ميزان الروايات التاريخية في أقوال وسيرة العلماء ll بقلم: أبو علي

بواسطة Admin
0 تعليق

ملاحظة: وصل المقال عن طريق البريد الإلكتروني موقَّعًا باسم (أبو علي)، ونشرناه لموضوعيته، بعيدًا عن اتِّفاق موقع (صوت الغدير) مع توجهه أو لا.

 

بسم الله الرحمن الرحيم

و الصلاة و السلام على أشرف الأنبياء و المرسلين محمد و آله الطيبين الطاهرين

أما بعد ،

الدواعي لكتابة هذا المقال هو لمناقشة بعض ما ورد في بعض الندوات و المناظرات المطروحة مسبقا بطرح الروايات التاريخية التي لا تصح بحسب المعايير الفقهية ، و أن العمل لا يكون إلا في إطار تصحيح الروايات سندا، و ارتأينا هنا أن نناقش  بعض هذه الأمور و قضايا أخرى ، و علاوة عليه ، بيان كلمات و سيرة العلماء الأعلام سواء من المتقدمين أو المتأخرين.

تعليق على المناظرة:

فإني تابعت المناظرة التي حصلت قبل عام حول التحقيق في التراث الحسيني ، و التي جرت بين سماحة الشيخ محمد الخرسي ، و جناب الأستاذ فيصل بو كنان و المنشورة في موقع اليوتيوب ،  و التي طرحت فيها عدة نقاط مهمة من قبل الطرفين ، اتفقا في بعض و اختلفا في بعض منها ، و قد طرحت فيها نقاط هي بنفسها وجب أن تكون من محاور النقاش كمقدمة للموضوع الأساس.

فإن المناظرة و موضوعها ، و إن كانت جيدة في نفسها ، لكنها بحاجة لمقدمات لا يسعها وقت المناظرة ، بل لعلها قد تخلف إستفهامات و تساؤلات أكثر مما قد أجابت إذا لم يتم التعرض لها ، و لأن كثيرا من محاور النقاش المطروحة ، هي في الحقيقة عناوين ثانوية لموضوعات رئيسية ، هي خافية أصلا على المتابع و ليست له خلفية عنها ، فالمناقشات في هذه الحالة ستشوبها الضبابية و الغموض في بعض الجوانب.

و في الفترة الأخيرة ، أقيمت محاضرة بمشاركة الأستاذ فيصل قبيل محرم الحرام ، و تكلم فيه بمثل ما تكلم به في المناظرة مع بعض التوسعة في طرح الأمثلة و التطبيقات. فنحن في هذه المقالة ليس غرضنا النقض و الإبرام حول ما طرحه الأستاذ فيصل من أمثلة حول مقتل القاسم (ع) أو عدد الجيش الأموي و غيره ، بل بيان المنهجية التي عليها مشهور العلماء في العمل و القبول بالروايات التاريخية ، و نرى أن علاج هذه المسائل من التفاصيل التي ذكرها الأستاذ متروك لأهل العلم و التحقيق في السيرة و التاريخ الإسلامي ، للإختلاف في الرد و التحقيق بين المحققين.

قضية المنهج:

حينما نشاهد المناظرة ، نجد ان كلا الطرفين متفقان – بشكل و بآخر و لو جزئيا – على تحري المعلومة و التدقيق فيها و عدم التسرع في نسبتها للمعصوم  عليه السلام ، فنرى الشيخ الخرسي حفظه الله ذكر أن هناك أخبارا مبالغ فيها في المقاتل يراد منها إظهار شجاعة و قوة المعصوم عليه السلام ،  و تراه – أي الشيخ الخرسي – كذلك ينقل فتاوى مراجعنا بإسناد أي رواية إلى المصدر بصيغة “روي” حتى لا يقع القارئ في الكذب ، لأنه لا يمكن الجزم بتلك النسبة للمعصوم عليه السلام ، و الأخذ عن المصادر المعتبرة. و قد استشهد كذلك الأستاذ فيصل بكلمة المقدس النوري الطبرسي رضوان الله تعالى عليه في الإنكار على نقل الكثير من الأخبار التي لم تثبت من على المنابر ، و التي كانت مقدمته في الدخول للمناقشة. فهنا إتفاق بين الطرفين في وجوب التحري و التدقيق في الرواية و عدم التسرع في نسبتها للمعصوم.

لكن هناك إختلافا في كيفية الإعتماد على الرواية التاريخية ، فبينما ركز الأستاذ فيصل على وجوب كون الرواية من الروايات المسندة و المعتبرة عند مصادر الشيعة و التعامل معها كروايات الأحكام ، و رفض ما نقل و روي عن مقتل أبو مخنف ، نرى الشيخ الخرسي ينقل أن مقتل أبو مخنف من المقاتل المعتبرة التي اعتمد عليها الأعلام و هي منقولة عن حميد بن مسلم ، الذي رفض الأستاذ فيصل الأخذ عنه لكونه من الجيش الذي خرج لقتل الحسين عليه السلام و ممن حمل رأسه. فهنا يكون الإختلاف إختلاف في المنهج  ، حيث ترفض رواية حميد بن مسلم بسبب كونه فاسقا ممن قاتل الحسين عليه السلام ، فهو غير ثقة و أمين في نقله بحسب المباني الفقهية كما يدعى ، و منهج آخر يعتبر حميد بن مسلم مجرد مخبر و لا مانع بالأخذ بإخباراته ، حيث في المنهج التأريخي يعمل بالقرائن أكثر من إعتماد الأسانيد. و لا نعني أن الأسانيد يعدم بحثها في المسائل التاريخية , بل هي من القضايا الثانوية ، خصوصا أن الإعتماد على جمع القرائن و تراكم الإحتمالات.

و قد طرح الأستاذ فيصل معاييره في تحقيق و إعتبار الرواية ، و التعامل معها كمثل التعامل مع رواية الأحكام ، بينما الشيخ الخرسي يرى أن الأدوات تختلف ، فالبحث في الرواية التأريخية يختلف عن تلك في رواية الأحكام.

خلاصة ، فإن طرح المواضيع دون بيان المنهج و المبنى ، يشبه الحوار الطرشان ، و بيان المنهج البحثي و تقييمه مهم ، خصوصا أنه للمتابع حق في معرفة الخلفيات حول الخلاف ، حتى لا يكون مشوشا.

إلتفاتة :

هناك نقطة يجب الإلتفات إليها ، و هي أن ثمة إختلافا طرح في المناظرة لكن لم تتم الإشارة إليه و فرزه بشكل صحيح ، و هو الإختلاف الموضوعي فيما بين التحقيق في القضايا التاريخية ، و بين مجرد نقل الحادثة كما رويت في المصادر من على المنبر، و واضح ان الأمر الثاني أعم ، و لهذا تجد في كلمات الأعلام في إستفتاءاتهم ، أنه على الناقل او الخطيب ان يسند الرواية الى مصدرها حين النقل حتى يحترز من الوقوع في الكذب ، طبعا بالإضافة الى الاعتماد على مصدر معتبر في النقل، و واضح أن الأمرين مختلفان جدا ، فكان يجب تنقيح الموضوع قبل طرحه بشكل أفضل ، لكن بالإمكان ان نقول أنه لو كان الموضوع مجرد نقل الرواية مع اسنادها للمصدر فهو خارج عن موضوع المناظرة، و الكلام يكون فيما يعتمد عليه. و قد ذكرنا الكلام حول كلا القولين التحقيق التاريخي و مطلق نقل الرواية في الملاحق آخر المقال.

لذا نرى  أنه من المهم ان يكون النقاش في بيان المنهجية و تقييمها أولا، و هي مرحلة سابقة على مرحلة تطبيق المعايير على الروايات ، فما طرحه الأستاذ فيصل من رفض روايات و قبول أخرى راجع في الأصل إلى الإختلاف في المنهج الذي لم تتم مناقشته ، و هو في رأييي ما يجعل المناظرة أو حتى المحاضرة ناقصة فعلا ، و لا تبين  للمستمع خلفية الإختلاف .

النقاط:

نحن هنا ، لا نريد ان ندخل في موضوع التحقيق في التراث الكربلائي بشكل خاص و النقاش في تفاصيل ما طرحه الطرفان ، لا سيما الأستاذ فيصل حول ما اعتمده نقضا و إبراما ، لكننا نريد الرجوع خطوات للوراء ، و التعرف أكثر على منهجية مشهور العلماء و التي حاول التحدث عنها الشيخ الخرسي ، ألا و هي منهجية إعتماد “الوثوق في الخبر” في مقابل “الوثاقة في الخبر” المعتمد على توثيق رواة الخبر ،و منهجية الوثوق في الأخبار عليه مشهور العلماء في دراسة الأخبار سواء في إستنباط الأحكام الشرعية أو غيرها. و لعله يفهم من كلام الأستاذ فيصل أنه يأخذ بمنهج الوثاقة لكثرة تعليقه على الرواية بأنها: صحيحة أو معتبرة أو لا يبعد إعتبارها على أساس سند الرواية.

