أخبارُ الأطهار في الصلاة على النبي المختار ll بقلم سماحة الشيخ مهدي الجمري

بواسطة Admin
1 تعليق

أخبارُ الأطهار في الصلاة على النبي المختار

[نظرٌ في بعض ما ورد عن أئمتنا (ع) في الصلاة على النبي وآله]

توطئة

إنّ الأحاديث الواردة في الصلاة على النبي وآله كثيرةٌ نوعًا وعددًا، وفيها من الفوائد والمعاني الجليلة ما لا يسعه هذا القلم فهمًا واستنباطًا، والمتأمّل في أحاديث الباب والمتتبع لها في كتب الأصحاب يرى عناوين عامّة وخاصة تحتاجُ لعنايةِ فقيهٍ أريب يُحرِّرُ معانيها ويجمعُ بين مداليلها ويؤلِّف بين مختلفها.

فقد بالغت الأحاديث في الحثِّ على الصلاة على النبي وآله أشدَّ المبالغة، فاعتنت بكيفيتها، ومواردها، وبينت فضلها وحكمها، وأثرها في الدنيا، وأجرها في الآخرة.

فالصلاة على النبي وآله مطلوبةٌ في كل المواطن، وكلما ذُكِر، وعند ختام الكلام فمَنْ ختم بها كلامه وجبت له الجنة، وتَرْكها عندما يذكره ذاكرٌ أمرٌ مذمومٌ شرعًا من الذاكر والمستمع، بل منْ تركها راغبًا عنها وعن فضلها مأثوم، وغير الراغب عنها إنْ لم يصلِّ عليهم قد خُطِأ به طريق الجنة.

والتارك للصلاة على النبي وآله في الصلاة المفروضة أو المندوبة لا تقبل صلاته.

وقد نصّت الأحاديث على كيفيتها، وأقلُّها أن يضمَّ إلى الصلاة على النبي الصلاة على آله أو أهل بيته، فمن بترها مأثومٌ مرتكب للحرام قد ظلم آل محمدٍ حقهم، ولا يجدُ ريح الجنة، وريحها يوجد من مسير خمسمائة عام.

وقد روي عن الإمام الصادق (ع) أنه قال: « سمع أبي رجلاً متعلقًا بالبيت وهو يقول: اللهمّ صلِّ على محمد، فقال أبي (ع): لا تبترها، لا تظلمنا حقنا، قل: صلِّ على محمد وأهل بيته».

وهذه أقلُّ الكيفيات وقد نصت الأحاديث على كيفيات أخر.

وهي تصلُ للنبي (ص) من قريبٍ وبعيد حيًا وميتًا، وقد قال الرسول (ص): «أنا عند الميزان يوم القيامة، فمن ثقلت سيئاته على حسناته جئت بالصلاة عليَّ حتى أثقل بها حسناته» وقد ورد في الأخبار أنّها أثقل ما يكون في الميزان.

وقد كان نبي الله إبراهيم يكثر الصلاة على النبي وآله، ففي الخبر عن الإمام علي بن محمد العسكري (ع) قال: «إنّما اتخذ الله عز وجلّ إبراهيم خليلاً لكثرة صلاته على محمدٍ وأهل بيته صلوات الله عليهم».

ومن غير الصلاة على النبي وآله لا يرتفع الدعاء إلى السماء بل يحجب، فإذا ابتدأ بها لم يحجب دعاؤه عنها ورفعِ إليها، ولو ابتدأ بها وختم استجاب الله له دعاءه وقضى حاجته، فإنّ الله أكرم من أن يقبلَ الطرفين ويدع الوسط.

وعن عبد السلام بن نُعيم قال: «قلتُ لأبي عبدالله (ع): إنّي دخلت البيت – أي البيت الحرام- ولم يحضرني شيءٌ من الدعاء إلا الصلاة على محمد وآل محمد، فقال: أمَا إنّه لم يخرج أحدٌ بأفضل مما خرجت به».

