تنبيه: [1]
يُفِيدُ العلماءُ وأهلُ التخصُّصِ من البحث في سِيَرِ أصحاب الأئمة (عليهم السلام) والرواة عنهم، وعموم من عاصروهم، في تحديدات مهمَّة، مثل الوثاقة والتخصص، ومدى الاختصاص بالمعصوم (عليه السلام)، والكثير ممَّا يُحتاجُ إليه في مقامات البحث والنظر.
هذا أمر عِلمِيٌّ، أقصد بحث السِيَر بشكل عام- جرت عليه سيرةُ العُقلاءِ بلا خِلاف، بل ولا داعٍ لخِلافٍ ولا باعِثٍ عليه، إلَّا أنَّ مشكلةً خطيرةً شوَّشت عقلية البحث وأبعدت عن مراميه الطيبة.
إنَّها مُشكِلة (عدالة الصحابة) التي نُنكرُها على القوم، ويُنَظِّرُ بعضُنا على أساسها في بحوثه ورؤاه، ولبيانها أُقدِّم بأربع مسائل، يعقبُها تحديدٌ للمشكلة.
- مسألة العِصمَة:
ليست العِصمَة من الأمور الوضحة بالنسبة للإنسان، وإنْ كانت في ثقافة الانقياد قالبًا للقائد، يُعامِلُه أتباعُه ومريدوه على وفقه، فيبررون أخطاءه ويقلبونها حِكمَةً وبُعدَ نَظَرٍ، وكذا يحاسِبون رموز وقادة الآخرين على قانون العِصمة، فلا يقبلون منهم الخطأ ويعرِّضون بهم على أقلِّ زَلَّة، وبالرغم من هذا الارتكاز الثقافي، إلَّا أنَّ الإنسان لا يتقبل، ولا يملك الاستعداد للتصديق بوجود معصومٍ في الواقع الخارجي.
هذا من جهة الإنسان، وأمَّا من جهة الحِكمة الإلهية، فوجود المعصوم ضرورةٌ لا بلوغ للحجة دونها.
قال تعالى: (قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ)[2]، وعن سدير قال: قلتُ (لأبي عبد الله عليه السلام): جُعِلتُ فداك، ما أنتم؟
قال: “نَحنُ خُزَّانُ اللهِ على عِلمِ اللهِ، نَحنُ تَراجِمَةُ وَحي اللهِ، نَحنُ الحُجَّةُ البَالِغَةُ على مَنْ دُونِ السَمَاءِ وفَوقِ الأرْضِ”[3].
هو أمرٌ خطيرٌ عظيم، ولغايةِ استقرارِه في عقيدة الإنسانِ وثقافته السلوكية، استدعى التأسيسُ الأدبيُّ إليه عشرات الآلاف من الأنبياء والرسل والأوصياء، وفي الواقع أنَّ ذلك لم يكتمل إلَّا في عصور المتقدمين من علماء الطائِفة، بعد اكتماله عند خواصِّ أهل البيت (عليهم السلام).
“لمَّا مضى الرِضَا (عليه السلام)، وذلك في سنة اثنتين ومائتين، وسن أبي جعفرٍ (عليه السلام) ست سنين وشهور، واختلف الناسُ في جميع الأمصار، واجتمع الريَّانُ ابن الصلت، وصفوانُ بنُ يَحيى، ومُحمَّدُ بنُ حكيم، وعبدُ الرحمنِ بنُ الحجَّاج، ويُونسُ بنُ عبدِ الرحمنِ، وجماعةٌ من وجوه العِصَابَةِ في دار عبد الرحمن بن الحجَّاج، في بركة زلزل، يَبْكُونَ ويَتَوَجَّعُونَ من المصيبة، فقال لهم يونسُ: دَعُوا البُكَاءَ؛ مَن لِهَذا الأمر، يُفْتِي بالمسائل إلى أنْ يَكْبُرَ هذا الصَبِ؟ (يعني أبا جعفر عليه السلام)، وكان له ستُّ سنين وشهور. ثُمَّ قَالَ: أنا ومن مثلي!
