بعد أن يتشرَّب قلبُ المؤمن حبَّ الإيمان، يظلُّ باحثًا عن أيِّ طريقٍ أو موطنٍ لله فيه رضا وزلفى؛ ليكون بذلك قد سار على الجادَّة؛ جادَّة النور الذي تنمحي فيه كلُّ ظلمة؛ ظلمة جهلٍ أو ضعفٍ أو فقرٍ أو غيرها.
ولا يخفى على أدنى مُطَّلِع بأنَّ موارد التقرُّب لله (سبحانه وتعالى) كثيرةٌ كثرةً يعسر إحصاؤها، إنْ لم نقل بأنها بعدد أنفاس الخلائق فيتعذَّر الإحصاء، ومن هنا فليس الحديث يدور عنها، بل الحديث عن عدوِّها ونقيضها، وهي الموارد التي تقطع حبل الصِّلة بالله (سبحانه وتعالى)، والتي يبغضها الباري ولا يحبُّها لعبدٍ من عبيده، وبما أنَّها متعدِّدةٌ كذلك، فإنَّنا نقصر الحديث عن أحدِها، والذي نعتقد -تبعًا للأحاديث الشَّريفة التي سيأتي ذكرُها- بأنَّه منشأٌ لغيره من المُبَعِّدات عن كلِّ خيرٍ في الدُّنيا والآخرة.
ونقدِّم بمقدِّمةٍ قصيرة:
كلُّ عاقلٍ مؤمنٍ بالله (سبحانه وتعالى) وبرسوله (صلَّى الله عليه وآله) ورسالته يعرف بأنَّ هذه الدُّنيا دارُ ابتلاءٍ وامتحان، يأتي فيها العبدُ ضيفًا لمدَّة من المُدَد طالت أو قصُرت، ليقوم بمهامَّ أُلقِيَت على عاتقه من لدن خالقه وبارئه، ليكون بعدئذ ناجحًا مجتازًا، أو غير ذلك -والعياذ بالله-.
فأصلُ العمر جُعِلَ للسَّير حثيثًا نحو النَّجاح في هذا الامتحان الإلهيِّ المتمثِّل بالقيام بتكاليفه (سبحانه وتعالى)، لا لشيءٍ آخر مطلقًا. ومن هنا نعلم بأنَّ كلَّ ما يعارض هذه الغاية لابُدَّ وأنْ يكون من المزاحمات الضَّروريَّة التي لا مفرَّ منها، ويدخل في ذلك جميع الاحتياجات البشريَّة كإشباع شهوتَي البطن والفرج بطريقهما المشروع. أيضًا من هنا تأتي الحاجة لإرضاء الجسم بعد التَّعب والنَّصب بقدرٍ جيِّدٍ ينامُ فيه الإنسان ليقوم بعد ذلك متقويًّا على أداء الأمانة الإلهيَّة بالوجه الذي ينبغي.
وأيُّ إفراطٍ أو تفريطٍ في إحدى الاحتياجات -المستثناة من أصل الخِلقة- يعدُّه ذو العقل تضييعًا ونقضًا للخير المُبتغى في الدنيا وفي الآخرة.
وبعد بيان هذه المقدِّمة، نستهلُّ الحديث بالقاعدة التي لا نحيد عنها في مبتنايتنا الفكرية، قول الصَّادق من آل مُحَمَّدٍ (عليهم السَّلام): “مَن سرَّه أنْ يستكملَ الإيمانَ كُلَّه فليقُل: القولُ منِّي في جميع الأشياء قولُ آل مُحَمَّد، فيما أسَرُّوا وما أعلنوا، وفيما بلغني عنهم وفيما لم يبلغني”[1].
إنَّ نوم الإنسان وراحته وُضِعَت في أساسها إجابةً لنداءاتٍ خفيَّةٍ يطلقُها التَّعبُ البدنِيُّ الذي خلَّفها عملُ الإنسان، فينام الإنسان العاقلُ السَّويُّ لا لرغبةٍ في النَّوم، بل إجابةً وإرضاءً للبدن الذي به يؤدِّي العبدُ ما كلَّفه الله به وشرَّفه عن باقي خلقه، وقد ورد في الحديث عن الصَّادق (عليه السَّلام): “النَّومُ راحةٌ للجسد”.