وقال أبو عبدالله (ع): إنّ رجلاً أتى رسول الله (ص) فقال: « يا رسول الله إني جعلت ثلث صلواتي لك، فقال له: خيرًا، فقال: يا رسول الله إني جعلت نصف صلواتي لك، فقال له: ذاك أفضل، فقال: إني جعلت كل صلواتي لك، فقال: إذًا يكفيك الله عزّ وجل ما أهمّك من أمر دنياك وآخرتك.

فقال له رجلٌ: أصلحك الله كيف يجعل صلاته له؟

فقال أبو عبدالله (ع): لا يسأل الله عز وجل شيئًا إلا بدأ بالصلاة على محمدٍ وآله».

وقد جاء في الأخبار عن الرسول (ص) أنه قال: «البخيلُ كل البخيل الذي إذا ذكرت عندهُ لم يصلِّ علي».

وقد ورد في الأحاديث أنّها تهدم الذنوب هدمًا وأمحق للخطايا من الماء للنار وتقضي حوائج الدنيا والآخرة، وغير ذلك من المضامين الشريفة العالية.

بعد هذه التوطئة بالإلفات لجملةٍ من تلك الأخبار نقول: قد وسعنا أنْ نقف على حديثين جليلين أحدهما في أثرها والآخر في أجرها، وقدّمنا لذلك بمقدمة في معناها.

أولاً: معنى (الصلاة) لغةً، وتفسير الصلاة على النبي وآله:

تُطلق الصلاة على عدةِ معانٍ في اللغة على ما بين أهلها:

الأول: تطلق ويراد منها الدعاء.

ومن شواهده قوله تعالى: (هو الذي يصلِّي عليكم وملائكته) صلاة الملائكة هي دعاؤهم كما عن أبي العبّاس.

قوله (ص) -على ما نقل أهل اللغة-: «إذا دُعي أحدكم إلى طعامٍ فليُجب، فإنْ كان مفطرًا فليطعم، وإنْ كان صائمًا، فليصلِّ» يعني فليدعُ لأرباب الطعام بالبركة والخير.

الثاني: تطلق ويراد منها الاستغفار.

في حديث سودة أنّها قالت: «يا رسول الله، إذا متنا صلّى لنا عثمان بن مظعون حتى تأتينا، فقال: إنّ الموت أشد مما تقدرين».

قال شمر: قولها صلّى لنا أي استغفر لنا عند ربه، وكان عثمان مات حين قالت سودة ذلك.

الثالث: تطلق ويراد منها الرحمة.

شاهده قوله عز وجل: (إنّ الله وملائكته يصلون على النبي) أي يترحمون، والفرق بين صلاة الله وصلاة الملائكة واضحٌ، فالأول فعلٌ منه والثاني دعاءٌ منهم.

وحديث ابن أبي أوفى أنّه قال: «أعطاني أبي صدقة ماله فأتيت بها رسول الله (ص)، فقال: اللهم صلِّ على آل أبي أوفى».

قال الأزهري: هذه الصلاة عندي الرحمة.

قال الراعي:

صلّى على عزّةَ الرحمنُ وابنتِها
ليلى، وصلَّى على جاراتها الأُخر

الرابع: تطلق ويراد منها الثناء.

شاهده قوله تعالى: (أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة) فمعنى الصلوات ههنا الثناء عليهم من الله تعالى، ويظهر ذلك من العطف الدالِّ على المغايرة بين الرحمة والصلوات.

الخامس: تطلق ويراد منها العبادة المعروفة من الركوع والسجود وغير ذلك.

شاهده قول الرسول (ص): «لا صلاة لجارِ المسجد إلا في المسجد».  [راجع لسان العرب (صلا) ج7 ص397]

وقد حاول ابن فارس الوصول إلى الجامع بين المعاني التي ذكرناها فقال: “(صلى) الصاد واللام والحرف المعتل أصلان: أحدهما: النار وما أشبهها من الحمّى، والآخر جنسٌ من العبادة”، ولا يخفى أنّ الدعاء والاستغفار والعبادة المعروفة تعود للمعنى الذي ذكره. نعم، نجدُ التجوّز بناءً على الجامع المذكور في إطلاق الصلاة وإرادة الرحمة منها، كما في قولنا: (صلى الله على رسوله) بمعنى رحمه، لأنّ الرحمة ليست من جنس العبادة، وإنْ كان طلبها من الله سبحانه من نفس الجنس، وقد ورد في اللغة هذا الاستعمال، فعن الرسول (ص): (اللهمّ صلِّ على آل أبي أوفى) يريدُ بذلك الرحمة.

