ليست الكلمة إلا مجموعة من الحروف جُمِعَتْ بشكل معين وبتركيب مقصود وفي مناسبة محددة لتقوم دالًا على معنى من المعاني الذي يصبح فيما بعد مدلولًا لها، وهكذا هو الوضع اللغوي مختصرًا قد ذكرته للتذكير بحقيقة ثقافية غاية في الأهمية، وهي أن اللفظ يكتسب قيمته من المعنى الذي يدل عليه، فلا يصح لأحد أن يطلق كلمة يجسد فيها مفهومًا من المفاهيم أو مصطلحًا من المصطلحات فيحدث أمرًا عاليًا عند المتلقي ثم يقول: لم تكن إلا كلمة!!
ثم أن للكلمة أصل تشتق منه مشتقات متكثرة تعبر عن الحالة المتفرعة على الأصل، وهذا أمر لازم ومتحقق حتى لو لم يلتفت إليه المتحدث أو المخاطب، إذ أن كل واحد منهما متوجه إلى ما يراد التعبير عنه، ولكن الأصل اللغوي لا يترك طريقه نحو لا وعي كليهما، وهنا مكمن المشكلة (العظيمة جدًا) والتي أريد الالفات إليها في هذه السطور
قال الإمام علي (عليه السلام): “احفظ لسانك، فإن الكلمة أسيرة في وثاق الرجل، فإن أطلقها صار أسيرًا في وثاقها”.
مجموعة كبيرة من الكلمات نطلقها للتعبير عن حالة معينة، فنعبر عنها فعلًا ولكننا في نفس الوقت نؤسس لثقافة جديدة غالبًا ما تكون مخالفة لثقافتنا وربما لثوابتنا أيضًا، وللأسف أن هذا الخطأ يصدر عن أناس لهم وزنهم في المجتمع ولكلمتهم آذان تستمع وقلوب تتبع، ومع الأخذ في الاعتبار عدم مقصودية السوء لديهم إلا أنهم –وعن غير قصد- يتسببون في الكثير من الانحرافات الثقافية داخل المجتمع.
لقد أولى القرآن الكريم عناية خاصة بالكلمة ونهى عن استعمالها هكذا دون مراعاة لما قد تحدثه من ثقافات منحرفة واشتباهات مفاهيمية، ولذلك نجد السماء وقد انزعجت من بعض الأعراب عندما ظهر منهم إدعاء الإيمان، فقال مؤنبًا مقرعًا: (قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ)، فمسألة أن يترك الأمر هكذا ويأتي كل من هب ودب ليصنف نفسه في عداد المؤمنين، فهذا يفقد الكلمة معناها الحقيقي بل ويوسعه فيدخل في دائرته ما ليس منه، ومع تقادم الزمن يفهم الإيمان هكذا منحرفًا مشوهًا، ولو أننا ننتقل بفكرنا لتلك الحقبة الزمنية التي نزلت فيها الآية الكريمة وبثقافتنا المعاصرة لقلنا لمن يحذر من الكلمة المستعملة في غير موضعها وبغير مقاسها واستيعابها: يا رجل لا تعقد الأمور فالناس يعرفون المؤمن من غيره ولا داعي لإثارة الناس والعبث بنفسياتهم ومشاعرهم!! أليس كذلك؟
إن هذه العبارة الأخيرة (يا رجل لا تعقد الأمور فالناس يعرفون المؤمن من غيره ولا داعي لإثارة الناس والعبث بنفسياتهم ومشاعرهم!! أليس كذلك) قد أسست لثقافة حرفت التوعية عن مسارها بل وحولتها إلى شبح مخيف، وهذا ما أعانيه الآن في هذه اللحظة وأنا أكتب هذا المقال، بالرغم من أنني أريد إيصال رسالة واضحة لأبناء مجتمعي الذين أحبهم وأجلهم وأخصهم بكل تقدير واحترام، ولكنها ثقافة أصبحت واقعًا نعيشه بكل تفاصيله..
