جنيُ المحصُول من كلِّيات الفصول (1)

بواسطة Admin
0 تعليق

(كُلِّيتا أنَّ الله تعالى ما خلق خلقًا أحب إليه من العقل، وأنَّه لا يُكمِله إلَّا في من أحب، وما ينكشف منهما)

 

محمَّد بن يعقوب الكليني (رضي الله عنه)، قال:

حدَّثني عدَّةٌ من أصحابنا، منهم: محمَّد بن يحيى العطَّار، عن أحمد بنِ محمَّد، عن الحسن بن محبوب، عن العلاء بن رزين، عن محمَّد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال:

“لمَّا خلَقَ اللهُ العَقْلَ، اسْتَنْطَقَهُ، ثُمَّ قال له: أقْبِلْ، فأقْبَلَ، ثُمَّ قال له: أدْبِرْ، فأدْبَرَ. ثُمَّ قال:

وعِزَّتي وجَلَالِي؛ مَا خَلَقْتُ خَلْقًا هو أحبُّ إليَّ مِنكَ، ولا أكْمَلتُكَ إلَّا في مَن أُحِبُّ. أما إنِّي إيَّاكَ آمُرُ، وإيَّاكَ أنْهَى. وإيَّاكَ أُعَاقِبُ، وإيَّاكَ أُثِيبُ”.

أوَّلًا:

  • أحبُّ الخلقِ إلى الله تعالى، مُطلَقًا، العقلُ.
  • لا يُكمِلُ اللهُ تعالى العقلَ، مُطلَقًا، إلَّا فيمَن أحبَّ جلَّ في عُلاه.
  • يوجِّه اللهُ تعالى الأوامِرَ والنواهي، مُطلَقًا، إلى العقلِ، فالعقلُ مَنَاطُ التكليف.
  • يُوجِّه اللهُ تعالى عقابه وثوابه، مُطلَقًا، إلى الله العقل.

ثانيًا:

  • جاءت هذه الأمور الأربعة مترتبة على إقبال العقل وإدباره ممتثلًا لأمر الله تعالى امتثال تسليم مُطلَق.

أمَّا التسليم؛ فللاستجابة الملتصقة بالأمر الإلهي؛ إذ أنَّ الفاء المتوسطة بين الأمر وفعل الاستجابة دالَّةٌ على المبادرة والفور حال تلقي الأمر مباشرة، ومنشأ ذلك أنَّ العقلَ قائِمٌ على الدقَّة البالغة في الفرز والتمييز بين الحسن والقبح، وبين المصلحة والمفسدة، وهذه الدقة في المعرفة وجبت بوجوب الاستنطاق المفعول لله تبارك ذكره، وإذا كان العقل عارِفًا بالتمييز بين الحسن والقبح، والمصلحة والمفسدة، فمن استنطقه ابتداءً هو المُفيض عليه هذه المعرِفة. فهاهنا أمور:

أوَّلًا: الاستنطاق:

يكادُ اللغويون، في معاجم وقواميس اللغة، أن يُجمِعوا على أنَّ (النطق) هو: الكلام المعروف، أو ما يشببه من لغات الحيوان، كما في: (وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ)[1]. ويُقابِله: الصمت.

قال ابنُ منظور: “نَطَقَ الناطِقُ يَنْطِقُ نُطْقاً: تكلم. والمَنطِق الكلام.

والمِنْطِيق: البليغ؛ أَنشد ثعلب: والنَّوْمُ ينتزِعُ العَصا من ربِّها، ويَلوكُ، ثِنْيَ لسانه، المِنْطِيق وقد أَنْطَقَه الله واسْتَنْطقه أَي كلَّمه وناطَقَه.

وكتاب ناطِقٌ بيِّن، على المثل: كأَنه يَنْطِق؛ قال لبيد: أو مُذْهَبٌ جُدَدٌ على أَلواحه، النَّاطِقُ المَبْرُوزُ والمَخْتومُ وكلام كل شيءٍ مَنْطِقُه؛ ومنه قوله تعالى: عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ؛ قال ابن سيده: وقد يستعمل المَنطِق في غير الإنسان كقوله تعالى: عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ”[2].