وقيل أنّ الأصل في معنى الصلاة هو التعظيم، كما نقل عن ابن الأثير.

ورأى النحوي المعروف ابن هشام أنّ الصلاة بمعنى واحد وهو العطف، ثمّ العطف بالنسبة إلى الله تعالى الرحمة، وإلى الملائكة الاستغفار، وإلى الآدميين دعاء بعضهم لبعض.

وعلى كل حال فإنه يغنينا عن التحقيق في المعنى الموضوع له في المقام ما حققناه فيما مرّ من إطلاقات اللفظ واستعمالاته، والشواهد التي ذكرناها على ذلك الواردة في عدة سياقات، فبذلك نحرز المرتكز في أذهان أهل اللغة من المعاني التي يدلُّ عليها هذا اللفظ، على وجهٍ يتضح لنا مدار هذا اللفظ في الدلالة فيعطينا تمييزًا للمعاني الأجنبية عنه، وما يغنينا أيضًا عن التحقيق هو أنّه قد تعرّض أهل اللغة لمعنى الصلاة على النبي وآله من الله والملائكة والناس، وقد وافقوا بكلامهم ما جاء في الخبر، ففي معاني الأخبار بسنده عن ابن أبي حمزة عن أبيه قال: «سألت أبا عبدالله (ع) عن قول الله عز وجل (إنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ۚ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)؟ فقال: الصلاة من الله عز وجل الرحمة، ومن الملائكة تزكية، ومن الناس دعاء، … إلخ الخبر»

وبناءً على هذا الخبر فإنّ الناس عندما يأتون بلفظ الصلاة على النبي وآله يدعون الله بأنْ يرحم محمدًا وآل محمد، فقولهم (اللهمّ صل على محمدٍ وآل محمد) هو دعاءٌ، وما ورد في الآية من أنّهم يصلون على النبي وآله يقصد به أنهم يدعون للنبي وآله بأن يصلي سبحانهُ عليهم، والصلاة من الله كما جاء في الحديث هي رحمته، وأمّا الصلاة من الملائكة فإنّها تزكيةٌ للنبي وآله.

ثانيا: الوقوف على دلالة الحديثين:

الحديث الأول:

روى الكليني بسنده عن عبدالله بن سنان عن أبي عبدالله (ع) قال: قال رسول الله (ص): «الصلاةُ عليَّ وعلى أهل بيتي تُذهبُ النفاق».

ونفهم هذا الحديث الشريف في ضمن مقدمات:

المقدمة الأولى:

إنّ الصلاة على النبي وآله من النّاس هو دعاؤهم، وحقيقة الدعاء هي إظهارُ وإبراز الداني ما في نفسه من طلب إلى العالي وهو الله سبحانه، فقوام الدعاء على نسبة الدنو والعلو في الداعي والمدعو، ومن ثمّ إن الطلب ينشأُ عن داعٍ في النفس قد تعلّق بأمرٍ ما، وفي موردنا هو (صلاة الله على نبيه وآله)، والمتعلق للطلب يسمى بالمطلوب، وتتقوم حقيقة أيّ مطلوبٍ بالنسبة إلى أيّ طالبٍ بقصد ذاك الطالب لمطلوبه، وإرادة وقوعه من غيره، ويتمّ كشفُ هذا الثبوت باللفظ، فاللفظ الصادر من الداعي هو عبارةٌ عن كاشفٍ لما حواهُ قلبه، فاللفظ إثباتٌ لأمرٍ ثبوتيّ، واللفظ المستعمل في موردنا وهو (اللهمّ صلِّ على محمدٍ وآل محمد) إنّما يقع امتثالاً للأمر الإلهي بالصلاة عليهم إذا جيء به على الوجه الذي ذكرناه.

