من أبعادِ شخصية السفير ll بقلم: سماحة الشيخ محمود سهلان

بواسطة Admin
0 تعليق

تميَّزت فترة الغيبة الصغرى بوجود أربعة سفراء للإمام المنتظر عجَّل الله فرجه بالإضافة لغيرهم من الوكلاء في الأمصار، وهذا ما نفتقده في الغيبة الكبرى، ومن أهم مهام السفراء الحفاظ على سرِّ الإمام المنتظر عليه السلام من جهة، وأن يكونوا الواسطة بينه وبين شيعته من جهةٍ أخرى، وذلك استلزم صفاتٍ خاصةً ينبغي للسفير أن يتحلى بها، من أهمها صلابة الإيمان، والتسليم المطلق للإمام، والأمانة، والعلم بمستوى من المستويات، ولخطورة هذا الدور تصدى الإمامان الهادي والعسكري عليهما السلام لبيان جلالة قدر السفير الأول عثمانَ بن سعيدٍ العَمْري في زمنهما في أكثر من موقفٍ ومقام، وكذلك تمَّت الإشارة للسفير الثاني وهو ابنه محمد، كما أن السفير الأول كان وكيلًا للإمام الهادي عليه السلام واستمرت وكالته عنهم عليهم السلام حتى وفاته في السنوات الأولى للغيبة الصغرى، وبذلك كانت الانطلاقة صافيةً نقيةً موثوقة، حتى تترسَّخ المسألة في أذهان الشيعة ويتيقنوا من صدق ما يدعيه السفراء رضوان الله تعالى عليهم. وقد اتخذ السفير الثاني منهجًا مشابهًا للتأكيد على أفضلية السفير الثالث وتهيئة الناس لاستقباله كسفيرٍ عن الإمام المنتظر عجل الله فرجه، خاصةً وأن الأنظار كانت متوجهةً لغيره من خُلَّص الأصحاب.

 

وقفتان مع السفير الثالث:

 

أقف هنا وقفتان مع السفير الثالث أبي القاسم الحسين ابن روح لنرى بعض وجوه تميُّزه وتميز السفراء عن غيرهم حتى اختيروا لهذه المهمة، في محاولةٍ للاستفادة من ذلك في حياتنا كموالين للإمام الحجة عجل الله فرجه الشريف:

 

الأولى: الإخلاص الشديد منه في حفظ الإمام عليه السلام وسره وأداء الأمانة، حتى قيل فيه أنه لو قُرِض بالمقاريض وكان الإمام عليه السلام تحت ذيله لما كشف الذيل عنه، وهذا الإخلاص من أهم الصفات التي جعلته يبلغ هذه المرتبة التي وصل إليها، ونيل شرف السفارة العظيم، وهذا هو الدرس الأول الذي نُفيده من هذا الرجل العظيم، كلٌّ من موقعه، حيث لا بد وأن نتحلى بالإخلاص لله تعالى ولرسوله وأوليائه صلوات الله عليهم أشد الإخلاص كلٌّ بحسبه وبحسب موقعه كما قلنا.

الثانية: تميز أيضًا هذا الرجل بتمسكه بالتقية أشد تمسك، وقد عاش هو والسفراء وكل الموالين في زمنٍ من أصعب الأزمنة على الشيعة، وكان الخوف شديدًا على حياة الإمام عليه السلام، وعلى كل القواعد الشعبية الشيعية الموالية، فكيف لا يكون كذلك ونحن في زمن تقيةٍ منذ أعلن ذلك الإمام الصادق عليه السلام، حيث أكد أننا في زمن تقيةٍ حتى ظهور القائم عليه السلام، وقال: التقية ديني ودين آبائي. فما بالكم بتلك الفترة القاسية الصعبة، ألا وهي فترة الغيبة الصغرى، فيُنقل عنه أنه تمسك بذلك حتى أظهر التزامه  بمذهب المخالفين واستبطن التشيع والولاء في أعماقه، ومما ذكروا له من مواقفَ أنه كان جالسًا في أحد مجالس العامة ودار الحديث عن أفضلية الثاني على عليٍّ عليه السلام، فأجاب بأن الأول والثاني والثالث أفضل ثم أمير المؤمنين عليه السلام، فدفعوا عنه تهمة الرفض مباشرة، وبالتالي أبعد عن نفسه الأنظار كي لا يشك أحدٌ أنه السفير عن الإمام القائم عليه السلام، بل وكان شديدًا لدرجة أنه طرد بوابًا له سمع أنه لعن رأس الشام وشتمه، ولم يقبل بأن يُرجعه لخدمته بعد ذلك. بهذا المقدار التزم هذا الرجل الشجاع المخلص في أداء أمانته، والحفاظ على حياة الإمام المنتظر عجل الله فرجه الشريف.

ومع تميزه بما ذكرناه امتاز كذلك بالتسليم والانقياد لله تعالى ولخلفائه في أرضه، وامتاز بالعلم، وإن كان بعض الأصحاب -كما يظهر من أحوالهم- أكثر علمًا منه، ولعل هذا الأمر يصعب تحقيقه، ولكن مجرد هذا الاحتمال قد يوضح بأن السفارة لم تكن تعطى للأكثر علما، بل للعالم مع مراعاة صفاتٍ أخرى حاز عليها ابن رَوحٍ باقتدار، لا سيَّما مع وجود علماء كبارٍ في زمنه كالصدوق الأول رضوان الله تعالى عليه.