و من خلال ما سنطرحه ستنكشف الأجوبة على بعض التساؤلات، و ستتضح أكثر مع بعض التطبيقات و الأمثلة (حول السيرة العلمائية مع الخبر الفقهي و التاريخي) ، و هي كالآتي:

  • هل العمدة في قبول و تصحيح الخبر هو تصحيح السند؟
  • هل كل خبر ضعف سنده أو كان من المراسيل مردود ؟
  • هل التعامل مع الروايات التاريخية مثل التعامل مع روايات الأحكام ؟
  • هل يرد خبر المخالف ؟
  • هل اختلاف الادوات في دراسة الأخبار التاريخية يعني التقليل من معايير دراسة الرواية ؟

ملاحظة :

إن كثيرا من الإقتباسات و النقولات المذكورة في هذا البحث، لا يشترط أن تكون مأخوذة من مصدرها المباشر ، بل مأخوذة عن مصادر أخرى نقلت عنها ، و ذلك بسبب عدم كون هذه المصادر بمتناول اليد ، فعذرا على هذا التقصير في هذا الجانب.

معنى الخبر الموثوق:

في المعجم الأصولي للشيخ محمد صنقور ، يعرَف الخبر الموثوق بأنه كلّ خبر اكتنف بما يُوجب الوثوق بصدوره عند العقلاء (راجع رقم 327) ، و عن السيد منير الخباز في أحد دروسه “والمراد بالموثوق به ما نشأ الوثوق به عن قرائن عقلائية”

فلذلك “قد يكون الخبر موثوقاً إلاّ انَّه غير موثّق- أي سندا -، كما في الخبر الضعيف الذي اشتهر العمل به بين القدماء، وهذا هو منشأ دعوى أنّ الشهرة جابرة لضعف الخبر السندي” (راجع المعجم الأصولي للشيخ صنقور) ، فليس المدار ها هنا في الأخذ و رد الروايات هو الإسناد ، بل القرائن المحفوفة به، فالقارئ لما ذكره الأساطين يعلم ان العمدة على الوثوق في الخبر لا خبر الثقة. فكم من خبر عمل به و هو غير معتبر سندا ، و كم من خبر مطروح (أو شاذ) و هو صحيح الإسناد.

و ننقل لكم كلمات بعض الأعلام – منهم المتقدمين – حيث يبينون اعتمادهم على منهج الوثوق في الخبر ، مع بيان ما يرونه خللا في حصر الإعتماد  على خبر الثقة، و يكون كذلك جوابا على السؤال الآخر حول رد الخبر لضعف إسناده.

ذكر الوحيد البهبهاني رضوان الله عليه – أستاذ  الكل و عمد الشيعة في زمانه – في كتابه الفوائد الحائرية في ص 224 الآتي :

((ثم اعلم انّه قد شاع بعد صاحبى المعالم و المدارك أنّهم يطرحون أخبارنا المعتبرة التى اعتبرها فقهاؤنا القدماء بل والمتأخرون ايضا ـ كما بينته و أثبته فى التعليقة ـ طرحا كثيرا؛ بسبب أنّهم لايعتبرون من الإمارات الرجاليّة سوى التوثيق و قليل من أسباب الحسن و بسبب ذلك اختل أوضاع فقههم و فتاواهم وصار بناؤهم على عدم ثبوت المسائل الفقهية غالبا… و هذه الأسباب اعتبرها الفقهاء فى كتبهم الإستدلالية و أهل الرجال فى علم الرجال فلابد من معرفتها و ملاحظتها؛ لئلا يطرح الأخبار المعتبرة الكثيرة و لا يخالف طريقة فقهاء الشيعة القدماء و المتأخرين منهم و لا يبقى فى التحيّر و التردّد فى معظم المسائل الفقهيّة…)). (منقول عن نقد مشرعة البحار للشيخ مهدي حسينيان قمي)

و ذكر المحقق الحلي رضوان الله عليه (أيضا عن نقد مشرعة البحار)

((مسألة: أفرط الحشويّة فى العمل بخبر الواحد حتى انقادوا لكّل خبر و ما فطنوا ما تحته من التناقض. فإن من جملة الأخبار قول النبى(ص) «ستكثر بعدي القالة عليّ» ، و قول الصادق(ع) «انّ لكل رجل منّا رجل يكذب عليه»، و اقتصر بعض عن هذا الإفراط فقال: كل سليم السند يعمل به و ما علم انّ الكاذب قد يصدق والفاسق قد يصدق؛ و لم يتنبّه أنّ ذلك طعن فى علماء الشيعة و قدح فى المذهب إذ لا مصنّف إلاّ و هو قد يعمل بخبر المجروح كما يعمل بخبر الواحد المعوّل و افرط آخرون فى طرف ردّ الخبر حتى أحال استعماله عقلاً و نقلاً و اقتصر آخرون فلم ير العقل مانعا. لكن الشرع لم يأذن فى العمل به, و كلّ هذه الاقوال منحرفة عن السنن و التوسّط أقرب. فما قبله الأصحاب أو دلّت القرائن على صحّته عمل به ، و ما أعرض الأصحاب عنه أو شذّ يجب إطراحه…)) (مقدمة المعتبرج1 ص29).

قال المحقق الهمداني (قدس سره) (أيضا عن كتاب نقد مشرعة البحار):

((إذ ليس المدار عندنا فى جواز العمل بالروايات على اتصافها بالصحة المصطلحة و الاّ فلا يكاد يوجد خبر يمكننا إثبات عدالة رواتها على سبيل التحقيق لولا البناء على المسامحة فى طريقها والعمل بظنون غير ثابتة الحجيّة ، بل المدار على و ثاقة الراوى اوالوثوق بصدور الرواية ، و إن كان بواسطة القرائن الخارجية الّتى عمدتها كونها مدوّنة فى الكتب الأربعة  ، أو مأخوذة من الأصول المعتبرة مع إعتناء الأصحاب بها و عدم إعراضهم عنها.

ولا شبهة فى أنّ قول بعض المزكّين بانّ فلانا ثقة او غيرذلك من الألفاظ الّتى اكتفوا بها فى تعديل الرواة ، لا يؤثر فى الوثوق أزيد مما يحصل من إخبارهم بكونه من مشايخ الاجازة. و لأجل ما تقدمت الإشارة اليه ، جرت سيرتى على ترك الفحص عن حال الرجال و الإكتفاء فى توصيف الرواية بالصحة كونها موصوفة بها فى ألسنة مشايخنا المتقدمين الذين تفحّصوا عن حالهم.)) (مصباح الفقيه، كتاب الصلاة، ص 12)

و نقل السيد الخوئي قدس سره عن أستاذه الشيخ النائيني قدس سره (عن كتاب نقد مشرعة البحار) :

((و سمعت شيخنا الأستاذ الشيخ محمد حسين النائينى ـ قدّس سرّه ـ فى مجلس بحثه يقول: «إنّ المناقشة فى اسناد روايات الكافى حرفة العاجز)) (معجم رجال الحديث، ج1 ص81)

و يعلم مما نقلناه ان طريقة الأعلام في الإعتماد على الروايات ليس في وثاقة الراوي فقط ، بل وثاقة الراوي احدى القرائن المفيدة في الوثوق ، و أن في الروايات المعمول بها  و المعتمد عليها من وقع في إسنادها المجروح ، و هذا يجري مجراه في الاحكام الشرعية ، فكيف الأمر بالروايات التاريخية ؟ فهل يوصف هذا العمل بالتساهل من قبل فقهائنا الأعلام في استنباط الأحكام الشرعية؟ و من ذكرناهم من اساطين العلم و أساتذة المجتهدين؟

و من الجدير ها هنا نقل كلمات علمين من أعلامنا في ما يخص التحقيق في الروايات التاريخية ، أحدهما الشريف المرتضى رضوان الله عليه كما أجاب في الشافي ، و الآخر هو السيد جعفر مرتضى العاملي حفظه الله ، و لعله هو متصدر الساحة في التحقيق و البحث التاريخي ، و كلماته تكون مهمة في هذا الموضوع.

يقول الشريف المرتضى قدس سره في معرض رده على القاضي عبد الجبار المعتزلي في إثبات تواتر حديث الغدير :

فقد استبد هذا الخبر – أي حديث الغدير – بما لا يشركه فيه سائر الأخبار ، لأن الأخبار على ضربين أحدهما لا يعتبر في نقله الأسانيد المتصلة  ، كالخبر عن وقعة بدر وحنين والجمل وصفين، وما جرى مجرى ذلك من الأمور الظاهرة التي نقلها الناس قرنا بعد قرن بغير إسناد معين، وطريق مخصوص، والضرب الآخر يعتبر فيه اتصال الأسانيد كأكثر أخبار الشريعة، وقد اجتمع في خبر الغدير الطريقان معا مع تفرقهما في غيره من الأخبار، على أن ما اعتبر في نقله من أخبار الشريعة اتصال الأسانيد لو فتشت جميعه لم تجد رواته إلا الآحاد، وخبر الغدير قد رواه بالأسانيد الكثيرة المتصلة الجمع الكثير فمزيته ظاهرة… انتهى كلام الشريف كما هو في الشافي ج2 ص 261.