وبعبارةٍ أخرى: إن الصلاة على النبي وآله لا تتحقق بمجرد تلفظها، بل لابد من وقوع القصد لتلك الألفاظ بما لها من معنىً، فقد ثبت في محله أنّ حقيقة الاستعمال هو إفناء اللفظ في المعنى أو إيجاد المعنى باللفظ، وسواءً قلنا أن حقيقة الاستعمال ما ذكرناه أو غير ذلك، فإنّه مما هو متفقٌ عليه هو حاجة أي استعمالٍ لأي لفظٍ إلى لحاظ المستعمل للمعنى وقصده له ووقوع إرادته عليه ومن ثم إلقاء ذلك اللفظ للسامع.

نعم، لمّا كان لفظ الصلاة على النبي وآله معهودًا في الأذهان وكذلك أمثاله من الأذكار قد يقعُ الاستعمال لها وبالتالي امتثال الأوامر الواردة في الآيات والروايات بوجهٍ غير الذي ذكرناه، فإنّ ما ذكرناه ناظرٌ إلى استعمال الألفاظ من جهة مبادئها الأولى، وتكوّن المقصد في النفس وإرادة بيانه، وما نحنُ فيه يختلف من جهة أنّ الشارع قد أمر بالتلفظ بصيغٍ معينة يقع قصد المكلف عليها مباشرةً، فيتلفظُ بها، ومحضُ تلفظهِ باللفظ من غير أن يعقد قلبه على معناه إنما هو تلفظٌ لا يرتبط بما يكشف عنه من معنى، فلا ثبوت له غير إرادة المتكلم التلفظ باللفظ إلا أن يكون اللفظ عند قصده موجبًا لحضور المعنى في نفس اللافظ، فينعقدُ قصده على المعنى، فيكونُ اللفظ كاشفًا للنفس لا كاشفًا عمّا في النفس، فقد ثبت في محله أنّ إحضار اللفظ هو إحضارٌ للمعنى، فكذلك هو جارٍ بالنسبة للافظ نفسه، فلا تختصّ القاعدة بمقام المحاورة.

وبالجملة: إنّ امتثال الأمر الإلهي بالصلاة على النبي وآله يكونُ إما بوقوع القصد على المعنى والتلفظ باللفظ، وإما بتلفظ اللفظ ووقوع القصد على ما يدلُّ عليه، والأولُ هو الحالة الطبيعية في كل استعمال، والثاني لعله يختصّ بالألفاظ المعهودة في الأذهان.

والنتيجة التي نتوصل لها من هذه المقدمة أنّ الصلاة التي تُذهب النفاق هي ما وقعت على الوجهين اللذين ذكرناهما، إلا أنْ يُقال أنّ الألفاظ من حاقِّها تقتضي ذلك عند جريانها على اللسان وخطورها في الذهن، ولذلك وجهٌ صحيحٌ يأتي بيانه.

المقدمة الثانية:

إنّ الصلاة على النبي وآله ترتبط بمبادئ تصورية وتصديقية تمثل ارتكازاتٍ في نفس المؤمن، وقد تكونُ هذه المبادئ مغفولةً للنفس، ولا يلزم من الغفلة عنها الجهل بها، بل هي معلومةٌ إجمالاً، وعند قصد المعنى أو قصد اللفظ الخاص بالصلاة على النبي وآله تقوى تلك الارتكازات في النفس، وقد يكون اللفظ الخاص لها موجبًا لحضورها تفصيلاً.

والارتكازات التي نذكرها أو ما يعبر عنها بالعلم الإجمالي هي مجموعة من الاعتقادات تحضر في قلب المؤمن بحسب معرفته بالرسول (ص) والأئمة الأطهار (ع) ومقاماتهم.

ومن هنا نقولُ: إن صيغة الصلاة عليهم تجملُ في نفسها مجموعةً من الأصول الاعتقادية وتربطها بقلب المؤمن.