فقام إليه الريَّانُ بنُ الصلت، فَوضَعَ يَدَهُ في حَلْقِهِ، ولم يزل يلطم وجهه ويضرب رأسه. ثُمَّ قال له: يا بن الفَاعِلَة، إنْ كانَ أمرٌ مِنَ اللهِ جلَّ وعَلا، فابن يومين مثل ابن مائة سنة، وإن لم يكن من عند الله فلو عَمَّرَ الواحِدُ من الناس خمسةَ آلافِ سَنَةٍ ما كان يأتي بمثل ما يأتي به السادة (عليهم السلام) أو ببعضه، أوَهَذا مِمَّا ينبغي أن ينظر فيه؟ وأقبلتْ العِصَابَةُ على يونس تعذله”[4].
قال النجاشي في يونس بن عبد الرحمن: ” يونس بن عبد الرحمان، مولى علي بن يقطين بن موسى،
مولى بني أسد، أبو محمَّد: كان وجهًا في أصحَابِنَا مُتَقَدِّمًا، عَظيمَ المنزِلَةِ”[5].
بالرغم من كون يونس بن عبد الرحمن وجهًا عظيمَ المنزلةِ، إلَّا أنَّه لم يعرف قدر الإمام الجواد (عليه السلام)، ولو كان على علم بمعنى العِصمة الواقعية، لما توقَّف عند مسألة السِن!
هذا ليس قدحًا في يونس، بل هو من الأمور الطبيعية جدًّا، وسوف يتضح ذلك قريبًا إن شاء الله تعالى.
كما وأنَّه ليس بخافٍ عليك ما واجهه الرسولُ الأكرمُ وأميرُ المؤمنينَ والإمَامَانِ الحسنُ والحسينُ (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين) من اعتراضات تَصَدَّرَ مشهدها أقربُ المُقَرَّبين منهم!
ينبغي الانتباه جيِّدًا إلى أنَّ مسألة العِصمة من المسائل المُعقدة التي لم تتبلور في فِكر الإنسان إلَّا من خلال مراحل متطاولة من التأسيسات والتدرج من جهة، والإرجاعات الحِكَمِية من جهة أخرى؛ فهي من المسائل المرتبطة ارتباطًا طوليًا ذاتيًا بجوهر التكوين وروح عقيدة التوحيد، ولذلك كانت من المراتب المتقدمة للإيمان. قال الله تعالى (قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ)[6].
- مسألة النفس البشرية:
لم يَرْتَبْ نبيُّ اللهِ تعالى وخليلُهُ إبراهيمُ (عليهم السلام) في الله تبارك ذكره، ولكنَّه ذهب لصياغة بيانٍ دقيقٍ عميقٍ من خلال نفسِهِ الطاهرة؛ قاصدًا تقويم الرؤية الإنسانية تقويمًا موضوعيًا صحيحًا.
قال الكتاب العزيز (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)[7].
كما وأنَّ الرسول الأكرم (صلَّى الله عليه وآله) أجلُّ من أن يُحرِّمَ على نفسه ما لم يُحرِّمه الله تعالى، ولكنَّه (صلَّى الله عليه وآله) أراد كما أراد الخليل (عليه السلام).
قال جلَّ في علاه (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)[8].
إنَّه لمِن طبيعة النفس البشرية الاستسلام في بعض الأوقات للخفَّة والتعرض لمقدمات الانحراف، فالحياة مُعقَّدة، وغرورها شِبَاكٌ قد أحْكَمَ إبليسُ الرجيمُ نسيجها بعد أن ترك طُرُقَ الانحراف ومستنقعات الرذيلة للشياطين والنفسِ الأمَّارة، أمَّا هو فقد تفرَّغ لحرف الناس عن الصراط المستقيم. قال الكِتابُ العزيزُ (قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ)[9].
إبليس، وجمهرة من شياطين الجنِّ والإنس، يتربصون بالمؤمنين الدوائر للإيقاع بهم في شراك الزيغ والانحراف، وقد يقع الإنسان في جولة، ويستنقذه الله تعالى في أخرى، وهكذا تدور رحى الحياة بشكل طبيعي يسعى فيه المؤمنُ إلى الفوز بحسن الخاتِمة وجميل المنقلب.
