى الجملة، عَالَ زيدُ فُلانًا، أي كفاه مؤونته ومعاشه، ومعلومٌ أنَّ الضيفَ كذلك، فإنَّ ربَّ البيت هو المُتَكَفِّلُ لذلك، فيكفيه اُموره من مأكله ومشربه ومنامه وسائر ما يحتاج إليه، فهو عنده تحت نظره ورعايته”[9].
فيما ذهب الشيرازي (قُدِّس سرُّه) إلى أنَّ “بين عنوان الضيف وعنوان كل من يعول عموم من وجه؛ فإنَّ الزوجة يصدق عليها من يعول، ولا يصدق عليها الضيف، والضيف الوارد قبل لحظة من الغروب، وإن فرض أكله حال وروده ثُمَّ ارتحل بعد نصف ساعة بالعكس يصدق عليه الضيف، ولا يصدق عليه من يعول عرفًا”[10].
أقول: لا شكَّ في أنَّ الأكل والشرب، وتهيئة المكان للنوم، وما شابه، ليست إلَّا من مظاهر المسؤولية والتكفُّل، فمن مقتضيات العيلولة توفير الأكل والشرب ومكان النوم، لا أنَّ العيلولة من مقتضيات توفير الأكل والشرب ومكان النوم، كما أنَّه لا يكفي للكشف عن العيلولة ما لم يُحرز (الضمُّ) من المُضيف؛ وهو، كما في النظر القاصر، ما عبَّر عنه السيد السيستاني بالتبعية والتكفُّل.
والله سبحانه وتعالى العالم بالصواب والموفِّق إليه.
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على محمَّد وآله الطيبين الطاهرين
السيد محمَّد بن السيد علي العلوي
24 من شهر رمضان 1440 للهجرة
البحرين المحروسة
……………………………..
[1] – الأحاديث في هذه الورقة من وسائل الشيعة للحرِّ العاملي، ج9 ص317 – 331
[2] – منهاج الصالحين، السيد السيستاني- ج 1 المسألة 1175 ص353
[3] – الحدائق الناضرة، الشيخ يوسُف آل عصفور، ج12 ص276
[4] – موسوعة الفقه – السيد محمَّد الشيرازي- ج32 ص241
[5] – كتاب الخلاف، الشيخ الطوسي، ج2 مسألة 162 ص133
[6] – الانتصار، السيد المرتضى، مسألة 117 ص228
[7] – المُقنِعة، الشيخ المفيد، باب من الزيادات في الزكاة ص265
[8] – كتاب السرائر، ابن إدريس الحلِّي، ج1 ص471
[9] – المستند في شرح العروة الوثقى، السيد الخوئي، ج14 ص395
[10] – موسوعة الفقه، السيد محمَّد الشيرازي، ج32 ص239