ونرتبُ على ذلك أنّ لفظ الصلاة عليهم لو كرر مرارًا من غير توجهٍ لمعناه، فإنّ حاق اللفظ له أثرٌ في النفس بعد حضوره فيها، فإنّه في تكرار اللفظ ربطٌ للذهن والنفس به، ولأنّ اللفظ وإنْ لم يتوجه المتلفظ به إلى معناه إلا أنه قد وقع بإرادةٍ منه، ووقوعه منه لا ينفصلُ عن الباعث الإلهي نحوه، ولا ينفصل عما لذلك اللفظ من خصوصيةٍ لدى الشرع، ولا ينفصلُ عن الارتكازات النفسية المتعلقة به، ولو كانت مغفولةً، فلهُ نحوٌ من الأثر وإنْ كان أضعف مما ذكرنا سابقًا.

ونقولُ أيضًا: إنّ الصلاة عليهم تشتدُّ دلالةً وأثرًا في النفس بحسب موارد ذكرها وحسب أحوال النفس فيها، فتختلف عند ذكرِ فضيلةٍ من فضائلهم عمّا إذا كانت في الصلاة، أو في الدعاء، أو عند ذكره (ص) في الأذان، واختلافها إنما هو راجعٌ للارتباط بتلك المبادئ وتوجه القلب لها.

والأثر الذي نقصده هو الأثر الدلالي والقلبي.

ونتيجة هذه المقدمة أنّ الصلاة عليهم لمّا كانت ترتبط بالاعتقادات كانت مذهبةً للنفاق، لأنّها ضده الذي لا تجتمع معه، مضافًا إلى ما لها من أثرٍ غيبي.

المقدمة الثالثة:

إنّ الإنسان يتمكن من استحضار الصلاة على النبي وآله في ذهنه من غير تلفظ، وهذه الرتبة مطلوبة وممدوحة ولها أثرها في النفس، إلا أنّ عالَمها عالمُ الذهن وأقصى رتبه التفكّر فيها وله فضله بلا شك، لكنْ لا يعدُّ هذا الاستحضار دعاءً، لأنّ حقيقة الدعاء تتحقق بالإيجاد الخارجي أو إبراز ما في النفس، فمن هنا يكون هذا الاستحضار الذهني من المبادئ والرتب الأولى لصدور الفعل من الفاعل فما لم يرتقِ من تلك الرتبة إلى الرتب النفسية التي بعدها لا يصل إلى رتبة الوجود الخارجي، والرتبة التي تلي رتبة التصور هي رتبة الشوق والرغبة في ذلك الفعل، ثمّ إرادته والعزم عليه، وبعد مرور الفعل بتلك المراحل يوجد في الخارج ويخرج عن دائرة النفس ويُبرز باللسان ويتحقق الدعاء في الخارج بالفعل ويُنْطق به إلى الله سبحانه طلبًا للإجابة.

ومن ثمّ إنّ لهذا لإبراز والإظهار درجات بحسبِ المبادئ، وبحسب كيفية الإبراز، أمّا بحسب المبادئ فذاك راجعٌ إلى الدافع لفعل الفعل والنية وقدر خلوصها، وأمّا بحسب كيفية الإبراز، فرفع الصوت بالصلاة على النبي وآله له درجة تمتاز على عدم الرفع، فقد نصّ الحديث الشريف الوارد في الكافي مرسلاً عن ابن أبي عمير عن عبدالله بن سنان عن أبي عبدالله (ع) على هذه الخصوصية، قال: «قال رسول الله (ص): ارفعوا أصواتكم بالصلاة عليّ فإنّها تذهب بالنِّفاق»، فرفع الصوت بها له دخالةٌ في رفع النفاق من النفس، بل لعله أرفع درجةٌ من الإخفات بها، لتفاوت الدرجتين في الإظهار والإبراز، ولما يتوقف عليه رفع الصوت من مزيد عنايةٍ من النفس، هذا من جهة.

ومن جهة أخرى فإنّ الأحاديث الآمرة بالصلاة عمّت بإطلاقها الصلاة بأي كيفيةٍ كانت، فما ورد في مرسلة ابن أبي عمير من الأمر برفع الصوت على وجهِ يفيدُ ميزةً لهذه الحصة من المطلق زيادةً على الأمر الأول، فالمرسلة في وارد تأسيس حكمٍ جديد كما يظهر، فيكون رفع الصوت بالصلاة مستحبٌ في مستحب أو مستحب في واجب على الخلاف فيها، وارتكاب التقييد لا يخفى بُعده لاختلاف متعلق الأمر فيهما.

