تَنْويِرُ الأبْصَارِ فِي فَهْمِ مَا بَينَ مَدْرَسَتَي الأُصُولِ والأخْبَارِ

بواسطة Admin
0 تعليق

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على محمَّد وآله الطاهرين، واللعن الدائم على أعدائهم إلى قيام يوم الدين.

  • تمهيد:

لا يمكن لسيف الفِتنَةِ أن يقع بين شيعة أمير المؤمنين (عليه السلام)؛ فما هم عليه من حبٍّ عظيم وولاية صادقة للعِترة الطاهرة يمنع من سقوطهم ضحايا للفِتَنِ والنزاعات، أمَّا الذي بينهم ممَّا نراه من ذلك فهو ليس إلَّا تنبيهات تجعلهم على حدِّ التحديات ليحافظوا على قوَّة وصلابة تمسكهم بالولاية العاصمة عن الضلال.

عن جابر بن عبد الله الأنصاري، قال: سمعتُ رسولَ اللهِ (صلَّى اللهُ عليه وآله) يقول:

“إنَّ اللهَ خَلَقَنِي وخَلَقَ عليًّا وفاطِمَةَ والحَسَنَ والحُسَيَنَ والأئمَّةَ مِنْ نُورٍ، فَعَصَرَ ذَلِكَ النُورَ عَصْرَةً فخَرَجَ مِنْهُ شِيعَتُنَا، فَسَبَّحْنَا فَسَبَّحُوا، وقَدَّسْنَا فَقَدَّسُوا، وهَلَّلنَا فَهَلَّلُوا، ومَجَّدْنَا فَمَجَّدُوا، وَوَحَّدْنَا فَوَحَّدُوا، ثُمَّ خَلَقَ اللهُ السَمَاوَاتِ والأرْضِينَ، وخَلَقَ المَلَائِكَةَ، فَمَكَثَتِ المَلَائِكَةُ مِئَةَ عَامٍ لا تَعْرِفُ تَسْبيحًا ولا تَقْدِيسًا ولا تَمْجِيدًا، فَسَبَّحْنَا فَسَبَّحَتْ شِيعَتُنَا فَسَبَّحْتِ المَلائِكَةُ لِتَسْبِيحَنَا، وقَدَّسْنَا فَقَدَّسَتْ شِيعَتُنَا فَقَدَّسَتِ المَلائِكَةُ لِتَقْدِيسِنَا، ومَجَّدْنَا فَمَجَّدَتْ شِيعَتُنَا ومَجَّدَتِ المَلائِكَةُ لِتَمجِيدِنَا، ووَحَّدْنَا فَوَحَّدَتْ شِيعَتُنَا فَوَحَّدَتِ المَلائِكَةُ لِتَوحِيدِنَا. وكانتِ المَلائِكَةُ لا تَعْرِفُ تَسْبِيحًا ولا تَقْدِيسًا مِنْ قَبْل تَسْبيحِنَا وتَسْبِيحِ شِيعَتِنَا، فَنَحنُ المُوَحِّدُونَ حِينَ لا مُوَحد غيرنا، وحَقِيقٌ على اللهِ تَعَالى كَمَا اختَصَّنَا واختصَّ شِيعَتَنَا أنْ يُنْزِلَنَا في أعْلَى عِلِّيينَ. إنَّ اللهَ سُبْحَانه وتعالى اصْطَفَانَا واصْطَفَى شِيعَتَنَا مِنْ قَبْلِ أنْ نَكُونَ أجْسَامًا، فَدَعَانَا وأجَبْنَا، فَغَفَرَ لنَا ولِشِيعَتِنَا مِنْ قَبْلِ أنْ نَسْبِقَ أنْ نَسْتَغْفِرَ اللهَ”[1].

لذا، فإنَّنا عندما نقف على حالاتٍ بين عموم الشيعة يظهر فيها منهم التنازع والتخاصم، لا نحملها على الحقيقة، بل نحن على يقين من الله جلَّ في علاه أنَّه يستنقذهم منها يومًا ما. ولو أنَّ المتخاصمين والمتنازعين من شيعة الزهراء (عليها السلام) يلتفتون لحظةً لنسائم اللطف التي تحيطهم لنكصُوا عمَّا هم عليه فِرارًا لِرَوحِ الولاية وريحانها.