ومن هنا نفهم بأنَّ أصل العنوان لا يمكن القدح فيه، ولكنَّ كثرته مذمومةٌ من عقل الإنسان وفطرته قبل أن يبيِّن ذلك الدِّين الحكيم، وفي ذلك وردت أقوال أرباب هذا الدِّين[2]، منها ما ورد عن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله): “إيَّاكم وكثرة النَّوم؛ فإنَّ كثرة النَّوم يدعُ صاحبَه فقيرًا يوم القيامة”، وكذلك ورد عنه (صلَّى الله عليه وآله) قوله: “قالت أمُّ سليمان بن داوود لسليمان (عليه السَّلام): إيَّاك وكثرة النَّوم باللَّيل؛ فإنَّ كثرة النَّوم باللَّيل تَدَعُ الرَّجُلَ فقيرًا يومَ القيامة”. وفي بيان الفقر نتيجة كثرة النَّوم يقول أميرُ المؤمنين (عليه صلوات المصلِّين): “بئس الغريمُ النَّوم؛ يُفني قصيرَ العُمر، ويُفوِّتُ كثير الأجر”، ويقول (عليه السَّلام): “مَن كثُر في ليله نومُهُ فاته من العمل ما لا يستدركه في يومه”، ويُبيِّنُ مولانا الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) حيثيَّةً أخرى لكراهيَّة كثرة النوم في قوله: “لا تُعَوِّد عَينَيك كثرةَ النَّوم؛ فإنَّها أقلُّ شيءٍ في الجسد شُكرًا”.
وتأتي المرحلة الخطيرة التي ينصُّ عليها الإمامُ أبو عبد الله الصَّادقُ (عليه السَّلام) في قوله: “كثرةُ النَّوم مَذهَبَةٌ للدِّينِ والدُّنيا”، بل الأعظم من ذلك هو كون هذا السُّلوك القبيح يبغضه الباري سبحانه ولا يرضاه ولا يحبُّه، وهو الغرض الذي بُنِي من أجله هذا الحديث، يقولُ الصَّادقُ من آل محمَّد (عليهم السَّلام): “إنَّ الله (عزَّ وجلَّ) يُبغِضُ كثرةَ النَّوم، وكثرةَ الفراغ”، ويتعدَّى هذا البُغضُ إلى العبد نفسه في قوله (عليه السَّلام): “إنَّ الله (عزَّ وجلَّ) يُبغِضُ العبدَ النَّوَّامَ الفارغ”، ولَعمري إنِّهُ لَحديثٌ ما بعده حديث!.
ومن الطبيعيِّ فإنَّ لكثرة النَّوم مقدِّمات، فكما أنَّ النَّتيجة ينبغي أن نفرَّ منها ولا نقترب، كذلك خطواتها ومقدِّماتها، ومنها الكسل، فقد ورد الذَّمُّ الواضح له في أحاديث الصَّادِقين (عليهم السَّلام)[3]، قال الإمامُ الباقرُ (عليه السَّلام): “إنِّي لَأُبْغِضُ الرَّجُلَ -أوْ أَبغَضُ للرَّجُلِ- أن يكون كسلانَ عن أمر دُنياه، ومَن كَسِل عن أمر دنياه فهو عن أمر آخرته أكسل”، وقال (عليه السَّلام) كذلك: “الكسل يُضِرُّ بالدِّين والدُّنيا”، وورد عن أمير المؤمنين (عليه السَّلام) قوله: “الكَسَلُ يُفسِدُ الآخرة”.
إلى أن تصل النَّوبة في الأحاديث الشَّريفة التي تجعل لنا منهاجًا خاصًّا نتعامل به مع مَن اتَّصف بهذه المنقصة وجرت في دمه مجرى الدَّم، فقد ورد عن الأمير (عليه السلام): “لا تَتَّكِلْ في أمورك على كسْلان”، وورد عن الصَّادق (عليه السَّلام): “لا تَستَعِنْ بكسْلان”.