أما السيد جعفر مرتضى العاملي رضوان الله عليه ، فقد رد على من شكك في شهادة الزهراء عليها السلام حين طالب بالاقتصار في الحديث على ما صح سنده:

إنه ليس من حق أحد أن يطلب من الناس أن يقتصروا في ما يثيرونه من قضايا على ما ورد عن النبي (ص) والأئمة (ع) بأسانيد صحيحة، وفق المعايير الرجالية في توثيق رجال السند… لأن ذلك معناه أن يسكت الناس كلهم عن الحديث في جل القضايا والمسائل، دينية كانت أو تاريخية أو غيره

بل إن هذا الذي يطلب ذلك من الناس، لو أراد هو أن يقتصر في كلامه على خصوص القضايا التي وردت بأسانيد صحيحة عن المعصومين، فسيجد نفسه مضطرا إلى السكوت، والجلوس في بيته، لأنه لن يجد إلا النزر اليسير الذي سيستنفده خلال أيام أو أقل من ذلك.

على أننا نقول، وهو أيضا يقول: إن ثبوت القضايا لا يتوقف على توفر سند صحيح لها برواية عن المعصومين، فثمة قرائن أخرى تقوي من درجة الإعتماد أحيانا، ككون الرواية الضعيفة قد عمل بها المشهور، واستندوا إليها مع وجود ذات السند الصحيح أمام أعينهم، ثم لم يلتفتوا إليها وكذا لو كان النص يمثل إقرارا من فاسق بأمر يدينه أو يناقض توجهاته، فإنه لا يصح أن يقال: إن هذا فاسق فلا يقبل قوله. وعلى هذا، فلا بد من ملاحظة القرائن المختلفة في قضايا الفقه، والأصول، والعقيدة والتاريخ وغيرها من قبل أهل الإختصاص، حيث يستفيدون منها في تقوية الضعيف سندا، أو تضعيف القوي، بحسب الموارد وتوفر الشواهد.

انتهى كلام سماحة السيد المحقق حفظه الله في كتاب “مأساة الزهراء” عليها السلام ج1 ص 27-28.

على أنه قد يقال أن كلام المرتضى قدس سره لا يصلح للإستشهاد به في المقام ، لان كلامه كان في سياق الأحداث المشهورة التي لا غبار في حصولها ، و لا حاجة حينئذ في إثباتها لسند صحيح لشهرتها و اجماع الناس عليها.

فنقول:

أن كلام المرتضى قدس سره أعم من موضوع الأحداث المشهورة ، فكلامه في تقسيم الأخبار الى نوعين بشكل عام لا خصوص المشهور، و لو كان كذلك ، لما كان ثمة داع لأن يذكر ان في الخبر الصحيح المسند ما هو بمنزلة الآحاد و غيره لعدم كفايته في الاعتماد بحسب مبناه قدس سره بالرغم من صحة السند، و ربما يفهم كلام السيد جعفر مرتضى العاملي حفظه الله  أنه كالشارح لكلام المرتضى قدس سره بما لا مزيد عليه.

خلاصة :

  • أن مشهور العلماء هو الإعتماد على الخبر الموثوق لا خبر الثقة ، أخذا بالقرائن المحفوفة به.
  • أن الإعتماد بالخبر الموثوق لا يختص مورده في الاحكام الشرعية بل حتى القضايا التاريخية و غيرها.
  • أن ما صح سنده قد يطرح في قبال ضعيف السند المشهور العمل به ، و هذا في الأحكام الشرعية.

تطبيقات و أمثلة :

نعرض الآن بعض التطبيقات  و الأمثلة التي عمل بها علماؤنا الأبرار في الأخذ بالقرائن التي تفيد الوثوق في الخبر ، لكن قبلها نطرح مختصرا ما أفاد به العلامة السيد هاشم الهاشمي – الكويتي –  في تعريف و تقسيم القرائن المحيطة بالخبر :

ويمكن تقسيم القرائن التي تشهد بصحة الخبر إلى نوعين:

أولا ، القرائن الداخلية، و التي منها:

1 – إشتمال الرواية على المواعظ الأخلاقية الرفيعة التي يضعف العقل البشري الإعتيادي عن إخطارها – وبمراتب دانية – في تفكيره، وكذلك الأدلة العقلية المتينة على توحيد الله وبعثة الأنبياء. ولهذا نجد أن أبا منصور الطبرسي في مقدمة كتاب الاحتجاج يبرر عدم ذكره لأسانيد أحاديثه بقوله: (ولا نأتي في أكثر ما نورده من الاخبار بإسناده إما لوجود الاجماع عليه أو موافقته لما دلت العقول إليه) (حوار مع فضل الله حول الزهراء عليها السلام ، ص 290)

2 – إشتمال الرواية على العبارات البليغة والمحتوى الرفيع الذي يكشف عن صدورها عن المعصومين، حيث أن كلامهم عليهم السلام فوق كلام المخلوق ودون كلام الخالق، ومن ذلك خطب نهج البلاغة ودعاء كميل ودعاء عرفة ودعاء أبي حمزة الثمالي. ((حوار مع فضل الله حول الزهراء عليها السلام ، ص 291)

ثانيا،   أمثلة على القرائن الخارجية :

1 – أخبار المغيبات لمن لم تتحقق له تلك الاخبار في الواقع إلى حسن سماعه بها، فيكفي مثلا لتصحيح صدور حديث (نباح كلاب الحوأب) من النبي صلى الله عليه وآله لمن بلغه ذلك بسند ضعيف في السنة العشرين من الهجرة ، هو تحققه في السنة السادسة والثلاثين منها،

2 – ومن القرائن التي يجب أن تؤخذ بعين الإعتبار عما ورد عن أئمة أهل البيت عليهم السلام ، إحتواء الخبر على مثالب أعدائهم مع ما كانوا فيه من عصور التقية التي تستوجب التحفظ على النفس وعدم نشر ما يتسبب في إتلافها ، فإن مثل هذا بحد ذاته من أكبر القرائن المحيطة بالخبر والتي تشهد على صحته.

(حوار مع فضل الله حول الزهراء عليها السلام ، ص 295)

و كذلك ، إليكم ما يقوله الشيخ محمد حسين آل كاشف الغطاء رضوان الله عليه حينما سئل عن سند دعاء الصباح فكان مما كتبه في الجواب: (لا يخفى على أحد أن لكل طائفة من أرباب الفنون والعلوم ، بل لكل أمة ، بل لكل بلد أسلوبا خاصا من البيان ولهجة متميزة عن غيرها، فلهجة اليزدي غير لهجة الأصفهاني، ونغمة الأصفهاني غير نغمة الطهراني والخراساني، والكل فارسي إيراني، وللأئمة عليهم السلام أسلوب خاص في الثناء على الله والحمد لله والضراعة له والمسألة منه، يعرف ذلك لمن مارس أحاديثهم وأنس بكلامهم وخاض في بحار أدعيتهم ، ومن حصلت له تلك الملكة وذلك الأنس لا شك في أن هذا الدعاء صادر منهم، وهو أشبه ما يكون بأدعية الأمير عليه السلام مثل دعاء كميل وغيره ، فإن لكل إمام لهجة خاصة وأسلوبا خاصا على تقاربها وتشابهها جميعا، وهذا الدعاء في أعلى مراتب الفصاحة والبلاغة والمتانة والقوة مع تمام الرغبة والخضوع والإستعارات العجيبة، أنظر إلى أول فقرة منه: (يا من دلع لسان الصباح بنطق تبلجه)، وأعجب لبلاغتها وبديع إستعارتها، وإذا إتجهت إلى قوله: (يا من دل على ذاته بذاته) تقطع بأنها من كلماتهم عليهم السلام مثل قول زين العابدين (عليه السلام): (بك عرفتك وأنت دللتني عليك)، وبالجملة فما أجود ما قال بعض علمائنا الأعلام: (إننا كثيرا ما نصحح الأسانيد بالمتون) فلا يضر بهذا الدعاء الجليل ضعف سنده مع قوة متنه، فقد دل على ذاته)

أما السيد محمد باقر الداماد قدس سره صاحب “الرواشح السماوية” فيقول:

(كما قد يحكم بصحة المتن مع كون السند ضعيفا إذا كان فيه من أساليب الرزانة ، وأفانين البلاغة ، وغامضات العلوم ، وخفيات الأسرار ما يأبى إلا أن يكون صدوره من خزنة الوحي وأصحاب العصمة وحزب روح القدس ومعادن القوة القدسية)

(مراجعة كتاب حوار مع فضل الله حول الزهراء عليها السلام ص 290-292)

الشيخ الأنصاري قدس سره:

يعلق الشيخ الأنصاري قدس سره عن خبر ورد في تفسير العسكري عليه السلام  و الذي فيه العبارة المشهورة:  ((… فأما من كان من الفقهاء صائنا لنفسه، حافظا لدينه، مخالفا على هواه، مطيعا لأمر مولاه، فللعوام أن يقلدوه، وذلك لا يكون إلا بعض فقهاء الشيعة، لا جميعهم …)) :

دل هذا الخبر الشريف اللائح منه آثار الصدق على جواز قبول قول من عرف بالتحرز عن الكذب …. الخ

(نقلا عن كتاب الإجتهاد و التقليد و الإحتياط تقرير الهاشمي لبحث السيد السيستاني دام ظله ص 296-297.)