لأنَّ الشيعةَ أهلُ إيمانٍ وغيرةٍ على صفحة الإسلام، فقد نجد من بعض علمائهم (أعلا اللهُ نور راياتهم في الدنيا والآخرة) شيئًا من الشِدَّة في مناقشاتهم للآراء التي قد تُفهَمُ على بعض الوجوه التي تستدعي الحزم في الرد، فيرى البعضُ ذلك من التنازع والتخاصم، إلَّا أنَّ الحقَّ على خلافه تمامًا، وإن عَلَتِ الأصواتُ وحدَّتِ الكلِمَاتُ وتصارختِ التَعَابِيرُ والتوصيفَاتُ، فإنَّها سرعان ما تعود زلالًا طيبًا بمجرد زوال ما اشتبه والتبس، كيف لا، وقد قال إمامنا أميرُ المؤمنين (عليه السلام): “خُلِقْنَا مِنْ طِينَةٍ، وخُلِقَ شِيعَتُنَا مِنْ فَضْلِ طِينَتِنَا، فإذا  كانَ يَومُ القِيَامَةِ أُلحِقُوا بِنَا”[2].

قرأتُ منذ سنوات جوابًا مُفَصَّلًا شافيًا جَادَ بِهِ إخلاصُ وصِدقُ وإيمانُ المرجع الديني الكبير سماحة آية الله العظمى السيد محمَّد سعيد الحكيم (دام ظِلُّه) على سؤالٍ طرحه شخصٌ اسمه (عبد الرضا البحراني) حول الأصولية والأخبارية[3]، وقد كان الجوابُ كحضنٍ دافئٍ يتَّسِعُ لكلِّ من قال (أشهدُ أنَّ عليًا ولي الله)، فقد أظهر فيه سماحتُه ضعفَ ما يُرَوَّج له من عمق الخلاف بين المنهجين، وبَانَ بوضوحٍ تَمَّ بشيءٍ مِنَ التحقيق الموضوعي التقاءُ الأخباريين والأصوليين في النتائج على الصعيدين العقدي والفقهي، وليست الخلافات الواقعة إلَّا كما هي طبيعية بين نفس الأصوليين وبين نفس الأخباريين[4].

“فَالأولَى والأليَقُ بِذَوي الإيمانِ، والأحرَى والأنْسَبُ في هذا الشأن، هو أن يُقَال: إنَّ عَمَلَ عُلمَاءِ الفرقة المُحِقَّةِ والشريعة الحَقَّةِ أيدهم الله تعالى بالنصر والتمكين ورَفَعَ درجاتهم في أعلى عليين سَلَفًا وخَلَفًا، إنَّما هو على مذهب أئمتهم (صلوات الله عليهم) وطريقهم الذي أوضحوه لديهم، فإنَّ جَلَالَةَ شَأنِهم وسطُوعَ بُرهانِهم وورعهم وتقواهم المشهور، بل المتواتر على مَرِّ الأيام والدهور، يمنعهم من الخروج عن تلك الجادَّة القويمة والطريقة المستقيمة، ولكِنْ رُبَّمَا حَادَ بعضُهم، أخبَاريًا كانَ أو مُجْتَهِدًا، عن الطريقِ غَفْلَةً أو تَوهُمًا، أو لِقُصُورِ اطِّلَاعٍ أو قُصُورِ فَهْمٍ، أو نحو ذلك في بعض المسائل، فهو لا يُوجِبُ تَشْنِيعًا ولا قَدْحًا، وجَمِيعُ تِلك المسائل التي جعلوها مَنَاطَ الفَرْقِ مِنْ هذا القبيلِ كما لا يخفى على من خاضَ بِحَارِ التحصيل، فإنَّا نَرَى كُلًّا مِنَ المُجْتَهدينَ والأخْبَاريينَ يَخْتَلِفُونَ في آحَادِ المسَائِلِ، بل رُبَّما خَالفَ أحَدُهم نَفْسَهُ، مع أنَّه لا يُوجِبُ تَشْنِيعًا ولا قَدْحًا”[5].

سَمعتُ من بعض الأكابر أنَّ مساحة الاتِّفاق بين الشيعة وغيرهم من المذاهب الإسلامية يتجاوز الثامنين بالمئة، مُبَرِّرًا فكرة العمل على مشروع التقارب بين المذاهب الإسلامية، فأقول: إذا كان الأمر كذلك مع غيرنا، فهو فيما بيننا مُوجِبٌ لنفي أصل ادِّعاء خلافٍ خارج الحدود الطبيعية، وكذا هو موجِبٌ للقطع بشياطنية كلِّ ادِّعاء يسعى لإثبات الخلاف خارج الحدود الطبيعية.