وفي بيان وجه هذه الكراهية للكسل يقول أمير المؤمنين (عليه السَّلام): “إيَّاكم والكسل؛ فإنَّه مَن كسِلَ لَم يُؤدِّ حقَّ الله (عزَّ وجلَّ)”، ويقول الصَّادقُ (عليه السَّلام) لبعض وُلدِه: “إيَّاك والكسل والضَّجَر؛ فإنَّهما يمنعانك من حظِّك من الدُّنيا والآخرة”.
ومن الأبواب التي ينفذ فيها الإنسان فيقع في شرك الكسل تأخيرُ العمل، فقد ورد عن أمير المؤمنين (عليه السَّلام): “تأخيرُ العمل عُنوانُ الكسل”.
وإنَّ للكسلان علامات ينبغي أن نفرَّ منها فرارنا من الأسد، قال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله): “أمَّا علامة الكسلان فأربعةٌ: يتوانى حتَّى يُفَرِّط، ويُفَرِّط حتَّى يُضَيِّع، ويُضَيِّع حتى يأثم، ويضجَر”.
وقبل ختام الحديث أحبُّ أن أدوِّن نصيحةً سمعتُها من بعض أجلِّ الأساتذة، وهو يقول: مَن لا يقدر على السَّهر لا يَسْهَرْ!، وهذا يذكِّرني بقول الإمام عليِّ بن محمَّدٍ الهاديّ (عليه السَّلام): “السَّهرُ ألذُّ للمنام”، فإنَّ من سهر اشتهى النَّومَ شهوةً فوق حاجته الطبيعيَّة، فيُفرِطُ حينئذٍ فيه، فرُبَّ ساهرٍ لنافلة اللَّيل يصبح مُفَرِّطًا لفريضة الصُّبح!، والحُرُّ تكفيه الإشارة.
الحمد لله رب العالمين، وصلَّى لله على محمَّدٍ وآله الطَّاهرين.
أحمد نصيف البحراني
26 شعبان 1440للهجرة
………………………………………..
[1] . الكافي الشريف.
[2] . نقلتُ الأحاديث الشَّريفة من كتاب (ميزان الحكمة) نقلاً عن مصادره الأصليَّة، فراجع مفردة (النوم) من المجلَّد التَّاسع.
[3] . نقلتُ الأحاديث الشَّريفة من كتاب (ميزان الحكمة) نقلاً عن مصادره الأصليَّة، فراجع مفردة (الكسل) من المجلَّد السَّابع.
3 تعليقات
بسمه تعالى
الأحاديث التي أوردها الشيخ الجليل البحراني عن المعصومين عليهم السلام تدفع المؤمن للإنتباه أكثر…فالعمر قصير وما أحوجنا لكسب الثواب في يقضتنا و نومنا..سؤالي للشيخ الجليل هو هل من حل لمن ابتلي بكثرة النوم بسبب سحر مسلط؟..أرجوا أن أجد الإجابة على هذه الصفحة أو الموقع الطيب فبريدي ليس بإمكاني ولوجه منذ مدة….ولكن كل الشكر
الأخ المحترم.. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،،
شكر الله لُطفَكم وثناءكم، وجعلنا وإياكم ممن يعمل خالصًا لوجه ربنا سبحانه.
وأمَّا بخصوص طلبكم وسؤالكم، فأنا لا علم لي بمثل هذه الأمور، يمكنكم الرُّجوع لأهل الاختصاص والمعرفة بهذا المجال.
شكرًا لكم
بإسمه تعالى
سلام عليكم شيخنا أحمد نصيف واشكر لكم ردكم على رسالتي..
كنت واضبت قبل بضع شهور على قرائة بعض أوراد يومية تحصلتها عبر ال’أنترنت'(pdf)
صاحبها مؤمن عراقي مختص في الطب النفسي الكلينيكي-أبو همام الحسيني-ووجدت إثرها بعض تحسن..ولا أدري إن كنتم اطلعتم على مؤلفه ..؟ و ما رأيكم فيه؟..مع الشكر…