والحديث عن العلم يجرنا للحديث عن شخصيةٍ عاصرت السفير الثالث لها من العلم ما لها، وهو ابن أبي العزاقر الشلمغاني، حيث كان عالمًا شيعيًا لا تخلوا بيوت الشيعة من كتبه، ولكنه مع ذلك انحرف انحرافًا شديدًا في آخر حياته حتى ادعى السفارة عن الإمام المنتظر عليه السلام وطلب أن يباهل ابن روحٍ إلى أن قُتل وصُلب على إثر ذلك.

 

أبعادٌ مهمة في شخصية المؤمن:

 

ربما نكون في زمنٍ لا يمكن أن نكون سفراء للإمام عليه السلام فيه بذلك المعنى الخاص للسفارة، لكن كل فردٍ منَّا يمكن أن يكون سفيرًا بالمعنى الأعم للسفارة عنه، لا بالادعاء وإنما بالعمل، فيكون داعيًا لخط أهل البيت عليه السلام بعمله قبل لسانه، وقد ورد عنهم فيما أرادوه منا: “كونوا دعاةً لنا بغير ألسنتكم”.

وفي إطار ما مر من كلامٍ أطرح هنا بعض النقاط التي أرى أهميتها:

 

الأولى: أن التقية أمرٌ مستمرٌ حتى ظهور الإمام عليه السلام وبَسطِه العدل، فلا يصح ما يتناوله بعض المؤمنين من أننا لسنا في زمن تقية، نعم قد يختلف الأمر شدةً وضعفًا باختلاف الزمان والمكان إلا أننا نحتاج للتمسك بها، أما من يتخلى عنها في مكانٍ ما فينبغي له أن يلتفت أنه قد يضرُّ بإخوانه المؤمنين في مكانٍ آخر، ولنا في التاريخ الشيعي شواهدُ كثيرةٌ ليس المقام مقام ذكرها.

الثانية: ضرورة الالتزام بالإخلاص لله تعالى ودينه وخلفائه في أرضه، وهذا ما جسَّده السفراء الأربعة بكل قوة، ومن ذلك ما نقلناه عن السفير الثالث من أنه لو قُرِض بالمقاريض والإمام تحت ذيله لما كشف الذيل عنه، وقوله لو أنه رُمي من السماء لَمَا قال في دين الله شيئًا من عنده.

الثالثة: العلم أمرٌ في غاية الأهمية لكنه ليس المقياس الوحيد الذي يقاس عليه الرجال، كما أن بعض المهام تحتاج بالإضافة إلى العلم لصفاتٍ خاصةٍ جدا، يندر أن تجتمع في رجلٍ من الرجال، وقد حاز السفراء الأربعة على مجموعةٍ منها فاستحقوا هذا المنصب والتكليف العظيم.

وما دام الحديث عن العلم –أفتح قوسًا- وأشير إلى مسألةٍ نعانيها اليوم بقوة، وقد أثَّرت في ثقافاتنا كثيرا، وهي التعلم من أجل نيل الشهادة فقط، لتكون سلاحًا عند البحث عن عمل!! هل هذه قيمة العلم عندنا؟!

المطلوب أن نتعلَّم من أجل العلم، والشهادة تأتي بالتبع، لا أن تكون الشهادة هي الغاية، فنحن نحتاج للمهندسين والأطباء وأهل القانون وعلماء النفس والاجتماع وغيرهم، لكننا نحتاجهم أصحاب علمٍ لا أصحاب شهاداتٍ فقط بلا علم..

ثم نسأل لماذا التركيز على هذه المجالات العلمية فقط؟ لماذا لا نجعل الدراسة الحوزوية –وهي الأشرف- خيارًا للأبناء كغيرها؟

الإجابة المباشرة أننا نريد أن نؤمِّن مستقبلهم، فنقول تريد تأمين مستقبلهم بالدنيا فماذا عن الآخرة؟ نحن نقول لا تدفعه نحو خيار الحوزة دفعا، لكن اجعله خيارًا من خياراته، أما موضوع الرزق فالكلام فيه طويل، وهو مقسومٌّ كما قال أمير المؤمنين عليه السلام في معرض المفاضلة بين العلم والمال..

الرابعة: التسليم من أهم الصفات التي ينبغي أن يتحلى بها المؤمن، حتى حديث القلب على خلاف التسليم مرفوضٌ كما تشير الروايات، فالمراد هو التسليم المطلق لله تعالى ولرسوله وأهل بيته صلوات الله عليهم أجمعين.

هذه الصفات وغيرها من الصفات الحميدة هي التي تجعلني على خط الإمام عجل الله فرجه، وتجعلني من جنده وأعوانه وأنصاره والممهِّدين له، وأختم بذكر شاهدٍ على التسليم، وهو ما قام به أبو هارون المكي عندما أمره الصادق عليه السلام بالجلوس في التنور، فلم يرفض ولم يناقش فدخل مباشرةً في التنور ولم يُصب بشيء، وفي ذات الرواية قال الإمام عليه السلام ما مضمونه لو أن له خمسةً مثله لقام للمطالبة بحقه.

فماذا يريد منا الإمام الغائب عليه السلام إذًا؟!

 

محمود سهلان

14 شعبان 1440هـ

20 أبريل 2019م

مقالات مشابهة

اترك تعليق


The reCAPTCHA verification period has expired. Please reload the page.