إنَّه وبالرغم من تصريح المُحقِّق البحراني (طاب رمسه)، وهو من أقطاب الأخباريين، بطبيعية الخلاف بين الأخباري والمجتهد، وعلى وفقه جاءت إفاداتُ أحد أكابر المجتهدين، وهو السيد محمَّد سعيد الحكيم (دام ظلُّه)، كما أشرنا قبل قليل، إلَّا أنَّ هناك من يُصِرُّ على تعميق التصنيف بما يجعل الأخباري في جبهة مقابلة لجبهة الأصولي، مع التأكيد دائمًا على استحالة التقائهما!

  • مقدِّمة:

يعتقدُ البعضُ أنَّ من يقول بقطعية صدور الأحاديث المروية في أصولنا الحديثية أخباريٌ، ومن لا يقول بذلك ويذهب إلى التنويع الرباعي (صحيح وحسن وموثق وضعيف) أصولي، وهذا اعتقادٌ خاطئ!

ويعتقد آخرون بأنَّ الفرق بين الأصولي والأخباري إنَّما هو عِلمُ أصول الفقه الذي يُؤمِنُ به الأصولي، وليس كذلك الأخباري، وهذا أيضًا اعتقادٌ خاطئ!

فيما يذهبُ فريقٌ إلى تشخيص الاختلاف في قول الأصولي بالأدلة الأربعة (القرآن الكريم والسنة المطهرة والعقل والإجماع)، بينما يقتصر الأخباري على الأولين دون الأخيرين. وهذا خطأ مثل سابقيه.

أمَّا الأخبار، فمن الأصوليين من يذهب إلى تصحيح الأصول الحديثية بأكثر وأشدِّ ممَّا عليه بعضُ الأخباريين.

وأمَّا علم أصول الفقه فهناك من غير الأخباريين من يراه من العلوم التي أُخضِعَت للعقل الفلسفي فأضرت بالفقه أكثر ممَّا نَفَعَتْ.

وكذا ناقش أصوليون في مدى صحَّة القول بتربيع الأدلة.

أعتقد برجوع أصل المشكلة إلى خطوة تدوين العلوم وحصرها في عناوين خاصة بما يُقِيمُ النظر على سِكَّة موضوع العلم، وهو الجامع لموضوعات مسائله، وقد كتبتُ سابقًا عن عدم صوابية إطلاق التدوين كلَّما تجمعت مسائِلُ تلتقي موضوعاتها في عنوان واحد[6].

يَعْمَلُ الأخْبَارِيُونَ بالكثير من القواعد الأصولية، ولكن لا بعنوان القاعدة الأصولية، وإنَّما لكونها من مدركات الكليات الواردة في الثقلين المقدَّسين، ولإبراز هذه الحقيقة المهمَّة صنَّف الشيخ العاملي الحرُّ محمَّد بن الحسن (نوَّر الله مرقده) كتابه العظيم الموسوم بـ(الفصول المهمَّة في أصول الأئمة).

ربَّما لا أكون مجانبًا للصواب لو أرجعتُ موقف الأخباريين من علم أصول الفقه إلى حذرهم وخشيتهم من مشابهة أهل الخلاف والتأثر بهم، وكذا تخوفهم من تجاوز ما له مدركٌ في الثقلين المقدَّسين اغترارًا بالعقل ورونق جهده، خصوصًا بعد ما أحاطوا به من تحذيرات الأئمة الأطهار (عليهم السلام)، كما ما عن الإمام علي بن الحسين (عليهما السلام)، إذ قال:

“إنَّ دِينَ اللهِ عزَّ وجَلَّ لا يُصَابُ بالعقُول الناقصة والآرَاءِ البَاطِلَة والمقائيس الفاسدة، ولا يُصَابُ إلَّا بالتسليم، فَمَنْ سَلَّمَ لنا سَلِمَ، ومن اقْتَدَى بِنَا هَدى، ومن كان يَعْمَلُ بالقياس والرأي هَلَكَ، ومن وجد في نفسه شيئًا مِمَّا نَقُولُه أو نقضي به حَرَجًا كَفَرَ بالذي أنْزَلَ السَبْعَ المثَانِي والقرآنَ العظيمِ وهو لا يعلم!”[7].

والحال أنَّ الأصوليين ليسوا من هذه الطائفة التي يبينُ المعصوم (عليه السلام) حالها، بل الحق أنَّهم على درجات عالية من الورع والتقوى والاحتياط في دين الله، كما هو حال الأخباريين.