أقول:

كلام الشيخ رضوان الله عليه و إن كان  بعيدا عن إثبات الرواية ، إلا انه لم ينفها و يطعن فيها ، بل وصف أن آثار الصدق لائحة منها ، بالرغم من وجودها في تفسير العسكري عليه السلام الذي يفتقر لسند متصل صحيح اليه ، و قد ذكر الخبر في سياق الإتيان بالشواهد ، و لعل وصفه للخبر بهذه الطريقة راجع إما أن مضمون الخبر موافق للموازين العلمية ، أو انه متوافق و روح ما هو منقول عن أهل البيت عليهم السلام ، و لا يمكن إستغفال هذه البضع كلمات من الشيخ الأنصاري و هو العارف بالأخبار ، و الخبير بها و بلحن حديث أهل بيت العصمة عليهم السلام. و لا ننس أن الشيخ الأنصاري قدس سره في مقام الإستدلال في المباحث الفقهية.

لكن قد يقال ، أن هذا المنهج – و بحسب إجتهاد علمائنا – مختلف فيه ، و لا أدل عليه ما عليه مبنى السيد الخوئي قدس سره من الإعتماد و محورية خبر الثقة عنده ، حيث خلل الإسناد بالرواية دليل على ضعف الخبر.

يرد عليه : إنه و بالرغم من كون مبنى السيد قدس سره على خبر الثقة ، إلا أنه في بضع مواضع أخرى اعتمد على منهج الوثوق على الخبر و عمل به بالرغم من ضعف إسناده ، و ننقل هنا عدة شواهد على ذلك ،  و ننقل النص كاملا عن كتاب (حوار مع فضل الله حول الزهراء عليها السلام) للسيد الهاشمي حفظه الله ص 287-288 :

اعتمد السيد الخوئي (رضوان الله عليه) في توثيق مجموعة من الرجال على القرائن مع ضعف أسانيد الأحاديث المادحة أو عدم وجود عبارات التوثيق من الرجاليين القدماء ، ومن ذلك ما قاله في شأن عبد الله بن جعفر الطيار. فقد أورد ما ذكره الشيخ في رجاله عنه ولم يكن في كلام الشيخ ما يفيد توثيقه ، ثم أورد رواية مرسلة رواها الشيخ الصدوق في باب الثلاثة من الخصال فيها مدح وثناء له، والارسال كما هو معلوم بحسب الميزان السندي من موجبات ضعف الرواية، ثم عقب عليها بقوله:
(جلالة عبد الله بن جعفر الطيار بن أبي طالب بمرتبة لا حاجة معها إلى الاطراء، ومما يدل على جلالته إن أمير المؤمنين عليه السلام كان يتحفظ عليه من القتل، كما كان يتحفظ على الحسن والحسين عليهما السلام ومحمد بن الحنفية).

ثم استدل السيد الخوئي (قدس سره) على جلالته بروايتين، تشير الأولى إلى تحفظ أمير المؤمنين عليه السلام على عبد الله بن جعفر من القتل والثانية إلى مكالمة بين عبد الله بن جعفر ومعاوية، وكلا الروايتين أوردهما الشيخ الصدوق (رضوان الله عليه) في الخصال، وهذا هو سند الروايتين:

الرواية الأولى: قال الشيخ الصدوق: حدثنا أبي ومحمد بن الحسن (رضي الله عنهما)، قالا: حدثنا سعيد بن عبد الله، قال: حدثنا أحمد بن الحسين بن سعيد، قال: حدثني جعفر بن محمد النوفلي، عن يعقوب بن يزيد، قال: قال أبو عبد الله جعفر بن أحمد بن محمد بن عيسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، قال: حدثنا يعقوب بن عبد الله الكوفي، قال: حدثنا موسى بن عبيدة، عن عمرو بن أبي المقدام، عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن محمد بن الحنفية (رضي الله عنه)، وعمرو بن أبي المقدام، عن جابر الجعفي، عن أبي جعفر عليه السلام قال:… إلخ.

وفي سند الحديث من لا يعتمد السيد الخوئي نفسه على وثاقتهم كأحمد بن الحسين بن سعيد الذي ضعفه الرجاليون ، وتوقف السيد الخوئي في حقه لتعارض التضعيف مع التوثيق بناء على قبول وثاقة من جاء في أسانيد كامل الزيارات ، ومع رجوعه عن هذا التوثيق العام يبقى التضعيف بلا معارض ، وكذلك في السند جعفر بن محمد النوفلي وهو مجهول ، وجعفر بن أحمد وهو مجهول أيضا ، ويعقوب بن عبد الله الكوفي وهو إما مهمل أو مجهول ، وموسى بن عبيدة وهو مهمل ، وأبو إسحاق على الطريق الأول في السند مهمل سواء أريد به أبو إسحاق السبيعي عمرو بن عبد الله الهمداني أم أبو إسحاق السبيعي بن كليب ، والحارث على الطريق الأول هو الحارث بن عبد الله الأعور الهمداني الخالقي وهو ثقة لما يستظهر من عد البرقي إياه من أولياء أمير المؤمنين عليه السلام ، وهو ثقة أيضا عند السيد الخوئي لروايته في تفسير القمي، ويظهر من عبارة العلامة الحلي في حقه انه يذهب إلى حسنه .

الرواية الثانية: قال الشيخ الصدوق: حدثنا أبي (رضي الله عنه)، قال: حدثنا سعد بن عبد الله، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن عمير ، عن عمر بن أذينة ، عن أبان بن أبي عياش ، عن سليم بن قيس الهلالي ، وحدثنا محمد بن الحسن الوليد (رضي الله عنه)، قال: حدثنا محمد بن الحسن الصفار ، عن يعقوب بن يزيد وإبراهيم بن هاشم جميعا ، عن حماد بن عيسى ، عن إبراهيم بن عمر اليماني ، عن أبان بن أبي عياش ، عن سليم بن قيس الهلالي قال: سمعت عبد الله بن جعفر الطيار يقول: كنا عند معاوية أنا والحسن والحسين وعبد الله بن عباس وعمر بن أبي سلمة وأسامة بن زيد، فجرى بيني وبين معاوية كلام… إلخ) . وفي كلا الطريقين إلى سليم بن قيس أبان بن أبي عياش، وقد ذهب السيد الخوئي إلى تضعيفه.  (و لنا كلام ها هنا حول سند كتاب سليم بن قيس رضوان الله عليه و تعليق السيد الخوئي قدس سره على اعتباره بالرغم من تضعيفه لإبن أبي عياش).

وهكذا نلاحظ إن السيد الخوئي في توثيقه لعبد الله بن جعفر لم يعتمد على السند الصحيح من الروايات، ولا يوجد في كلمات الرجاليين القدماء تنصيص على توثيقه بطريق صحيح، بل استند إلى القرائن الدالة على وثاقته وجلالة مرتبته.

ويؤيد ذلك ما قاله السيد الخوئي (قدس سره) في الصحابي جابر بن عبد الله الأنصاري بعد أن أورد بعض الروايات المادحة له: (وهذه الروايات وإن كانت كلها ضعيفة إلا أن جلالة مقام جابر واضحة معلومة ولا حاجة معها إليها).