كم بقي مع الإمام الحسين (عليه السلام) في كربلاء؟
فلنلتفت جيِّدًا إلى أنَّ من لم يدرك الفتح، ليس بالضرورة أن يكون كافِرًا ولا منافقًا ولا ذا رذيلة وخسَّة.. لا، ليس الأمر كذلك؛ بل قد يكون إنسانًا لم يصل إلى درجات الكمال العليا التي وصل إليه مسلم بن عوسجة وحبيب من مظاهر وغيرهما من جنود الله جلَّ في عُلاه.
- مسألةُ التعدديات الثقافية والفِكرية:
تنقسم جماهيرُ التيارات والأحزاب، فيما تنقسم إليه، إلى حمائم وصقور، وإلى يسار ويمين، هذا والحال أنَّ الأقسام والطوائف في كلِّ تيار وحِزب تؤمِن بنفس الأدبيات والرؤى العامَّة، إلَّا أنَّ التشكلات الثقافية المعلولة للنشأة والبيئة والظروف التربوية وما شابه، غايرت بين المخرجات السلوكية لنفس الأدبيات والرؤى، وبالرغم من ذلك يبقى الحمائمي والصقوري، واليميني واليساري، على انتماءٍ صادِقٍ واحد.
هذا أمر طبيعي، ولا مصادمة بين مثل هذه التوجهات داخل الحزب أو التيَّار الواحد.
- المسألة النفسية:
لظروف وأسباب كثيرة، قد يغلب على إنسان في حينٍ التهورُ في قوَّته الغضبية، فيعمى عن الحقِّ، ويرتكب ما يعضُّ عليه أصابعه ندمًا، وقد تكون الغلبةُ تارة للشره في القوَّة الشهوية، أو الجربزة في قوَّة العلم، وقد ينعكس الحال، فيجبن في المواطن التي تتطلب حضور الشجاعة، ويتبلد عندما تتوقع منه العِفَّة في سياق الشهوة، ويتركب جهله في لحظات الحاجة إلى الحِكمة..
يسقط الإنسانُ مِرارًا وتكرارًا في اختبارات البواعث النفسية، ولكنَّ العاقِل صاحب النفس اللوامة، سرعان ما يعالج نفسه ويعيد تهذيبها وتقويمها.
نفس هذا الإنسان لو أنَّنا نجمع المرَّات التي سقط فيها، ونرصها في صفحة، ونقوم بالتعليق على كلِّ سقطةٍ سقطة، فلربَّما تمكَّنا من تأليف مجلد ضخم تحت عنوان (مثالب فلان)!
تنبيه: ليس كلامنا حول صاحب النفس الخبيثة والعنصر الرديء، بل عن الإنسان الطيب المؤمن الذي لم يوفق لنشأة وظروف تربوية تعينه على الاستقامة والسلامة من السقوط في امتحانات الحياة.
- عقليةُ البحثِ في سِيَرِ الأصحَابِ والرواة:
في الغالب، كان علماءُ الجرحِ والتعديل على مناهج عِلمية في تصنيفاتهم للرجال، فقالوا عن رجلً: ثِقة، وعن آخر: ثقة ثقة، وعن ثالث: ثِقة عين.. وهكذا ممَّا يُنبئ عن وجود معايير معينة تنتهي بالباحث إلى وصف مُحَدَّد.
من ذلك، نتمكَّنُ من فهم حالةٍ من التمييز بين الرجال في رؤى العلماء وبحسب موازين معينة. هذا، وإن كان في حدود ضيقة، إلَّا أنَّه مظهر لحالةٍ جيِّدة، قد تحتاج إلى شيء من التنقيح على مستوى المعايير وما تفضي إليه بعض المسائل في البحث النفسي والاجتماعي وما في حكمهما ممَّا يرجع إلى طبيعة التشكل الشخصي للفرد والمجتمع.