ومن المهم الالتفات جيِّدًا إلى أنَّ فقهاء الأخباريين يعملون بالكثير من المسائل التي جمعها علماء مدونين بها علم خاص أسموه بعلم أصول الفقه.

  • التفاتة عارضة:

لا بد للوعي من الانتباه إلى أنَّ (العلوم) ليست تدوينات اختراعية جيء بها من عوالم أخرى غير عالم الدنيا!

(العلم) عملٌ تدويني تحكمه غاية محدَّدة تقود مدون العلم لجمع المسائل المُحقِّقة لها، وهي مسائل موجودة في الواقع، وما يحصل بعد التدوين هو إلزام الباحث بحدود العلم، فالتدوين يفرض حالة من الضبط في ممارسة النظر والبحث.

أقول: قد يكون هذا الضبط، بل هو كذلك، ضارًا في بعض الموارد كما هو الحال في علم الفلسفة، وهو ما حاولتُ تبيينَه في المقالة المشار إليه أعلاه.

فيما يخص الأخباريين والأصوليين، فقد خَلَقَ الشيطانُ الرَجِيمُ مشكلةً منشأها الصياغة والمصطلح، وعقَّدها بالتشويش على فهم كلِّ فريق للآخر، ومن هنا، كلَّما قال الأصوليُ (عقلٌ) نَفَرَ عنه الأخباريُ، وكلَّما وقف الأخباري على الحديث ولم يتجاوز مدلوله القطعي اتَّهمه أصوليٌ بـ(الحشو).. وهكذا توالدت وتتوالد التعقيدات بنفخٍ وتهويل من الشيطان الرجيم (لعنه الله).

  • شاهِدُ المقالة:

ذكر بعض علمائنا الأفذاذ (حفظهم الله من كلِّ سوء) إنكار الأخباريين لحجية ظواهر الكتاب العزيز، وقد أبدوا عظيم انزعاجهم من ذلك؛ لمَّا رأوا أنَّ من لوازم إنكار الأخباريين لحجية ظواهر القرآن الكريم التقليل من إعجازه؛ إذ كيف يكون معجزًا ولا يُحتَجُّ بظواهره ومفاهيمه والحال أنَّ الإعجاز قائمٌ على الملازمة بين اللفظ والمعنى؟!

  • هنا أقول:

لا يُنكِرُ الأخباريون حجية ظواهر الكتاب، وإنَّما قيل عنهم ذلك بسبب ضعف لغة التفاهم بين الفريقين لما بيناه قبل قليل.

توضيح المسألة:

لثبوت الحجية للكلام ثلاثة احتمالات:

الأوَّل: ثبوتها للكلام بما هو كلامٌ كاشِفٌ عن معانٍ خاصَّة وضِعَ لها.

الثاني: بما هو مقولٌ لقاصِدٍ مريدٍ.

الثالث: بما هو مفهوم من المتلقي.

أمَّا الأوَّل فلا يتجاوز الدلالة التصورية، ولا يفيد أكثر من ذلك. وأمَّا الثاني فلازمه وجود المتكلم لغرض سؤاله بما يزيل أيَّ اشتباهٍ أو التباس. وأمَّا الثالث ففيه اختلاف الأفهام لاختلاف المشارب والأمزجة وما نحو ذلك.

لذا ذهب أصحابنا من الأصوليين لضبط الأفهام على مرادات المتكلم بضبط موازين الأصول اللفظية التي يراعيها الحكيم في مقام البيان، وقد قطعوا أشواطًا مهمَّة تنقيحًا وضبطًا في مباحث الألفاظ، ولكنَّ أحدًا منهم لم ينتهِ إلى القول بأكثر من الظهور الذي ثبتت له الحجية من الشارع بثبوت السيرة وعدم الردع، وإلَّا قام الإنسداد الأكبر وتَعَطَّلَ الدين!

لم يَحِدْ أصحابُنَا مِنَ الأخباريين عن هذا النظر الشريف، إلَّا أنَّهم منعوا عن أنفسهم اعتماد ما اصطُلِحَ عليه بالظهور، وذهبوا إلى تَوَسُّطِ المعصومين (عليهم السلام) في الكشف عنه.

قال الله تعالى في محكم كتابه العزيز: (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)[8].