وكذلك ما قاله في شأن عبد العظيم الحسني المدفون بالري بعد أن أورد بعض الأحاديث الضعيفة المادحة له: (والذي يهون الخطب أن جلالة مقام عبد العظيم وإيمانه غنية عن التشبث في إثباتها بأمثال هذه الروايات الضعاف). (انتهى النقل)

هذا ما نقل عن السيد الخوئي  قدس سره في ما يخص البحث الرجالي – و هو من فروع علم التاريخ – لكنه رضوان الله عليه سلك هذا المسلك كذلك في مباحثه الفقهية كذلك ، حيث ننقل عن السيد الهاشمي في كتابه ص 292 :

السيد أبو القاسم الخوئي في مواضع متعددة من تقريرات درسه، فقد أورد في مبحث التنجيم رواية ذكرها الحر العاملي في كتابه الوسائل، ثم قال: (ضعيفة لعبد الله بن عوف وعمر بن سعد ومحمد بن علي القرشي وغيرهم ، ولكن آثار الصدق منها ظاهرة…) ((أقول: و هو شبيه بما ذكرناه عن الشيخ الأنصاري قدس سره)). وفي مبحث جواز إرتزاق القاضي من بيت المال إستدل على ذلك بوجوه منها : فقرة واردة في عهد الامام علي عليه السلام لمالك الأشتر، ثم قال: (والعهد وإن نقلا مرسلا إلا أن آثار الصدق منه لائحة كما لا يخفى للناظر إليه…). وفي مبحث حرمة الولاية من قبل الجائر قال: (ويدل على الحرمة أيضا ما في رواية تحف العقول من قوله عليه السلام: (إن في ولاية الوالي الجائر دروس الحق كله وإحياء الباطل كله ، وإظهار الظلم والجور والفساد ، وإبطال الكتب، وقتل الأنبياء ، وهدم المساجد ، وتبديل سنة الله وشرايعه، فلذلك حرم العمل ومعونتهم والكسب معهم إلا بجهة الضرورة نظير الضرورة إلى الدم والميتة ، وهذه الرواية وإن كانت ضعيفة السند…، إلا أن تلك التعليلات المذكورة فيها تعليلات صحيحة، فلا بأس بالتمسك بها) انتهى النقل

أما بخصوص كتاب سليم بن قيس ، فقد علق السيد الخوئي قدس سره بالآتي بالرغم من تضعيفه لابن أبي عياش الواقع في إسناد الكتاب لسليم بن قيس رضوان الله عليه حيث قال:

(إن كتاب سليم بن قيس – على ما ذكره النعماني – من الأصول المعتبرة بل من أكبرها، وإن جميع ما فيه صحيح قد صدر من المعصوم عليه السلام أو ممن لابد من تصديقه وقبوله روايته، وعده صاحب الوسائل في الخاتمة في الفائدة الرابعة من الكتب المعتمدة التي قامت القرائن على ثبوتها وتواترت على مؤلفيها أو علمت صحة نسبتها إليهم بحيث لم يبق فيه شك) ص 416 انتهى النقل عن كتاب (حوار مع فضل الله)

الميزان في الخبر التاريخي

في هذا الجزء من المناظرة  ، نقد الأستاذ فيصل عدة أمور حول قبول الخبر التاريخي في التراث الحسيني، و اعتمدها كأساس في رد الأخبار الحالية و دعا لاستبدالها بما روي عن أهل البيت عليهم السلام – كما قال  -بإعتماد علوم الرواية و الدراية ، و هذه النقاط كالآتي:

  • أن العلماء يقللون من معاييرهم في قبول الرواية التاريخية
  • روايات حميد بن مسلم تصنف على أنها من روايات المخالفين و لا يجوز الأخذ بها ، بل يجب الأخذ عن ما روي عن أهل البيت عليهم السلام ، و استشهد بثلاث شواهد هي : رواية الرضا عليه السلام في  وضع المخالفين أخبارا في فضائلهم ، قضية زرارة و بكير مع الإمام الباقر عليه  السلام في بعض المشاهد التي أدعي أن النبي صلى الله عليه و آله و سلم كان فيها بالمدينة ، ما حكاه الفضل ابن شاذان رضوان الله تعالى عليه في كتابه (الإيضاح)

و نحن إن شاء الله سنوضح و نبين كل إشكال و نرد عليه بالتركيز على المناهج المعمول بها لدى علمائنا ، مع تأكيدنا على القارئ الرجوع إلى ما ذكرناه آنفا عن علماء الطائفة و محققيها ، لا  سيما ما ذكرناه عن الشريف المرتضى من المتقدمين و السيد جعفر مرتضى من المعاصرين ، و في الرد نقول :

أولا: المباحث التاريخية

أما القول أن العلماء يقللون من معاييرهم في الأخذ بالخبر التاريخي فليس بدقيق ، بل إن الأدوات تختلف بإختلاف الموضوع ، و لنضرب مثلا بالفرق  بين البحث العقائدي في أصول الدين و توابعه و بين البحث الفقهي.

فالبحث العقائدي – بدءا من التوحيد – يتطلب العمل بما يورث اليقين ، فالبناء الإستدلالي هنا يعتمد على المستقلات العقلية في إثبات الخالق و حكمته إلى الإستشهاد بالآيات و الروايات المتواترة في إثبات ما يتعلق بالأسماء و الصفات ، إلى الادلة العقلية الممزوجة بالأدلة النقلية في ما يتعلق بالنبوة و الإمامة و ما يتبعهما ، كقضايا العصمة و اللطف و غيرها.

أما البحث الفقهي ، فيختلف جذريا ، حيث الباحث يبذل جهده و يسعى للمنجزية و المعذرية  ليبرأ ذمته أمام الله، بناء على الأدلة الموجودة من الأصول الإجتهادية و الأصول العملية ، و بسبب الإبتعاد عن زمن النص ، فالرواية في أحيان كثيرة قد لا تكون متواترة و لا تورث اليقين ، بل و غير مستفيضة ، لكن العمل بها يكون بالأخذ بالظنون المعتبرة و غيرها ، و إلا فإنه لا يعقل العمل بمباني و أدلة المباحث العقائدية من تحصيل اليقين فيها و تطبيقها على المباحث الفقهية ، و إلا فإنه لا يبقى حجر على حجر!

و كذا الحال ينطبق في البحث التاريخي ، فالبناء و الأدلة تختلف ، حيث إهتمام الباحث هنا هو جمع الشواهد و قصاصات الأحداث ليصل فيها إلى صورة متكاملة حول الحدث ، و يحاول تحليل المعطيات و الظروف و الأسباب ، و الإعتماد على المصادر التاريخية المعتبرة مع أولوية الأقدم فالأقدم ، و البحث السندي هنا ثانوي كما ذكرنا عن الشريف المرتضى سابقا ، أما تطبيق علوم الرواية و الدراية على المباحث التاريخية كما في الفقهية فلا يصح ، حينها الدائرة تضيق ، لهذا حينما سئل السيد جعفر مرتضى العاملي حول مصادر الباحث التاريخي ، قال:

فإن المصادر المعتبرة للسيرة الحسينية كثيرة ومتنوعة فمن المصادر، كتب الحديث مثل أمالي الصدوق والمفيد وغيرهما..

وقد جمع في البحار كمية كبيرة من النصوص المأخوذة من المصادر المعتبرة على اختلافها ، فلا بأس بإعتمادها كأساس للإنطلاقة الأوسع والأتم للحصول على كثير من النصوص الأخرى المبثوثة في مختلف المصادر الإسلامية ، ولا نستثني منها كتب الحديث والأدب ، والأنساب والبلدان ، والتراجم وغيرها ، فبالإمكان جمع جزئيات كثيرة منها وضم بعضها إلى بعض للحصول على سياق عام للأحداث التي تحكي لنا ما جرى في كربلاء، أو قبلها و بعدها.

http://al-ameli.com/edara/subject.php?id=456

فلاحظ إعتماد السيد حفظه الله على غير كتب  الحديث ، بل إعتماد كتب الأدب و الأنساب و البلدان في البحث التاريخي و عدم علاقتها بعلوم الرواية و الدراية واضح ، لهذا فهو أجاب بجواب في موضع آخر يقول:

إن عناصر البحث التاريخي لا يمكن تحديدها بجهة معينة، فقد يكون المؤثر في الحدث الإنسان نفسه، بسبب دوافع شهوانية أو بسبب طموحات باطلة وقد تنشأ من دوافع غريزية معينة، أو من رؤية خاصة للحياة وللكون، وقد تنشأ من عوامل طبيعية، فلا يمكن أن نقول إذن: إن المفروض بالباحث التاريخي هو أن يقتصر على وسائل محددة في مجالات بحثه، لأنه ـ وكما قلت ـ قد يضطر إلى استخدام كافة الوسائل لاكتشاف الحقيقة بكل خصوصياتها وبكل مفرداتها الصغيرة والكبيرة، باعتبار أن هذا الإنسان مؤثر في هذا الكون ومتأثر به أيضاً، ولا ينحصر التأثر في ناحية ما وفي خصوصية بعينها.

http://al-ameli.com/edara/subject.php?id=271

لهذا لا يمكن حصر البحث التاريخي في علوم الدراية و الرواية ، و في جواب  لطيف آخر لسماحة السيد  البدري يتكلم فيه عن أهمية الكتب التاريخية التي لا تذكر الإسناد ، مع تشدده في البحث التاريخي و إعتماده على التحقيق التاريخي :