يظهر للنظر القاصر أنَّ النطق مقولٌ للعلمِ الحقِّ، وأُطلِق على الكلام تبعًا، كما أنَّ الكلام بالإرادة الجدِّية تابِعٌ لما يُراد الإفصاح عنه، وقد يكون من أدلِّ ما يدلُّ على المُدَّعى، استنطاق الله تعالى للعقل؛ إذ أنَّ المعنى المُتَصَوَّر إمَّا:

  • أن يتعين في الكلام بمعنى الصوت المشتمل على تقاطيع الحروف، وهو المعروف عندنا.

أو:

  • أنَّه من قبيل الوحي.

أو:

  • أنَّ الله تعالى جعله مُدرِكًا مُفَكِّرًا.

أمَّا الكلام بمعنى الصوت المشتمل على تقاطيع الحروف، فيبدو لي انتفاؤه؛ إذ أنَّه لا يعدو كونه حالة تعبيرية إفصاحية عن واقع ذهني متقدِّم عليها.

وأمَّا الوحي ففِعلٌ لا يترتب عليه الأثر الخارجي المطلوب إلَّا بوجود قابل، والقابل للوحي ناطقٌ ضرورةً، فيلزم تقدُّم المتأخر، وهو باطل.

بقيت الصورة الأخيرة، وهي أنَّ العقل وجودٌ ناطقٌ بالقوة، تَعَرَّضَ لاستنطاق خالقه فصار ناطقًا بالفعل.

ثانيًا: الإقبال والإدبار: لا شكَّ في أنَّ الإقبال والإدبار ليسا بمعنى المجيء نحو الله تعالى، والذهاب عنه عزَّ وجلَّ؛ فالعقل يأبى تكوينًا الإدبار عن خالقه تبارك ذكره، بل المتعين، بحسب الظاهر، هو الإقبال على كلِّ ما يُحبُّ اللهُ تعالى، والإدبار عن كلِّ ما يكره، فناسب أن يكون أحبَّ الخلق إليه تعالى، وأن لا يُكمله إلَّا في من أحبَّ.

ثُمَّ أنَّ الأمر من الله جلَّ في علاه، لم يقع، بحسب ما يظهر للنظر القاصر، اختبارًا أو ما شابه، بل كان إظهارًا لحال العقل؛ ما يبينُ أنَّ أيَّ خطأ من عاقِلٍ مُركَّبٍ من عقلٍ وغيره، لا يمكن أن يرجع في شيءٍ منه إلى العقل؛ فالعقل مقبلٌ على كلِّ ما يحبُّ الله تعالى، مدبرٌ عن كلِّ ما يكره.

ثالثًا: القَسَمُ الإلهِي بالعزَّة والجلال: أقْسَمَ سُبْحَانه وتعالى بعزَّتِه وجَلَالِهِ. أمَّا العِزَّةُ فقيل بوقوعها على ثلاث معانٍ: عِزَّة القوة، وعِزَّة الامتناع، وعِزَّة القهر. وقالوا بأنَّ مِنْ تَمَامِ عِزَّتِهِ بَراءَتِهِ مِنْ كُلِّ سُوءٍ وشَرٍّ وعيبٍ؛ ما تكون به جميعُ أفعَالِهِ عن مشيئةٍ وحكمةٍ، دون انقياد لما سواه مطلقًا. وأمَّا الجلال فهو عِظم الشأن والمنزلة، والتنزُّه عن كلِّ ما لا يليق.

تظهرُ مناسبةُ القَسمِ لصِفَتَي العِزَّةِ والجَلَالِ؛ لما تقدَّم من تنزُّه العقلِ عن كلِّ ما من شأنِّه الإخلال بتسليمه المُطلق لأوامر الله تعالى ونواهيه، فاتَّضح أنَّ مادَّة الجوهر العقلي صفتا العزَّة والجلال الإلهيتين دون واسطة، وهذا أمر سوف نرى في المقالات القادمة إن شاء الله تعالى أهمية فهمه وضبط حدوده.

إذا اتَّضح ذلك، قلنا:

الكُلِّيةُ الأولى: قال جلَّ في علاه، بعد القَسَمِ العَظيم: “مَا خَلَقْتُ خَلْقًا هو أحبُّ إليَّ مِنكَ”، فَنَفَى سُبْحَانه كلَّ الأفراد عن مقام الحب الأعلى، وأبقى على فرد واحد، وهو العقل.