أعلم جيدًا بأن مجتمعنا مجتمع متدين بطبعه حتى لو شط في حين من الزمن فإنه سرعان ما يرجع إلى طبيعته مع أول صفعة يتلقاها، ولكن الحق أن لا ضمانة لاستدامة هذه الحالة مع تكاثر المستوردات الثقافية من جهة وهجران ما تحمله طبيعة المجتمع التدينية والفكرية بشكل عام من مفاهيم صريحة جدًا، وعليه فإن مصطلحات من قبيل:
– النضال محل الجهاد..
– المدنية محل الإسلامية..
– الوطنية محل الولائية..
– القائد محل الإمام..
– الدستور العقدي محل الثقلين..
– الحدود الجغرافية محل الدولة الإسلامية الواحدة..
– تقديم العروبة على الإسلام في الخطابات والمؤلفات..
– القومية محل الدينية..
إن لهذه المجموعة البسيطة في عددها من المفاهيم القدرة الكافية لقلب النظام الثقافي في المجتمع وبشكل خطير جدًا، والخطورة الأكبر أن هذا النوع من التغيير يأتي بأحد طريقين، فإما يكون فجأة في وسط زخم جماهيري يصر عليه فيأخذ بتلابيب المجتمع ويفقده القدرة على التقييم والتمييز، وإما أن يكون متدرجًا كالريح التي تنسل من كل جهة حتى تملأ المكان، والأدهى أنه وبعد أن يحصل التغيير فإن المجتمع يكون قد فقد مؤهلات الرجوع لأصوله الثقافية بل ويتنكر لها وينكرها فتصبح في قاموسه تخلفًا ورجعية!!
لابد لي من الإشارة سريعًا إلى بعض المعاني التي تجرها بعض تلك المصلحات إلى لا وعي المجتمع فتتسب في قتل شخصيته، وأما باقيها فأتركه لجهد القارئ الكريم..
ماذا نريد من الحراك السياسي؟ نريد الإصلاح الحقيقي.
لماذا نريد الإصلاح الحقيقي؟ لأنه مطلب إنساني.
ومن يقرر صحة مطالبنا الإنسانية ويضمن مجانبتها للخطأ؟ لا شك في أنه خالق الإنسان.
وأين نجد ما يقره خالق الإنسان؟ في الثقلين حتمًا، الكتاب والعترة.
وماذا يسمي الخالق الحراك الإصلاحي؟ يسميه جهادًا.
وما معنى الجهاد؟ الجهاد مصطلح مرتبط بالسماء، حيث ذكره القرآن الكريم وجاء في أحاديث العترة الطاهرة بمعنى المبالغة واستفراغ ما في الوسع والطاقة لمحاربة الباطل بكل وسيلة مشروعة وفي تدرج واضح، وكل ذلك طلبًا لرضا الله تعالى، فالجهاد جنة المجاهد؛ فهو يرى فيه رضا الخالق تبارك ذكره، وعليه فمصطلح الجهاد وبمجرد استعماله وإشاعته بين الناس يشكل حالة ثقافية تتراكم مع غيرها فتصوغ شخصية إيمانية لها تقعيد تديني واضح.
أما مصطلح النضال، فبالإضافة إلى أنه ليس من عندنا أصلًا ولم يرد لا في لسان القرآن المجيد ولا في روايات الأطهار من آل بيت النبوة (عليهم الصلاة والسلام)، فهو أيضًا فقير جدًا في معناه الشخصي..
النضال هو المباراة في الرمي، وهذا يعني نفيًا تامًا لقضية الحق والباطل، إذ أنه سباق بين طرفين نحو هدف واحد وهو إصابة المرمى الذي قد يصل إليه هذا أو ذاك دون النظر في خفياته الثقافية وإن كان صاحب حق أو صاحب باطل، لذلك فإن صدام (عدو) الحسين مناضل، والقذافي مناضل، وعندهم عمر المختار مناضل وغاندي مناضل، وأيضًا الإمام الحسين (عليه السلام) مناضل!! فالقضية قضية تسابق نحو غاية واحدة لا يمكن أن تكون غاية الإصلاح بأي حال من الأحوال، فطريق أهل الإصلاح غير طريق أهل الفساد والإفساد، أما النضال فيسعى فيه الجميع نحو المرمى، وهو بلا أدنى شك كرسي السلطة حكومي كان أو ملوكيًا..