أفاد المًحقِّق السبحاني (دام ظلُّه) من هذه الآية الكريمة أنَّه جلَّ في علاه جعل “النبيَّ مُبينًا للقرآن وأمر الناس بالتفكر فيه، فللرسول سهم في إفهام القرآن كما أنَّ لتفكُّر الناس وإمعان النظر فيه سهمًا آخر، وبهذين الجناحين يُحلِّقُ الإنسانُ في سماء معارفه، ويستفيد من حِكَمِهِ وقوانينه”[9]، وكان ذلك في مقام استدلاله (سلَّمه الله من كُلِّ سوء) على جواز التفكر والاحتجاج بظواهر القرآن الكريم.

من المهم الانتباه إلى أنَّ الأخباريين يقولون بما يقول به الأصوليون من وجوب التفكر والتدبر في آيات كتاب الله تعالى، إلَّا أنَّهم يذهبون إلى توسيط الحديث الشريف الذي يُفيدون منه الأصول والكليات العامَّة فينطلقون منها في التطبيق واستيعاب المصاديق الخارجية، وهم في ذلك يستندون إلى نفس الآية 44 من سورة النحل، فالذكر أُنزِل إلى النبي الأكرم (صلَّى الله عليه وآله)، وأُوكِلَتْ إليه مهمَّة تبيينه للناس، والغاية من ذلك (لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُون)، أي: يتفكرون في آيات الكتاب العزيز من خلال بيانات المعصوم (عليه السلام). ولذلك ألَّف العلَّامة البحراني السيد هاشم التوبلي (علا برهانه) مُصنَّفه العظيم الموسوم بـ(البرهان في تفسير القرآن).

لا يقول الأصوليون بالاستقلال عن قول المعصوم (عليه السلام)، بل هم يرفضون الاستبداد في فهم القرآن الكريم، بل يُقرُّون وجوب مراجعة العقل وسائر الآيات القرآنية وأحاديث أهل البيت (عليهم السلام) كطريق حصري لفهم آيات الذكر الحكيم.

عندما يُصرِّحُ الأصوليون بحجية العقل، يظنُّ بعضٌ بمخالفتهم لأهل البيت (عليهم السلام) في نهيهم عن قياسات العقول، وهذا اشتباه عظيم، فالأصولي يُرجِعُ ويحتج بالعقل الكلي النوعي، لا العقل الشخصي، وهذا هو عين ما عليه الأخباريون، وكلُّ عاقل حكيم، بل وهو ما عليه قيام قوانين كلِّ هذا الوجود. فتأمَّل جيِّدًا.

نعم، وقعت بعضُ الخلافات في مسارات الإرجاع للعقل الكلي، وهذا ما سلم منه الأخباريون إلى حدٍّ كبير، وذلك بالإرجاع إلى الحديث الشريف، إلَّا أنَّ هذا لم يقع إلَّا في موارد نادرة جدًّا، بدلالة انحسار مساحات الخلاف في النتائج بين الأخباريين والأصوليين.

فأين الخلاف الذي يستدعي التصادم فالقطيعة؟ ليس في ما بين الأصوليين والأخباريين أكثر من نفخٍ الشياطين بعد أن توعد إبليسُ في ما يحكي عنه الكتاب العزيز (لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ)[10]، ولا شكَّ في أنَّ الشيعة الأبرار، وعلماءهم الأخيار، أكبر من تفاهات الشياطين ومخططاتهم، فهم لن يقبلوا يومًا أن يكونوا حطبَ نَارٍ للكُفَّارِ الذين يتربَّصُون بالإيمان وأهله الدوائر.

قد أُشيرُ هنا، من بعيد، إلى ما فعلتْهُ السياسةُ والموَاقِفُ السِيَاسِيةُ مِنْ نثرٍ لبُذُورِ الفِتَنِ وسَقيهَا وتقوية أعوادها تحت مختلف الدعاوى والعناوين البرَّاقة، خصوصًا بعد منعطف الفحل العيلم الميرزا النائيني (قُدِّس سرُّه) في قضية الحركة المشروطة (الحكومة الدستورية) وما استند إليه من تأسيسات فقهية. ومن الطبيعة الغالبة في العمل السياسي مبدأ: إمَّا أن تكون معي، وإلَّا فأنت ضدِّي!

في مثل هذه التحولات الكبرى يبرز التخالف في فهم مبدأ (التقية) ومسألة حكم القيام في زمن الغيبة، وهذه من المبادئ والمسائل الخطيرة والحسَّاسة في الفِكر الشيعي، ومن الطبيعي أن تكون لها مترتبات وتبعات من السهل حرف الأمَّة من خلالها إلى خارج جادَّة الخطاب وضوابط التفاهمات الوازنة.