الحديث الثاني:

روى الكليني بسنده عن أبي بصير عن أبي عبدالله (ع) قال: «إذا ذُكِر النبي (ص) فأكثروا الصلاة عليه فإنّه من صلّى على النبي (صلى الله عليه وآله) صلاةً واحدة صلى الله عليه ألف صلاة في ألف صفٍ من الملائكة، ولم يبقَ شيءٌ مما خلقه الله إلا صلّى على العبد لصلاة الله عليه وصلاة ملائكته، فمنْ لم يرغب في هذا فهو جاهلٌ مغرور قد برئ الله منه ورسوله وأهل بيته».

ونبينه في مقدمات:

المقدمة الأولى:

يُستفادُ من الحديث فضل الصلاة الواحدة على النبي وآله، وفي قبال المصلِّي صلاةً واحدة الراغب عن الصلاة أصلاً، فالأول له من الفضل والأجر ما له، والثاني له من الذمِّ ما له، والمقابلة بينهما من حيث الأجر والعقاب كما ترى من تباينٍ ووقوعٍ في حدين متطرفين إيجابًا وسلبًا.

فبعدما بيّن الحديث أجر الصلاة وعظمتها عند الله سبحانه وأثرها، وبعد الترغيب بها، أفاد أنّ مَنْ رغب عن الصلاة بعد هذا الترغيب فيها فإنّ الله ورسوله وأهل بيته (ع) بريئون منه، فلا يُنسبُ إلى الدين والإيمان، فالرغبة عن الصلاة عليهم تساوقُ النفاق أو الكفر، وهنا نجدُ رابطًا بين هذا الحديث والحديث السابق، فالحديث السابق قد تناول إذهاب الصلاة للنفاق، وهذا الحديث تناول الرغبة عن الصلاة عليهم، ووجهُ الربط بينهما: أنّ قلب مَنْ لا يرغب في الصلاة عليهم بعيدٌ عن الاعتقاد بالأصول الدينية، لكون الصلاة عليهم معلولٌ ضروريٌّ يلزم من المرتكزات الاعتقادية التي يحملها قلب المؤمن، فهي وجهٌ من وجوه الإظهار للإيمان والاعتقاد والممارسة الفعليّة له، وإخراجٌ له من حالة الكمون والخفاء والباطن، ومَنْ لم ينطوِ قلبُهُ على الرغبة في الصلاة عليهم مطلقًا قد خلا قلبهُ من الإيمان، ولعله يصحُّ القياس على ذلك درجات الرغبة في الصلاة عليهم، فكلما ترقّى المؤمن في إيمانه كان ارتباطه بالصلاة عليهم أكثر، وكانت الصلاة عليهم مؤصِّلةً لإيمانه أكثر ونافيةً عنه كل نفاقٍ وشركٍ ورياء.

المقدمة الثانية:

إن الحديث قد دلّ على أنّ من صلى عليهم صلاةً واحدةً صلى الله عليه ألفًا في ألف صفٍّ من ملائكته، وقد ورد في حديثٍ آخر أنّ الله وملائكته يصلون مائة صلاة على منْ صلى عليهم عشرًا، فقد روى الكليني بسنده عن إسحاق بن فرُّوخ مولى آل طلحة قال: قال أبو عبدالله (ع): «يا إسحاق بن فرُّوخ من صلّى على محمدٍ وآل محمد عشرًا صلى الله عليه وملائكته مائة مرة، ومن صلى على محمد وآل محمد مائة مرة صلى الله عليه وملائكته ألفًا، أما تسمع قول الله عز وجل: (هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ۚ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا)» وهو منافٍ بظاهره للحديث، وقد جمع الشيخ المجلسي بينهما في مرآة العقول بوجهين:

الوجه الأول: أنّ الحديث الثاني في مقام بيان أقل مراتب الصلاة، والحديث الأول في مقام بيان الصلاة الكاملة، فلا ينافي ما مرّ من الألف.