و تنعدم القيمة العلمية لكتب التاريخ و الحديث خصوصاً الكتب المتأخرة التي اعتمد مؤلفوها منهج حذف السند نهائياً في قبال الكتب المتقدمة عليها زماناً التي اعتمد مؤلفوها منهج ذكر السند ، و لكنَّها تكتسب أحياناً بعض القيمة عندما يقترب المؤلف من عصر الواقعة أو حين تفتقد الكتب الأخرى التي يذكر مؤلفها سنده إلى الواقعة أو عندما يكون للمؤلف اعتبار خاص في كتابه ذاك ، كما هو الحال في تاريخ اليعقوبي الذي اكتفى بذكر أسماء بعض المصادر التي أخذ عنها في مقدمة كتابه ، و على الرغم من إنَّ تاريخه قام على أساس حذف السند إلى الواقعة التي يرويها خاصة فيما يرجع إلى عهد الجاهلية وسيرة الرسول صلى الله عليه وآله و ما جرى بعده ، إلاَّ إنَّ لرواياته قيمة خاصة في قبال تاريخ الطبري الذي التزم طريقة ذكر السند وذلك لأنَّه ينبه أحياناً إلى معلومات أغفلها الطبري .

http://albadri.info/books/madkhal/index.htm

فزبدة الكلام ، أن البحث التاريخي لا يمكن حصره  في  كتب ذات مجال معين ، و لا يمكن فيه الإعتماد على علم واحد ، حتى و إن كانت الكتب التي ذكرت بعض الأحداث قد اندثرت ، فإنه  لا يمكن إغفالها، بالإضافة إلى ذلك ، فإن على الباحث في الأحداث التاريخية أن يحقق و يدرس تلك الشواهد و الأدلة، و كون  علوم الإسناد و تحقيقها مسائل ثانوية في المباحث التاريخية و غير محورية ، فلا يعني ذلك القبول بأي خبر ، فإن العلماء متفقون أن  ثمة أخبار مكذوبة و غير صحيحة موجودة ، و يتحرزون من  نسبة الرواية جزما للمعصوم .

ثانيا: أخبار  المخالفين

كما أشرنا سابقا ، كان نقد الأستاذ فيصل حول كثير مما يروى في السيرة الحسينية أنه برواية حميد بن مسلم ، و  بحسب كلامه إن حميد بن مسلم هذا  يعتبر من المخالفين ، و أن كثيرا مما رواه مخالف لما هو مروي عن أهل البيت عليهم السلام ، و استدل في ذلك على ما هو مروي في مقتل  القاسم بن الحسن عليهما السلام ، بأن ما حكاه حميد بن مسلم يختلف جدا عن ما رواه الصدوق عن الإمام الصادق عليه السلام في أماليه.

و ردا على ما ذكره الأستاذ فيصل ، نقول أن أهم المصادر الروائية المعتمدة هي الكتب الشيعية التي تروي عن أهل البيت عليهم السلام ، و هي أول مصدر ، و الأمر بعدم الإعتراف و عدم العمل بروايات المخالف ليس بإطلاقه ، خصوصا أن كتبنا الحديثية ملأى بروايات المخالفين من الواقفة و الفطحية و غيرهما ، حيث أخذ علماؤنا الرواية عنهم بدقة و عناية فائقة، و هذا في ما يخص العقائد و الأحكام ، لهذا يذكر عن الشيخ الطوسي رضوان الله تعالى عليه قوله في الفهرست:

( إن كثيرا من مصنفي اصحابنا واصحاب الاصول ينتحلون المذاهب الفاسدة وان كانت كتبهم معتمدة )

مقدمة كتاب (الفهرست)

و معروف أن كل صاحب مذهب و كل صاحب رأي له أجندته الخاصة ، و كل يريد جر النار لقرصه ، و نقول هذا في العقائد و الأحكام ، فكيف بالرواية التاريخية ؟

نعم ، نتفق مع الأستاذ، أن الأصل و المصدر في كل شيء هو ما ورد عن أهل بيت العصمة عليهم السلام ، لكن ليس كل ما يخص واقعة الطف قد وصلنا عنهم ، بل إن جوانبا كثيرة ظلت مبهمة و غير معروفة ، و لهذا نجد الكثير من هذا الجدل في زمننا الحاضر حول قضية أحداث وقعة الطف، لهذا نرى علماءنا ، لا سيما من المتقدمين إعتمدوا على رواية حميد بن مسلم ، لذكره تفاصيلا غير موجودة تخص الواقعة لم تصلنا عن أهل البيت عليهم السلام.

فإنه و بالإضافة لما ذكرناه ، كانت السيرة العلمائية هي الأخذ بما روي عند العامة إن لم يكن مخالفا لما هو مروي عن أهل البيت عليهم السلام ، و نظير ذلك هو عمل الشريف الرضي رضوان الله عليه في جمع نهج البلاغة من مختلف المصادر التاريخية و الحديثية المتوفرة عنده ، فلهذا يصرح الشريف الرضي – كما نقل السيد عبد الزهراء الحسيني رحمه الله مؤلف كتاب مصادر نهج البلاغة – أنه نقل عن  الطبري و الواقدي و الجاحظ ، و المبرد ، أبو عبيد القاسم بن سلام و غيرهم ، فهل نسقط نهج البلاغة لأنه حوى روايات من مصادر سنية ؟

و لا ننس ، أن الشريف الرضي رضوان الله عليه ، أعمل حسه و علمه و عبقريته الأدبية في إنتخاب الخطب و الكلمات لأمير المؤمنين عليه السلام ، و حذف أسانيد الكتاب ، أي أنه أعمل جهده التحقيقي ، و صارت خطب نهج البلاغة تنسب للأمير عليه السلام ، من دون الحاجة لذكر إسناد أو راوٍ أو علوم الرواية و الدراية، فهو ككتاب أثبت نفسه بنفسه لبلاغته و صياغته ، بحيث علم علماء اللغة و الأدب أن هذا الكلام لا يصدر إلا عن مثل علي عليه السلام ، حتى قيل أن كلامه دون كلام الخالق و فوق كلام المخلوق.

محل الشاهد هنا ، أن من خطب نهج البلاغة ، ما نقله الشريف الرضي رضوان الله عليه و آله عن مصادر غير شيعية ، ما يكشف عن سيرة العلماء المتقدمين بجواز النقل عن المخالفين بشرط عدم المخالفة  ، و بعد تحقيق و تمحيص ، كما فعل الشيخ المفيد رضوان الله عليه في كتابه الجمل و الإرشاد.

و ما استشهد به الأستاذ فيصل كأدلة على عدم جواز العمل بأخبار المخالفين لا تصلح في المقام إلا خبر زرارة و بكير رضوان الله عليهما في زيارتهما للأماكن التاريخية بالمدينة المنورة. أما خبر الرضا عليه السلام مع ابن أبي محمود ، كما رواه الصدوق في كتابه معاني الأخبار حديث ج1 ص 271 ، فسبب عدم صحة الإستشهاد به هو قول أبن أبي محمود:

فقلت للرضا عليه السلام: يا بن رسول الله إن عندنا أخبارا في فضائل أمير المؤمنين عليه السلام وفضلكم أهل البيت وهي من رواية مخالفيكم ولا نعرف مثلها عندكم أفندين بها؟ فقال: يا ابن أبي محمود لقد أخبرني أبي عن أبيه عن جده عليه السلام ان رسول الله (ص) قال: من أصغى إلى ناطق فقد عبده فإن كان الناطق عن الله عز وجل فقد عبد الله وإن كان الناطق عن إبليس فقد عبد إبليس

فثمة قيود ذكرها إبن أبي محمود ، حيث ذكر عن هذه الروايات :

  • أنها في الفضائل ، أي أن لها أثرا عقائديا
  • أنها لم ترد عن أهل بيت العصمة عليهم السلام بقرينة قوله ( لا نعرف مثلها عندكم)
  • التدين و العمل بأخبار المخالفين

لهذا جاء الخبر بالنهي عن العمل بأخبار المخالفين التي يكون لها أثر شرعي ، و الروايات التاريخية لا تحمل هذه الأمور الثلاثة ، فالروايات التاريخية لا يستنبط منها أحكاما في الحلال و الحرام ، و لايبنى عليها أي أثر، و هو نظير عمل الرضي في كتابه نهج البلاغة بحذف الأسانيد لعدم الحاجة لها ، لكونه ليس كتابا يستقى منه الأحكام الشرعية.