نعم، ربما قلة هي التي تلتفت إلى مثل هذه الأبعاد في قضية الكلمة ومعانيها، ولكن الكل يقع تحت وطأة تأثيرها وفي الغالب دون شعور أو انتباه، وللأسف أجد الكثير من الأخوة يصرون على استعمال هذا المصطلح وكأن مصطلح الجهاد ضيق لا يناسب إلا المساجد والمآتم!!
بين القائد والإمام، وهنا مشكلة عظمى تفرخ لنا جيلًا أنسه في أن يكون عبدًا، بل ويعتبر العبودية لمثيله عزًا وكرامة وربما قربًا من الله سبحانه وتعالى.. فلندقق جيدًا..
القود والسوق واحد في مؤداه إلا أن الأول من الأمام والثاني من الخلف، وبين القود والسوق قطيع من الأنعام!!
أعتذر جدًا، ولكن القائد يعني من يمسك بالزمام ويذهب بمربوطه دون أدنى حق للمخالفة من هذا الأخير، ولذلك نرى في مجتمعاتنا بأن مصطلح القائد يلازمه سلوك الانقياد، ومن يحاول طرح رأي أو فكرة في قبال قول (القائد) فالويل له ثم الويل، وحق أن يكون ذلك، فهذه طبيعة المصطلح وهذا ما يشكله من ثقافة في فكر المجتمع.
أما الإمامة وهي تلك المرتبة العالية جدًا والتي يوجه العلماء في بحوث رصينة متينة إلى أنها أعلى درجة من النبوة فهي تعني وبشكل مباشر حضور من يراد الإئتمام به، فالاختيار والمرونة ظاهرة جلية في معادلة الإمامة، ومنفية مسحوقة في نظرية القيادة، هذا وبالرغم من أن القيادة لائقة بالإمام إذا كان معصومًا، إلا أن هذا لم يدفع السماء لفرضه على الناس بالنار والحديد، بل جعلها مفتوحة مع التصريح بالنتائج المترتبة (يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَؤُونَ كِتَابَهُمْ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً * وَمَن كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً).
وبالمثل فإن الابتعاد عما قرره الله تعالى في القرآن الكريم وعلى لسان المعصومين (عليهم السلام) يؤدي وبشكل مباشر إلى قتل الثقافة الإسلامية في شخصية المجتمع، وهذا ما يمارسه بعض إخوتنا في سوح الإصلاح والعمل السياسي والتربوي والاجتماعي والاقتصادي بشكل عام، وهم بذلك يدفعون الشعوب المتدينة نحو الميوعة الثقافية –من حيث لا يقصدون-، لذا فإنني أكتب هذه السطور محذرًا من أوزار قد تلازم بعض المؤمنين المتدينيين عندما تتعلق مصائر الناس في رقابهم.
ثم أن ديننا عظيم جدًا قد جعله الله سبحانه وتعالى مستوعبًا لكل أبعاد الحياة غنيًا بدواله ومدلولاته، مؤسسًا لبناء ثقافي متكامل، نعم، هذا لا يعني أبدًا رفض الثقافات الأخرى وعدم التعاطي مع المصطلحات العلمية، فالأمر غير هذا التصور، لا تذهبن الأوهام ببعض الرافضين لما أطرحه هنا.
أدعو الجميع لمراجعة ما تدل عليه وما تفرزه وما تولده وتسببه من عاهات ثقافية مصطلحاتٌ مثل الدولة المدنية والديموقراطية والوطنية والقومية وما نحو ذلك..
إنها مفاهيم قد تحل مشكلًا اليوم، وقد تزهر في المجتمع جوانب جميلة، ولكنني لا أشك في أنها كارثة في الغد ومصيبة في الذي بعده..
السيد محمد علي العلوي
8 من ذي الحجة 1432هـ
5 نوفمبر 2011م