الوجه الثاني: أن الأجر في الحديث الثاني بحسب الاستحقاق، وفي الحديث الأول بحسب التفضل من الله سبحانه، فالتفاوت بحسب مراتب الصلوات والمصلين.

والوجهُ الأول أظهر عنده، ويبدو في النظر وجهٌ آخر أظهر منهما وهو أنّ الصلاة الواحدة المقصودة هي الصلاة بداعي  الرغبة، والصلاة عشرًا من غير ذلك الداعي، فقد اتفق الحديثان على أنّ الله وملائكته يصلون على المصلي على النبي وآله، فالجزاء الوارد في كلا الحديثين يعود لجامعٍ واحد وهو صلاة الله وصلاة ملائكته، لكن التفصيل المتعلق بتلك الصلاة مختلفٌ فيهما، هذا من جهة.

ومن جهة أخرى فإنّه قد ورد الحديث الأول في سياق المقارنة بين المصلي عليهم والراغب عن الصلاة عليهم بما لها من أجر، والبعث للصلاة بذلك اللحاظ، فخصوصية الرغبة مأخوذةٌ في الصلاة عليهم، فالجزاء الذي سيق فيه البعث نحو الصلاة كان لأجل حصول الرغبة في النفس لذلك، فامتثال الصلاة بهذا الوجه موجبٌ لذلك الجزاء.

وقد ورد الحديث الثاني في سياق البعث للصلاة وبيان الأصل القرآني في الجزاء المخصوص بها، والمضاعفة المذكورة فيه هي المضاعفة المذكورة في القرآن أيضًا وهي أن الحسنة بعشر أمثالها، قال تعالى: (مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا) ، فالصلاة عشرًا يؤجر عنها بمائة صلاة من الله وملائكته، فالحديث في مقام بيان أصل الاستحقاق والجزاء، لا بيان تفصيلاته، والحديث الأول في مقام بيان حصةٍ خاصةٍ منه، وبهذا الوجه من الجمع يتفق ما ذكره المجلسي من الوجهين ويصدقان معًا.

المقدمة الثالثة:

إنّ ذيل الرواية وهو قوله (ع): « فمنْ لم يرغب في هذا فهو جاهلٌ مغرور قد برئ الله منه ورسوله وأهل بيته» قد يستظهر منه حرمة ترك الصلاة عليهم رغبةً عنها، وقد استفاد الشيخ يوسف البحراني بضمّ هذا الحديث إلى غيره وجوب الصلاة على النبي وآله كلما ذكره ذاكر وحيثما ذُكر، وقد دلّ على هذا الحكم عدة روايات على ما نقل وبيّن (رحمه الله):

منها: ما رواه الكليني عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ هَارُونَ عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (عَلَيهِ السَّلام) قَالَ: « إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ وَلَمْ يَذْكُرِ النَّبِيَّ وَآلَهُ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِه) فِي صَلاتِهِ يُسْلَكُ بِصَلاتِهِ غَيْرَ سَبِيلِ الْجَنَّةِ وَقَالَ رَسُولُ الله (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِه) مَنْ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيَّ دَخَلَ النَّارَ فَأَبْعَدَهُ الله وَقَالَ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِه) وَمَنْ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ فَنَسِيَ الصَّلاةَ عَلَيَّ خُطِئَ بِهِ طَرِيقَ الْجَنَّةِ».

ومنها: ما رواه الكليني عَنْ أَبِي بَصِيرٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (عَلَيهِ السَّلام) قَالَ: «قَالَ رَسُولُ الله (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِه) مَنْ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ فَنَسِيَ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيَّ خَطَأَ الله بِهِ طَرِيقَ الْجَنَّةِ».

وفسّر النسيان في الحديث فقال: “والمراد بالنسيان في الخبرين المتقدمين الترك كقوله تعالى: (ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزمًا) أي ترك، لا النسيان بالمعنى المعهود فإنه لا مؤاخذة عليه لحديث رفع القلم”.

ومنها: صحيحة زرارة عن أبي جعفر (ع) قال: «وصلِّ على النبي وآله كلما ذكرته أو ذكره ذاكر عندك».