في قبال تلك الحالة، فإنَّنا اليوم، نلاحظ من البعض شيئًا من الخطأ في تقييم أصحاب الأئمة (عليهم السلام) والرواة عنهم؛ وذلك بمحاسبتهم على وفق رؤية القوم القائمة على (عدالة الصحابة)، فيحاسبون الراوي أو من يُعدُّ من الأصحاب بمعايير تصلح في قياس العِصمة، فيُنسى كونه إنسانًا قد يُخطئ أخطاءً لا نتمناها، غير أنَّها لا تُخرِجه عن حدِّ العدالة والوثاقة، خصوصًا مع الأخذ في الاعتبار الظروف المعقدة التي كان يعيشها الشيعةُ في زمن الأئمة الأطهار (عليهم السلام)، إضافة إلى عدم نضوج مسألة العِصمة في عموم الوجدان الشيعي، فكثير من الأصحاب كانوا يعاملون الأئمة (عليهم السلام) على اعتبارهم خلفاء حقٍّ مُنَصَّبين من الله تعالى، ولكن ليس على عِماد العِصمة التكوينية على وجهها الحقيقي، وإن كانت عند بعض كذلك، إلَّا أنَّ منهم من لم تُسعِفه قواه التعقلية على تحويل هذه العقيدة إلى سلوك عملي واقعي.. وهنا أُكرِّر: ليس الأمر في وجدان الشيعة كما هو من الوضوح والقوَّة في وجداننا اليوم، إلَّا عند الخُلَّص من الذين نقلوه لنا صافيًا نقيًّا.
- ليس الإمامُ يساريًّا ولا يمينيًّا:
تُطرَحُ أسئلةٌ من قبيل: هل كان الإمامُ (عليه السلام) راضيًا عن خروج فلانٍ بالسيف على السلطة، أو لا؟ وهل كان راضيًا عن بعض التنظيمات السياسية الشيعية المعارضة، أو لا؟ وهل كان ليرضى بدخول أصحابه في أعمال السلطة ووظائفها، أو لا؟
هنا بيان:
يُدرِكُ الإمامُ (عليه السلام) الطبيعة البشرية من حيث تأثرها بمحيطها وتأثيرها فيه، فالإنسان في آنِهِ وليدُ أمْسِهِ، وهو اليوم يُولَدُ لغَدِهِ، ولأنَّ الظروفَ في غاية التبدُّلِ والتغير، وفي غاية التعقُّد بسبب شدَّة التداخل بين مركباتها، كما ولأنَّ نفسَ النفسِ المتعرِّضة إليها هي في الواقع إحدى أطرافها، وقد تشكَّلت منها في آنات على امتداد تاريخها، كان تأثرُ كل إنسانٍ مختلِفًا عن غيره، وبالتالي فإنَّ كلَّ إنسانٍ يؤثرُ في مطلق محيطه بحسب ما هو عليه.
يُؤمِنُ سلمانُ وأبو ذرٍ (رضوان الله تعالى عليهما) بالله لا إله إلَّا هو، وبمحمَّدٍ (صلَّى الله عليه وآله) رسولًا معصومًا نبيًّا، وبعليٍّ (عليه السلام) إمامًا وصيًّا معصومًا.. لا خلاف في ذلك ولا ترُّد، غير أنَّ لأبي ذرٍ مسلكه في ممارسة إيمانه، ولسلمان مسلكٌ قد يراه كثيرون نقيضَ مسلك أبي ذر، والحال أنَّ الرسول (صلَّى الله عليه وآله) لم يردع أحدهما عمَّا هو عليه، وكذا أميرُ المؤمنين (عليه السلام).
عن يعقوب بن الضَحَّاك، عن رجُلٍ من أصحابنا سَرَّاجٌ، وكان خادِمًا لأبي عبد الله (عليه السلام)، قال:
“بعثني أبو عبد الله (عليه السلام) في حاجةٍ وهو بالحيرة أنا وجماعة من مواليه، قال: فانطلقنا فيها ثُمَّ رجعنا مُغْتَمِّين. قال: وكان فِرَاشي في الحائر الذي كُنَّا فيه نُزُولًا، فجِئْتُ وأنا بِحَالٍ، فرميتُ بنفسي، فبينا أنا كذلك إذا أنا بأبي عبد الله (عليه السلام) قد أقبل. قال:
فقال: قد أتيناك. أو قال: جئناك. فاستويت جالسًا، وجلس على صدر فراشي، فسألني عمَّا بعثني له فأخبرتُه. فحمد اللهَ ثُمَّ جَرَى ذِكْرُ قومٍ، فقلتُ: جُعِلتُ فداك، إنَّا نبرأُ منهم؛ إنَّهم لا يقولون ما نقول.