إنَّه وبالرغم من ذهاب جمع من الأصوليين إلى التحفظ، إن لم نقل بأكثر من ذلك، على فكرة القيام في زمن الغيبة، إلَّا أنَّ هناك من ميَّز خصوص الأخباريين بالمنع!

من مثل هذه المساحات يتوسَّع الشياطين في انطلاقاتهم مفسدين، فيثيرون الخلافات الطبيعية مظهرينها وكأنَّها قواطع أشدُّ ممَّا بين المسلمين واليهود!

  • مِن يواقيت أهل بيت العصمة (عليهم السلام)[11]:

 

  • قال النبي (صلَّى الله عليه وآله): “ثلاثٌ من لقيَ اللهَ عَزَّ وجلَّ بِهِنَّ دَخَلَ الجنَّةَ من أيِّ بابٍ شَاء: مَنْ حَسَّنَ خُلُقَهُ، وخَشيَ اللهَ في المغيب والمحضر، وتَرَكَ المِرَاءَ وإنْ كان مُحِقًّا”.

 

  • عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: إيَّاكم والمُشَارَّة؛ فإنَّها تُورِثُ المَعَرَّةَ وتُظهِرُ المعْوَرَةَ”.

 

  • عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: “إيَّاكم والخصومة، فإنَّها تُشْغِلُ القلبَ، وتُورِثُ النِفَاقَ، وتُكْسِبُ الضَغَائِنَ”.

 

  • قال أمير المؤمنين (عليه السلام) في كلام له: “ضَعْ أمْرَ أخيك على أحسنه حَتَّى يأتيك ما يغلبك منه، ولا تَظُنَّنَ بكلمةٍ خَرَجَتْ من أخيك سوءًا وأنت تجد لها في الخير محملًا”.

 

  • قال أبو عبد الله (عليه السلام): “من اتَّهَمَ أخاه في دينه فلا حُرْمَةَ بينهما، ومن عامل أخاه بمثل ما عامل به الناس فهو برئٌ ممَّا ينتحِلُ”.

 

  • قال أمير المؤمنين (عليه السلام): “إيَّاكم والمراء والخصومة؛ فإنَّهما يُمْرِضَان القلوب على الإخوان، وينبُتُ عليهما النِفَاقُ”.

 

فهل بعد هذه اليواقيت بين شيعة الزهراء (عليها السلام) غير التآخي والتصافي والحمل على أنقى وأطهر الوجوه؟

واللهِ (بكسر الهاء)، لو أنَّنا نلتقي فيما بيننا بقلوب لينة ودون أحكام مسبقة، لما بقت في سوحنا فتنةٌ إلا ومُحِقَتْ، ولا خصومة إلَّا وبان عظيم سُخفِها؛ وإنَّما تتهيج النزاعات بسبب التباعد وضعف الحذر من نفخ الشياطين وما به توسوس.

اللهم نسألك بمحمَّد وآل محمَّد، أن تصلِّيَ على محمَّد وآل محمَّد، وأن تُحسِن خواتيمنا، وتُجمِّل عواقبنا.

 

السيد محمَّد بن السيد علي العلوي

22 ربيع الأوَّل 1440 للهجرة

البحرين المحروسة

………………………………………………………..

[1] – معارج اليقين في أصول الدين – الشيخ محمد السبزواري – ص 46

[2] – أعلام الدين في صفات المؤمنين – الديلمي – ص 145

[3] – الجواب في كتاب بعنوان: الأصولية والأخبارية بين الأسماء والواقع

[4] – أعملُ قريبًا إن شاء الله تعالى على تحقيق مقارن بين الرسالة الصلاتية للشيخ يوسف البحراني وبين ما يناظرها في منهاج السيد الخوئي (علا برهانهما)

[5] – الحدائق الناضرة – المحقق البحراني – ج 1 – ص 169 – 170

[6] – مقال بعنوان: منعطف تدوين الفلسفة كعلم: http://main.alghadeer-voice.com/archives/4368

[7] – كمال الدين وتمام النعمة – الشيخ الصدوق – ص 324

[8] – الآية 44 من سورة النحل

[9]– الموجز في أصول الفقه، العلَّامة المحقِّق جعفر السبحاني، ص157

[10] – الآيتان 16 و 17 من سورة الأعراف

[11] – من أبواب كتاب الإيمان والكفر من الكافي للشيخ الكليني، ج2

مقالات مشابهة

اترك تعليق


The reCAPTCHA verification period has expired. Please reload the page.