وغير ذلك من الأحاديث.

وجه الدلالة:

أولاً: إنّ الأوامر الواردة في الأحاديث الشريفة ظاهرة في الوجوب، وقد استفاضت الأخبار بذلك.

ثانيًا: إنّ التهديدات التي تضمنتها الأخبار، من عدم قبول الأعمال بدونها، والتوعد بدخول النار وأمثال ذلك يدلّ على وجوبها.

وفي المسألة خلافٌ بين الفقهاء على ما نقل الشيخ يوسف، والمشهور بينهم هو استحبابها، وقد نقل العلامة في المنتهى والمحقق في المعتبر الإجماع عليه.

وقد صرّح بالوجوب صاحب كنز العرفان، ونقلهُ عن ابن بابويه، وذهب إليه الشيخ البهائي في مفتاح الفلاح، والمحدث الكاشاني في الوافي، والمحقق المازندراني، والمحدث الشيخ عبدالله بن صالح البحراني.

وقال الشيخ يوسف (رحمه الله) في نتيجة بحثه: “وبالجملة فإنّ القول بالوجوب في المقام مما لا يعتريه غشاوة الإبهام لصحة جملة من هذه الأخبار بناءً على الاصطلاح الناقص العيار، ودلالة الجملة الأخرى مما ذكره، وقد عرفت استفاضة الأخبار من الخاصة والعامّة على ذلك فالإنكار بعد ذلك مكابرة صرفة”. [الحدائق الناضرة ج8 ص423 ].

الخاتمة

تمخض من المقدمات التي سقناها أمور وهي:

  1. إنّ الأذكار عمومًا ومنها الصلاة على النبي وآله يتحققُ امتثالها بوجوهٍ ثلاثة:

الوجه الأول: قصد الصيغة وحاقِّ اللفظ، وهو وإنْ لم يصدق عليه الاستعمال بالمعنى الذي مرّ الكلام عنه إلا أنّ له أثرًا على النفس.

الوجه الثاني: أن يستعمل اللفظ في معناه، بأن يقع القصد على المعنى أولاً ومن ثم صدور اللفظ.

الوجه الثالث: أن يقع القصد على اللفظ أولاً فيكون محضرًا للمعنى.

وبهذه الوجوه الثلاثة يتحقق امتثال الأمر ويتحقق رفع النفاق وتقوية الإيمان على ما مرّ تفصيله.

  1. إنّ صيغة الصلاة على النبي وآله لها مبادئ تصورية وتصديقية، وهي تجملُ كلّ تلك المبادئ، فعند استحضارها في النفس تكونُ مؤكدةً للعلم الإجمالي بتلك المبادئ، وقد توجبُ الحضور التفصيلي لها بحسب قدر المعرفة والتوجه، ومن هنا كانت مذهبةً النفاق ومقويةً للإيمان.
  2. إن الإبراز لما في النفس له درجات ومن درجاته رفع الصوت بالصلاة على النبي وآله، وللرفع أثرٌ أبلغ في النفس من عدم الرفع، كما أنّه مستحبٌ.
  3. إنّ الرغبة عن الصلاة على النبي وآله تساوقُ النفاق أو الكفر.
  4. إن الصلاة على النبي وآله صلاةً واحدة رغبةً فيها بألف صلاةٍ من الله في ألف صفٍ من الملائكة، والصلاة عليهم بغير ذلك القيد بعشر صلوات كذلك.
  5. أفتى بعض الفقهاء بوجوب الصلاة على النبي وآله، والمشهور هو استحباب ذلك، ويستظهر من الحديث حرمة الرغبة عن الصلاة على النبي وآله.

 

والحمدلله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمدٍ وآله الطاهرين.

 

الشيخ مهدي الجمري

23 ربيع الأوَّل 1440 للهجرة

مقالات مشابهة

1 تعليق

أحمد نصيف 8 أغسطس، 2020 - 2:40 ص

لقد أحسنت – شيخنا الفاضل – وأجدت، نفع الله بكم

رد

اترك تعليق


The reCAPTCHA verification period has expired. Please reload the page.