أما ما حكي عن الفضل بن شاذان عن كتابه الإيضاح فكان في سياق الإحتجاج على من هم على غير مذهب أهل البيت عليهم السلام ، و أنهم أخذوا دينهم عن كل من هب و دب ، فحينما ترجع إلى بدايات حديثه رضوان الله عليه ، فهو يعيب على السنة بعض عقائدهم و أحكامهم الفقهية و إختلافهم فيه ، حتى اختلف فقه أهل الحجاز عن أهل العراق و وصف قبح ذلك كله ، و أرجع كل ذلك إلى أنهم أخذوا عن كل من هب و دب حتى النواصب و المجرمين. فمن الواضح في سياق كلام الفضل رضوان الله عليه أنه في مقام الإحتجاج ، لا مقام تقرير المباني العلمية و توضيحها و تنقيحها.

و على هذا الذي نقلناه نستخلص النقاط الآتية :

  • أن صحة السند ليس المعيار الوحيد في اعتبار الرواية
  • أن العمل بالخبر الموثوق و الأخذ به معمول به في روايات الأحكام و غير الأحكام
  • أن أخذ الخبر من مصدر ليس لنا إسناد صحيح إليه لا يعني إسقاطه ، كما عمل الشيخ الأنصاري مع تفسير العسكري عليه السلام ، و السيد الخوئي مع كتاب سليم بن قيس
  • أن السيد الخوئي قدس سره نفسه اعتمد على بعض المواضيع بالرغم من ضعف الخبر
  • ان المحورية في رد و قبول الخبر هو مضمونه ، و ما يدعم به من قرائن و شواهد تقوي صحته بالرغم من ضعف إسناده
  • أن خبر المخالف لا يرد بإطلاقه
  • أن معايير الأدلة تختلف بمواضيعها ، فلا يصح تطبيق المعايير الفقهية على المعايير التاريخية
  • أن علماءنا أخذوا بخبر المخالف ، لكن بعد التدقيق و الفحص و التمحيص
  • هناك شواهد نقلناها على أن بعض الخطب الموجودة في نهج البلاغة مأخوذة من مصادر غير شيعية كما نقل السيد عبد الزهراء الحسيني الخطيب  في كتابه (مصادر نهج البلاغة)

و الحمد لله رب العالمين ………….

ملحق أقوال العلماء في التعامل مع الروايات التاريخية من جهة مطلق النقل و من جهة النقل:

ما ذكره الشيخ محمد سند حفظه الله:

http://m-sanad.com/ar/archives/232

إن الحجية والدليل الإثباتي لا ينحصر ولا يقتصر على الطريق الصحيح و خبر الواحد المعتبر  ، لا في البحث الفقهي ولا في بحوث العلوم الاخرى ، بل هناك الطرق الأخرى أعظم شأنا واعتبارا من الخبر الواحد الصحيح ، فإن الخبر المتواتر والمستفيض والموثوق اعلى حجية منه ، وذلك لقوة درجة الإطمئنان عن الظن المتوفر في خبر الواحد الصحيح ، والخبر المتواتر والمستفيض والموثوق بصدوره لا يعتمد على إنفرادية الخبر وأحاديته بل يعتمد على تجمع ومجموع الطرق و تراكم عددها من الناحية الكمية و من الناحية الكيفية من جهة القرائن و الشواهد المتقارنة و المتعاضدة و المتظافرة ، و هذا يعطي رصيدا في قوة إحتمال الصدق أكثر بكثير من أحادية الخبر الواحد المنفرد ، بل إن جملة علماء الإمامية في القرن الثالث و الرابع و الخامس ، جلهم لا يعتمد على أحادية الخبر الواحد و لو كان صحيحا ، بل يعتمدون على الإستفاضة و التراكم للقرائن و تكثرها تراكميا ، فلاحظ ما كتبه الشيخ المفيد في الإرشاد من تاريخ المعصومين ع ، و كذلك الشيخ الطبرسي في كتابه إعلام الورى وغيرهما في بقية الكتب في تاريخ المعصومين (ع) ، و لا يخفى أن مخزون القرائن والشواهد لا يحافظ عليه إلا بسبر و استقصاء كل المصادر و الكتب  ، و على ضوء المنهج التراكمي و التصاعد الكيفي للدلائل و الشواهد و القرائن ، فإنه لا يفرط في أية قصاصة ولا يفرط بأية قرينة و لا يفرط بأية معطية ، مهما ضعفت هي في نفسها لأن القيمة الإستدلالية لا تثمنها و لا توزنها بما هي منفردة فقط ، بل بما هي تنضم تراكميا مع غيرها من عشرات و مئات و آلاف القصاصات و القرائن و المعطيات و الدلائل .فإن ضعفها بمفردها و انفرادها ، لا يعني ضعفها منضمة و مجتمعة مع غيرها ، و هذه حقيقة واقعية منهجية معرفية منطقية تكوينية  ، قد انتهجها جميع عقلاء البشر فإنك ترى أن المحقق الجنائي على صعيد الحوادث الفردية أو الحوادث و النزاعات الدولية لا يفرط ولا يتهاون بأية معطية و قصاصة مهما تضاءلت نسبة إحتمال إيصالها للواقع ، بل يكترثون و يحافظون و يختزنون كل شاردة و واردة و كل صغيرة و كبيرة و كل جليل و دقيق فإنها لربما كانت رأس الخيط الذي منه ينفتح باب الحقيقة المجهولة المغمورة ، وكم كانت قرينة ضعيفة بمفردها تعاضدت بعد ذلك بعشرات او مئات القرائن الاخرى ، فكانت طريقا مفتاحا للوصول إلى الحقيقة الواسعة  ، وعلى ضوء ذلك فإن الحفاظ و الإحتفاظ بالتراث و الكتب و تعاهدها بالدراسة و المدارسة و التنقيب و البحث أمر حضاري تمدني علمي معرفي تحقيقي ، وإاهمالها ضياع للعلم و الحقيقة و المعرفة و توغل في الجهالة و إبتعادا عن الوصول الى الواقعية.

ما ذكره الشيخ عبد الحسين الحلي رضوان الله عليه حول مشهور الفقهاء في ذكر الرواية التاريخية و نقلها في كتابه النقد النزيه ص 23 :

إنّ وقائع الطف وما احتفّ بها وما سواها مما یقرأه الذاکرون لم تتضمن أحکاماً إلزامیۀ لینظر فی سندها و یعرف أنّه من قسم

الصحیح أو الموثق أو الحسن ، و لا حکماً غیر إلزامی لیقع الکلام فی تحکیم أخبار التسامح فی أدلۀ السنن فیها – کما هو المشهور –

أو عدمه – کما هو مذهب بعض -، بل هی قسم ثالث من سنخ الرّخص، و إن لم تکن رخصاً حقیقۀ ، و أعنی بذلک القصص و المواعظ

و الفضائل و المصائب و أخبار الوقائع، فإنها نوع من الأخبار لا تدخل فی ما تضمّن الأحکام الشرعیۀ لیجري علیها حکمه من لزوم

التصحیح و جواز المسامحۀ. و ما یکون کذلک مما لا یترتب علیه حکم شرعی، لا ینبغی النظر فی سنده إذا کان مما لا تنفیه فطرة

العقول ، وکان الضرر فیه مأموناً علی تقدیر کذبه فی نفس الأمر. وقد ادّعی الشهید الأول (قدس سره) فی (الذکرى) أنّ أهل العلم

یتسامحون فی أخبار الفضائل. ونسب الشهید الثانی فی (شرح الدرایۀ) ، إلی الأکثر جواز العمل بالخبر الضعیف فی القصص

و المواعظ و الفضائل ، و استحسن ذلک ما لم یبلغ الخبر فی الضعف حد الوضع و الاختلاق. و المراد بالعمل بالخبر الضعیف فی

الفضائل و المصائب هو نقلها و استماعها و ضبطها فی القلب، و ذلک مما لا محذور فیه عقلًا، لفرض أمن المضرّة فیه علی تقدیر

الکذب، و شرعاً لأنه لا یعدّ عرفاً من الکذب حتی تترتب علیه أحکامه، و لیس ثمّۀ عنوان آخر من العناوین المحرمۀ یشمله حتی یقال

لأجله بعدم الجواز. قال شیخنا المحقق الأنصاري – بعد نقل العبارة المتقدمۀ عن الشهید الثانی -: (المراد بالعمل بالخبر الضعیف

فی القصص و المواعظ هو نقلها و استماعها و ضبطها فی القلب ، و ترتیب الآثار علیها عدا ما یتعلق بالواجب والحرام. و الحاصل أن

العمل بکل شیء علی حسب ذلک الشیء ، و هذا أمر وجدانی لا ینکر ، و یدخل فی ذلک [حکایۀ] فضائل أهل البیت و مصائبهم.