قال: فقال (عليه السلام): يَتَوَلَّونَا ولا يقولُونَ ما تقولُون تبرؤون منهم؟
قال: قلتُ: نعم.
قال (عليه السلام): فهوذا عندنا ما ليس عندكم، فينبغي لنا أنْ نَبْرَأ منكم؟
قال: قلتُ: لا – جعلت فداك –
قال (عليه السلام): وهوذا عند الله ما ليس عندنا، أفتُرَاه أَطْرَحَنَا؟
قال: قلتُ: لا واللهِ. جُعلتُ فداك، ما نفعل؟
قال: فَتَولَّوهُم ولا تَبْرَؤوا منهم؛ إنَّ مِنَ المُسلِمينَ مَنْ لَه سَهْمٌ، ومِنهم مَنْ له سهمان، ومنهم من له ثلاثة أسهم، ومنهم من له أربعة أسهم، ومنهم من له خمسة أسهم، ومنهم من له ستَّة أسهم، ومنهم من له سبعة أسهم. فليس ينبغي أن يُحملَ صاحِبُ السهم على ما عليه صاحب السهمين، ولا صاحبُ السهمين على ما عليه صاحب الثلاثة، ولا صاحب الثلاثة على ما عليه صاحب الأربعة، ولا صاحب الأربعة على ما عليه صاحب الخمسة، ولا صاحب الخمسة على ما عليه صاحب الستَّة، ولا صاحب الستة على ما عليه صاحب السبعة”[10].
إذا كان الأمرُ كذلك في مدارِج الإيمان، فمرجعه إلى القابليات والأفهام، ومرجع هذه إلى ما مرَّت الإشارة إليه من ظروف النشأة وما نحوها، وهو نفس مرجع مطلق القابليات والإفهام، لذا، فإنَّه من باب أولى إعذار الناس في توجهاتهم المختلفة والمتباينة والمتقاطعة، مادامت داخل الأطر الضابطة العامَّة للخطِّ او التيَّارِ أو الحِزبِ، أو ما شابه، وفي مقامنا هو التشيع.
ليس الإمامُ (عليه السلام) يساريًّا، ولا يمينيًّا، ولكنَّه على وعي بطبيعة اليسار واليمين في مختلف المجتمعات وما فيها من توجهات، وإنَّما من الوظائف المهمَّة للإسلام ضبطها والمحافظة عليها عن الانحراف والاستقلال عن النظام العقدي العام.
نعم، يريد الإمامُ (عليه السلام) أمرًا واحِدًا، ولكنَّ هذه الإرادة منفصلةٌ عن الموضوعية ما لم يقم فيها اعتبارٌ لطبيعة الإنسان كونه متأثرًا ومؤثرًا، وهذا الاعتبار له أثره الواضح في الحكم على الناس من جِهَة توجهاتِهِم وأفهامِهِم، ومن هنا قد نفهم ظهور التردُّد في كلماتهم (عليهم السلام) بين التأييد وعدمه عند الحديث عن بعض الأصحاب.
لذا، فسكوت الإمام (عليه السلام) عن توجُّه معين، لا يعني بالضرورة رضاه عنه، ولكنَّه (عليه السلام) يأخذ في موضوعية القضية مجموعةً مِنَ الأبعاد النفسية والاجتماعية وما غير ذلك ممَّا يدخل في تركيب العقلية.
قد يُقال: هذا خلاف وجوب الردع، وإلَّا لدخل الفعل في حدود السيرة، والسيرة ممَّا يُحتج به، فيُحتج حينها بما لا يصح الاحتجاج به، بل بالمخالف.
