بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على خير خلقه محمد وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين
قال أمير المؤمنين عليٌّ (عليه السلام): “لأنسبنّ الإسلام نسبةً لم ينسبها أحدٌ قبلي. الإسلام هو التّسليم”.
ويقابل التَّسليم الشك، وهو عدم الخضوع للحق، والشك هنا بالذات قد يكون نقيضًا لليقين بالمعنى الأعم لا بالمعنى الأخص للشك، والمقصود به التردد.
للتسليم آثارٌ عظيمةٌ جدًّا، بل قد تكون هي الأساس والعمدة في جنبات كثيرة من حياة الإنسان.
كي أدخل فيما أنا بصدده، أقسم التَّسليم إلى تسليم عقلي وأخر نفسي.
قال تعالى: ﴿فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا﴾.
إن التَّسليم ركنٌ من أركان الإيمان، كما قال أمير المؤمنين عليه السلام (الإيمان له أربعةُ أركان: التّوكّل على الله، وتفويض الأمر إلى الله، والرّضا بقضاء الله، والتّسليم لأمر الله عزّ وجل).الكافي
التَّسليم العقلي:
التَّسليم ليس تعطيلاً للعقل، بل ما أن يتأمل الإنسان ببصره وبصيرته ويعمل عقله يجد الشريعة التي أرسل الله بها رسوله (صلَّى الله عليه وآله) متلبسة من أولها إلى آخرها بالحكمة والمصلحة والعدل والرحمة الإلهية، وكل ذي عقل حينما يتدبر فيها يراها محققة لمصلحة العباد في كل جنبات حياتهم أو دارئة لمفسدة تفسد البلاد والعباد، ولذا أقر العقلاء بهذا الركن، أي التَّسليم، وقالوا بوجوبه؛ حينما أقروا بحكمة الخالق وضرورة المُرْسَل لبيان مراد الشارع المقدس وأنه الأعلم بما يُصْلِح حال العباد والبلاد وينجيهم من مرديات الفساد والإفساد.
هذا التَّسليم ضرورة عقلية، وهي حاجة الإنسان للتَّسليم لله ولرسوله ولأولي الأمر الذين فرض الله تعالى طاعتهم، فقال (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأمرِ مِنكُم).
فالتَّسليم للشريعة هو ما يضمن حصول المصلحة والنجاة من المفسدة، والتَّسليم في حد ذاته مصلحة عظمى لا يراها إلا ذو لب وبصيرة وذلك لأن كل ما جاء به المعصوم هو مطابق ولاقع وحقيقة المصلحة تمامًا.
التَّسليم النفسي:
أما التَّسليم النفسي فهو ملكة نفسانية باطنية، أو قل قلبية، وهو ثمرة من ثمرات سلامة النفس وترويضها، وهو أمر في غاية الأهمية لعلم الله سبحانه وتعالى بأن عقل الإنسان يَقْصُر عن الإحاطة بجميع المصالح والمفاسد التي تعتري حياته الدنيوية، ولعلمه سبحانه أن الكثير من الناس يذهبون لتحكيم عقولهم بميزان المصلحة والمفسدة باعتبار الحياة الدنيا فقط، والغفلة والتغافل عن الحياة الأخرى، ولذلك تبقى مبادئ الأقيسة لديه غير منضبطة فتكون النتيجة مثلها.
إن الإنسان في مرحلة من مراحل حياته يريد الإستقلال بعقله فقط بل ويبدأ بتحكيم الآيات والروايات بعقله دائماً وأبداً، وهذا ما يجعله يقع في المحاذير الشرعية، بل قد تتسبب له في انحرافات عقائدية وفكرية ترديه في الضلال المبين (الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا).
قد يعتمد الإنسان على عقله الذي يكون تحت تأثير الهوى والشهوة والبيئة المحيطة فيبدأ بالتصدي للآيات والروايات ويقررها بعقله القاصر متجرداً عن العلم بأن هناك من هو أعلم منه في تحديد المصلحة والمفسدة بل قد يكون في تغييب بعضها وعدم فهمها بعقله القاصر من الأمور التي توجب المصلحة العامة والخاصة، وهذا لا يكون إلا في علم الله تعالى والراسخون في العلم، ولذلك بيَّن أهل البيت (عليه السلام) الأحكام الشرعية بما يطابق واقع المصلحة.
ولذا وجب علينا فيما لا يمكننا التَّسليم له عقلاً أن لا نتركة ونغلطه، بل يجب النظر فيه، فإن كان مما يحكم لهم بالتَّسليم عقلاً يسلَّم له مطلقاً. فمثال ذلك قد يقرر المعصوم قولاً أو فعلاً ما لا يستطع عقل الإنسان فهمه وفهم مصالحه أو مفاسده، فلا يجب أن نلغيه إذا ثبت بالطرق المعتبرة عند العقلاء بل يجب التَّسليم له نفسيًا وقبوله مطلقاً، وإن لم يتقبله عقله في بعض الأحيان فالله سبحانه وتعالى يريد منا أن نعبده كما يريد هو وكيفما يريد هو، لا بما يتقبله عقلنا فقط.
حينما نجمع التَّسليم بجنبتيه العقلية والنفسية ويكون تسليمنا مطلقًا للحق سبحانه من خلال ما يقرره المعصوم عليه السلام نصل لدرجات الكمال ونرتقي للسمو وتنقاد النفس لإرادة بارئها فتحظى بالسلام في الدنيا والأخرة من خلال التَّسليم.
والحمد لله رب العالمين
طلال عبد الحميد الجمري
10 صفر 1440 للهجرة