و یدخل فی العمل – أي: العمل بالخبر الضعیف فی الفضائل و المصائب و شبهها – الإخبار بوقوعها – أي: الفضائل و  المصائب –

من دون نسبۀ إلی الحکایۀ علی حد الإجتهاد بالأمور المذکورة الواردة بالطرق المعتمدة ، کأن یقال: کان أمیر المؤمنین (علیه

السلام) یقول کذا ، و یبکی کذا ، و نزل علی مولانا سید الشهداء کذا و کذا، و لا یجوز ذلک فی الأخبار الکاذبۀ، و إن کان یجوز

حکایتها فإنّ حکایۀ الخبر الکاذب لیست کذباً، مع أنّه لا یبعد عدم الجواز إلاّ مع بیان کونها کاذبۀ.  ثم إن الدلیل علی جواز ما

ذکرنا من طریق العقل ، حسن العمل بهذه مع أمن المضرة فیها علی تقدیر الکذب ، وأما من طریق النقل فروایۀ ابن طاووس

و النبوي  مضافاً إلی إجماع (الذکرى) المعتضد بحکایۀ ذلک عن الأکثر). انتهی کلام المحقق الأنصاري بنصه.

الشيخ اليوسفي الغروي , صاحب موسوعة الإمام الحسين عليه السلام:

http://nosos.net/%D9%85%D9%86%D9%87%D8%AC-%D8%A7%D9%84%D8%A8%D8%AD%D8%AB-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%AE%D9%8A/

ما هي طرق الإثبات التاريخي التي تعتمدون عليها؟ و ما قيمة الإسناد الروائي لإثبات الواقع التاريخي؟ فهل الإسناد الروائي حجة في الإثبات التاريخي، كالفقهي؟

إن محاولة الوصول إلى أقدم النصوص و أقومها تتطلب مقارنة النصوص المتوفرة في الموضوع ، وملاحظة المرجحات التي تنصر نصاً على آخر ، أو خلو نصٍّ من الكثير من نقاط الضعف دون النص الآخر.  و هذا معناه أنه لا بد من ممارسة المؤرّخ لعمليّات مقارنة ونقد فاحص؛ لكي يحصل على النص المختار.

إنّ النظر إلى السند الروائي في البحوث التاريخية يجرّني إلى ملاحظة تطال الحوزويّين عامّة. إنّ الاعتناء بالأمور التاريخية معدوم أو شبه معدوم في أوساطنا. و يمكنني القول: إنّه يقرب من درجة العدم. إنّ قلّة ممارسة البحث التاريخي، و كثرة ممارسة البحث الفقهي والتعامل مع النصوص و المستندات الفقهية، أدّى و يؤدّي إلى مطالعة المصادر التاريخيّة بنفس الآليات التي تطالع بها النصوص الفقهية.

وهذا هو ـ من باب المثال ـ ما دعاني إلى دراسة وقعة الطف.  فقد لاحظت أنّ رواية الطبري عن الكلبي، عن أبي مخنف، هي أوّل جامع لأخبار مقتل الإمام الحسين.

لا يجدر مناقشة الموضوعات التاريخيّة بآليات النقد السندي الفقهيّة، و لا سيما أخبار كربلاء، فإنّنا إذا أردنا مناقشتها بهذه الكيفية فلن يسلم فيها شيء ، و لن يبقى إلا الموضوع الموثوق به ، كأن يقال: قُتل الحسين في يوم عاشوراء أو عصره عطشاناً في أرض كربلاء. وهذا ما يحزُّ في نفس أيّ حوزوي، بل أيّ شيعي يعتقد بقضيّة الإمام الحسين.

وكنت أرى أنّه إمّا أن يفتح الباب على مصراعيه ، فقل ما شئت وكيفما أردت، وإمّا أن ننسف اعتبار كلّ الأخبار، وتبقى هذه الكلمة: «قتل الحسين عطشاناً في عصر كربلاء».

كان أحد المحقّقين في النجف قد انتهى إلى نفي رؤيا الإمام الحسين لجدّه في المدينة ، مستدلاًّ بأدلّة خمسة، و قد دفع بي هذا الأمر إلى التحقيق في المسألة شخصياً، و قد أدّى بي ذلك إلى المصادقة على ما توصّل إليه مضيفاً عشرة أدلّة.

وقد حملت ذلك إلى السيّد عبد الرزاق المقرّم، صاحب (المقتل) المعروف، و كان رجلاً كبيراً في السن، و التقيت به في بيته، و عرضتُ عليه مقالتي، وعندما انتهيت ظلّ ساكتاً ، فسألته عن رأيه، فقال: «تريدنا أن نبحث أخبار كربلاء بهذا الشكل ، إذا بحثنا بهذا الشكل فلن يبقى شيء».

و قد ذكر لي السيد المقرم أن الداعي إلى تأليف المقتل هو أن الشيخ محمّد حسين كاشف الغطاء كان قد أعدّ مقتلاً يقرأه في اليوم العاشر؛ التزاماً بوقفية دار جدّه الشيخ جعفر الكبير، ثمّ طبعه ونشره.  وقد رأيت أنّ هذا المقتل الصغير لا يتناسب مع هذه القضية الكبيرة ، فقلتُ في نفسي: أنت صغّرتها أكثر فأكثر.

و من هنا عرفت الوجه في تقسيم السيّد المقرّم مقتله إلى ثلاثة أقسام: الأوّل: في دفع الشبهات المثارة حول ثورة الإمام الحسين، و شبهة التباكي، و اللطم، و حمل العيال…؛ و الثاني: في المقتل؛ و الثالث: في المراثي. و كان هدفه من ذلك هو إيجاد الحجم المناسب مع واقعة كربلاء.

و نحن إذا أردنا أن نسير في أخبار كربلاء على الطريقة الحوزويّة ، فإنّ أبا مخنف ـ و هو جامع الكتاب، و ليس الراوي [المباشر] ـ يعتمد على الوسائط، و بالتالي فإنّ ذلك يعني وجود أخبار مجهولة ، أو في رواتها مَنْ هو من أصحاب ابن سعد.

ولكنّنا نجد أنّه من غير الصحيح أن نتعامل مع روايات كربلاء كما نتعامل مع الروايات الفقهيّة، التي تريد أن تثبت حكماً أو تنفيه.

أمّا في المقام فيكفي أن يكون موجباً للوثوق. و هذا ما حمل النجاشي على التعبير بـ «يركن إلى رواياته». و الوثوق يحصل عبر تجميع القرائن ، التي تتراكم ، و تؤدّي ؛ بحساب الاحتمالات، إلى الاطمئنان العرفي و الوصول بهذا الشخص الراوي إلى درجة الإعتماد. وهذا هو المطلوب في الروايات التاريخية.

ما ذكره الميرزا النوري الطبرسي رضوان الله عليه في كتابه (اللؤلؤ و المرجان ص 222 نقلنا أهمها) في جواز  العمل بالخبر الضعيف في الفضائل و الأخبار بشرط عدم الوهن  و الوضع و الإختلاق :

و أما العمل بالأخبار الضعيفة الواردة في أبواب الفضائل و القصص و المصائب ، فيكون بالإستماع إليها و حفظها و ضبطها و تدوينها ، و  نقلها و عليه ففي هذا المقام ، مهما كان الخبر ضعيفا ، فإنه بمقتضى هذه السيرة المعلومة عن العلماء ، و هذه الأخبار المعتبرة ، يجوز التسامح بنقله و ليس على قائله أو قارئه أو كاتبه أي حرج أو إشكال ، بل سينال الأجر المجعول على ذلك إذا كان واقعا و صدقا.

و قال أيضا بعد عدة أسطر:

و اما في غير الواجب و الحرام ، فيشترك كل العلماء بالعمل الضعيف و لو لم يكن له جابر ، ويسيرون على هذا النسق في أبواب المستحبات ، بل المكروهات ، و كذلك في أبواب الفضائل و المصائب و القصص.

و قال أيضا :

و إذا تأملنا في سيرتهم – أي السيرة العلمائية – و موارد عملهم به – أي الخبر الضعيف –  إن ما  نسب إليها في هذا المقام صحيح ، بل صرح به جماعة من الأعلام ، و لكن ليس على ذلك النحو من الإطلاق و العموم الذي توهمه كلماتهم في بادئ النظر ، و تتصوره بعض الأذهان غير المستقيمة من أنهم يعملون في الأبواب المذكورة بكل خبر و من أي راو كان ، سواء علم قائله أو لم يعلم ، و سواء علم فسقه و لا مبالاته أم لم يعلم ، و بكل كتاب نصل إليه أيديهم عرف صاحبه أم لم يعرف ، حتى و لو لم يكن لصاحبه أو لكاتبه أصل ، و سواء وجد فيه بعض الأكاذيب  الواضحة أم لم يوجد فيه ذلك ، أو أنهم يعملون بما ينقلونه عن ذلك الكتاب و بالأخبار الموجودة في تلك الأبواب ، بل بالأخبار الموجودة على ظهر الكتب أو على حيطان المساجد أو المشاهد.

 

مقالات مشابهة

اترك تعليق


The reCAPTCHA verification period has expired. Please reload the page.