فيُقال: ليس الاحتجاج على صحَّة الفعل، بل هو على صحَّة السكوت على بعض الأفعال التي قد لا تكون مرضية، ولهذا عناوين ضابطة يبينها في بعض الموارد الترديدُ في كلام أئمة الهدى (عليهم السلام).
لا بُدَّ لعقلية البحث في سِيَرِ الأصحاب والرواة أن تتوفر على قِسطًا وافِرًا من الإحاطة الموضوعية بالإنسان كوجود عاقل يتشكل بالتأثر والتأثير، ومن الصعوبة بمكان، بل هو خارج الحِكمة، القول بتجريده عن ظروفه التي نشأ فيها، نحنُ بذلك لا نُبرِّر للإنسان ما يرتكب من أخطاء، ولكنَّنا نؤكِّد على ضَرُورَةِ مُرَاعَاةِ ظُرُوفِ النَشْأةِ في المحاسبات والمعالجات، وهذا ممَّا يتوقَّف عليه الإصلاح في المجتمعات؛ فعندما نُنصِفُ فلانًا بقراءة سيرته من جميع جهاتها فننتهي بفذلكة موضوعية، سوف يكون عنوان الحمل حينها مرِنًا مرونةً علمية صحيحة، يقبل بها إخراج ما ينبغي إخراجه من عناوين.
مثال: لو فهمنا من سيرة أحد علماء الرجال عدم إيمانه بالولاية التكوينية لأهل البيت (عليهم السلام)، فمن الملازمات العادية لذلك جرحه بالغلو لرواة الفضائل العالية، ولن يكون هذا الأمر منه تهمة منكرة، بل هو موافِقٌ طبِيعيٌّ لما هو عليه من عقائد وقناعات. أمَّا الفائِدة المترتبة فهي في التوقف عند كلامه في أولئك الذين يروون الفضائل العالية، كما وأنَّه إذا وثَّق أحدهم كان توثيقه آكد وله مزية خاصَّة، والأهم من ذلك عدم الحكم عليه بالعيب في عقيدته أو ما شابه، فهو على الإيمان والوثاقة، ويؤخذ بكلامه كعالِم في الرجال، إلَّا أنَّ اعتبارَ ظرُوفِ النشأة وما هو عليه من عقائد وقناعات يفيد جوهريًا في إجمال النتائج بعد تفصيلها، فتتحقق مرونةُ إخراج ما ينبغي إخراجه من عناوين.
لا ينبغي أن نحمل أوزار التهمة والتسقيط لنفوسٍ طَيبةٍ لم تُسعفها ظروفها التربوية والاجتماعية لتهذيبها بالشكل المطلوب، فليكن العذر منَّا جوهرًا في رؤانا الموضوعية في سِيَرِ المؤمنين بشكل عام، وأصحاب الأئمة الميامين (عليهم السلام) على وجه الخصوص. وهذه ليست دعوة للقول بعدالتهم مطلقًا كما قد يظنُّ البعضُ، ولكنَّها دعوة لتحري الموضوعية والحِكمة في وزن الأمور واعتبار مختلف الجهات والحيثيات.
السيد محمَّد بن السيد علي العلوي
3 من صفر 1440 للهجرة
البحرين المحروسة
………………………………………………………………..
[1] – تجنَّبتُ في المقال ذِكرَ شواهد مصداقية مباشرة؛ والسبب في ذلك انصراف بعض، أو كثير، من الأذهان إليها مناقشةً وتقليبًا، وترك الغاية الأساس من المقال، فأعرضتُ عن ذلك محاولًا التركيز على تقديم المفهوم الخالص الذي انشده.
[2] – الآية 149 من سورة الأنعام
[3] – بصائر الدرجات – محمد بن الحسن الصفار – ص 124
[4] – دلائل الامامة – محمد بن جرير الطبري (الشيعي) – ص 388 – 389
[5] – معجم رجال الحديث – السيد الخوئي –
[6] – الآيتان 14 – 15 من سورة الحجرات
[7] – الآية 260 من سورة البقرة
[8] – الآية 1 من سورة التحريم
[9] – الآيتان 16 – 17 من سورة الأعراف
[10] – الكافي – الشيخ الكليني – ج 2 – ص 42 – 43