بعبارة أخرى: ينحل قوله تعالى “مَا خَلَقْتُ خَلْقًا هو أحبُّ إليَّ مِنكَ” في عموم السلب عن جميع أفراد الخلق، وفي إثبات الحكم لفرد واحد، والحكم هو الدرجة الأعلى من الحبِّ؛ لما تفيده صيغة أفعل التفضيل (أحَب)، وبالتالي، فإنَّه لا مُزاحم، مُطلَقًا، في المحبَّة الإلهية للعقل.

إلَّا أنَّ النفي جاء بـ(ما)، ومع دخولها على الفعل الماضي (خَلَقَ) يكون النفي للزمن الماضي دون غيره، وهو المناسِبُ لمقام الألوهية؛ من جهة انَّه جلَّ في علاه غير مقهور بحد على الإطلاق، لذا، فلو أنَّه خَلَقَ خلقًا أجَلَّ من العقل لَنَفَى المَحَبَّةَ عن غيره بـ(ما) أيضًا. فتأمَّل.

الكُلِّيَةُ الثانِيَةُ: قال تبارك ذكرُه: “ولا أكْمَلتُكَ إلَّا في مَن أُحِبُّ”، والنَفيُ بِـ(لا) آكَدُ وأقوَى، كما أنَّه نفيٌّ للزمنين، الحاضر والمستقبل، إلَّا بقرينة تخصُّ أحدهما دون الآخر.

إنَّه بعد أن كان ذلك مقام العقل عند الله تعالى، أقسم بعدم إكماله إلَّا في من أحبَّ، فعمَّ السلب جميع الأفراد عن إكمال العقل فيهم، وثبت لمن أحبَّه سبحانه.

فتحصَّل، أنَّ كلَّ من كَمُلَ فيه العقلُ كان محبوبًا لله عزَّ وجلَّ.

هنا أمران:

الأوَّل: اللهُ سبحانه وتعالى هو الفاعِلُ لإكمال العقل في المخلوق العاقل.

الثاني: العقلُ درجاتٌ، يُقصَدُ نَيلِ بعضها ببعض سعيًا وطلبًا، أمَّا تحقُّق النيل فبيد الله تعالى، كما مرَّ في الأمر الأوَّل.

حقيقة العقل:

من هذا الحديث الشريف نُفيدُ أنَّ العقل جوهرٌ ناطِقٌ ذو طبيعةٍ تَسلِيميَّةٍ تسليمًا مطلقًا تامًّا لبارِئه سبحانه وتعالى.

نعم، ذُكِرت إطلاقات عديدة للعقل، إلَّا أنَّنا نَتَدَرَّجُ في الفهم وتحصيل النتائج، مع الأحاديث شيئًا فشيئًا، فتَرَقَّبْ.

العقلُ والإنسانُ:

من قوله تعالى “ولا أكْمَلتُكَ إلَّا في مَن أُحِبُّ” يظهر أنَّ سعي العاقِل إنَّما هو للظفر بمحبَّة الله تعالى، وإلَّا فكمال العقل مفعول له تبارك ذكره.

نعم، يُعمِل العاقِلُ عقلَه بالتفكُّر والتدبُّر في آيات الله تعالى وآلائه، ولكنَّ هذا من باب أنَّه (نفس التدبُّر والتفكُّر) محبوب للباري سبحانه، أمَّا حصول الكمال العقلي فهو بِمِنَّةٍ مِنْهُ تبارك ذكره مثوبةً للعبد على إعماله للمقدار الذي عنده من العقل في التفكُر والتدبُّر بما يرضي الخالق عزَّ وجلَّ. هذه فائِدة عظيمة ينبغي أن تكون أصلًا أصيلًا في بناء الشخصية المؤمنة الراجية لرضا الله تعالى وفضله.

سوف يتَّضحُ، إن شاء الله تعالى، في الحلقات القادمة من هذه السلسلة، أنَّ تصدير الشيخ الكليني لأصول الكافي عمومًا، وكتاب العقل والجهل منه عن وجه الخصوص بهذا الحديث الشريف، لم يكن تصديرًا اعتباطيًا أو ما شابه، بل لكونه الأصل الحاكم الذي يُفسِّر الكثير من الأحاديث التي تليه.

وهذا ما تتكفَّل به المقالات القادمة إن شاء الله تعالى.

 

السيد محمَّد بن السيد علي العلوي

8 شعبان 1440 للهجرة

البحرين المحروسة

……………………………………………….

[1] – الآية 16 من سورة النمل

[2] – لسان العرب

مقالات مشابهة

اترك تعليق


The reCAPTCHA verification period has expired. Please reload the page.