ثلاثُ مسائِل في البناء الفِكري

بواسطة Admin
0 تعليق

 

يتأمَّلُ الإنسانُ أمرًا ما، ويحاول قراءته وفهمه بشكل صحيح، وإن اجتهد في ذلك، إلَّا أنَّه من الصعب عليه إصابة ما يصبو إليه، ما لم يتجاوز حدود نفس الأمر إلى ما يمكنه إدراكه ممَّا يرتبط به من جهات العِلَل السابقة، والمعلولات اللاحِقة.

إنَّه لمِنَ المُهِمَّاتِ أن يسعى العاقِلُ لتحصيل المُقَدِّمات اللازمة للتَوَفُّرِ على عقلية تنتقل به من مرحلة التأمُّلِ إلى مرحلة التدَبُّر، وفِيها تكون عنايته بقراءة امتدادات الموضوع من جهتي العِلَلِ والمعلولات، فيأمنُ الوقوع في اللوابس وما يتبعها من تعسُّفات وتأزيمات.

ومن جهة أخرى، فإنَّ هذه المَلَكَة توقِفُ الإنسانَ على مشارِف الإبداع ومدارِج آفاق الكمال، فهي مُقدِّمةٌ واجِبة لمن يوجِب على نفسه الفِكرَ.

الطريق لنيل مثل هذه الكمالات طويل، ولكنَّنا نحاول البحث في مقدَّماته الأساسية، لعلَّنا نكون في يومٍ من أهله. وعند حدود هذه الغاية، نظرتُ في أوَّلياتِ ما ينبغي على المُستطرِق فهمه فهمًا استيعابيًّا بِنائيًّا، ثُمَّ حاولتُ الانتهاء إلى استخلاصات تَقِلُّ بها العناوين وتتعمَّقُ فيها المضامين، فكان منها ما خطَّ رسمَهُ كاتِبُها:

  • التفريق بين الثقافة والفِكر:

الثقافة استقرارُ أمرٍ في النفس استقرارًا يُمكِّنُ الإنسانَ من مهارة التعامل معه من مختلف الجهات، وتتحول هذه الحالة إلى سلوك يظهر في مجالات النظر.

أضرب مثلًا:

لو أنَّنا نراقب النجَّار في حياته خارج وقت ممارسته الفعلية للنجارة، فإنَّنا غالبًا ما نراه يُفسِّر الأشياء على مثال المطرقة والمسمار، والمنشار والخشب، كما ونرى دقته في ملاحظة الأثاث الخشبي من حيث الزوايا والتركيب وجودة الملمس، وما نحو ذلك.

هكذا الحدَّاد والسبَّاك والقصَّاب وصيَّاد السمكِ، وكلُّ صاحب حرفة ومهنة؛ إذ أنَّ مِنْ أهمِّ ما تقومُ عليه عقليتُه تلك القواعد التي يُتقِن بتطبيقها والقياس عليها عَمَلَه، فصحَّ أن نقول: تقوم (ثقافة) الإنسان على ما يتعلَّق باهتماماته الأعم من المِهنية والحِرفية من خصوصيات، وكلَّما تمكَّن منها واتقنها، كلَّما استحكمت في نفسه ثقافةً.

قد يتنبَّه القارئ الكريم إلى أنَّ الثقافة حالةٌ غالِبَةٌ على قراءات صاحبها وتحليلاته وفهمه للأشياء، وهي غالبًا ما تخرج عن حدود الضبط.

أمَّا الفِكرُ، فهو “إعْمَالُ الخَاطِرِ فِي الشَيءِ”، كما قال ابنُ منظورٍ في لِسَانِ العَرَبِ، وإعمال الخاطر هو ترتيب المقدّمات لغاية الاستنباط والإنتاج لفهم أكمل وأفكار جديدة، وهذا في نضجه وحُسنه رهين التجرُّد عن غير ما يخصُها موضوعيًّا، ولذا فإنَّه لا يُقال لذي ثقافةٍ أو علمٍ أو معرِفَةٍ مُفَكِّرًا، ما لم يكن منطقيًّا حكيمًا، يعرف كيف يضع المقدِّمات في مواضعها الصحيحة، وكيف يُرجِعُ النتائج والمُعطيات إلى مناشئها وأصولها، دون تأثُّرٍ بغير ما يخصُّها من ثقافات.

نعلم جيِّدًا أهمية القراءة والتوسُّع في الاطِّلاع، والاستِماع إلى العُلماءِ ومناقشتهم، إلَّا أنَّ ذلك لا يُصيِّرُ الإنسانَ مُفكِّرًا، وليس بالضرورة أن يكون ذا فَضْلِ وإنْ كان مُثَقَّفًا، ما لم تكن في إحاطته لونُ تَخَصُّصٍ أو نوعُ تَعَمُّقٍ في مسائل مُسوَّرة بسورٍ جامع، مع قدرته على التعامل معها وبيان خصائصها، فإذا تمَّ له ذلك صَحَّ وصفه بالمُثَقَّف، وأمَّا إذا تمكَّن من إبداع أفكار جديدة وتشييد بناءات متينة، بما يُصحِّحُ ويُقَوِّمُ ويُضيفُ إلى ما قد ضَبَطَ وأحكَمَ فَهْمَهُ، فهو حينئذٍ مُفَكِّرٌ يُنتَّظَرُ منه ما يُفيِدُ ويَنْفَع.

أمَّا القارئ والمستمع الجيِّد، فقد يمتلك الكثيرَ من المعلومات، فإذا أفاد في قراءة الواقع من خلالها ربطًا وإرجاعًا وتفريعًا، فهو مُثَقَّفٌ، وإذا لم يكن أكثر من حامِلٍ لها، يُجيِبُ إذا سأل، فهو حينها ليس أكثر من وجودٍ يُحَاكِي مَقُولًا مُتَلَفَّظًا أو مَكتُوبًا، وقد يَصُحُّ تسمية هذه الحالة بثقافة الحمل والنقل للصور العِلمية.

مِنَ المُهِمِّ، بل مِنَ المُهِمِّ جِدًّا التفريق بين الثقافة والفِكر، لئلَّا نُصادِرَ المُفَكِّرين فَضَلَ الفِكرِ بإدخال غيرهم فيه تَعَسُّفًا وجهلًا، وكي نَعرِف مقاصِدنا حين طلب العِلم، فلا نزاحِم بالرُكَبِ غيرَ العُلمَاء المُفَكِّرين، ويتوقف ذلك على التفريق الجيِّد بين المُثَقَّفِ والمُفَكِّر، والمُدَّعي لأحدهما.

  • محاور السلوك:

ينبغي للعاقل الحكيم الوقوف على مرجعه في الأشياء التي يُفَكِّرُ فيها، إذ أنَّه من المفترض أن يتحرَّك من أحدِ مُنطلقات ثلاثة:

الأوَّل: الفِكرَة: وهي الأمر الذي يُوجَدُ في داخله، إمَّا لميل نفسي أو لمُجَرَّد استحسان أو ما شابه، دون استناد إلى دليل، وهي على ذلك من الممكن أن يقوم عليها دليل فتتحول إلى قناعة، ومن المُمكِنِ زوالُها ما لم يتمَكَّن حامِلُها من دليلٍ يُبَرِّرُها وتستند إليه.

الثاني: القناعة: وهي الأمر الذي يقوم عليه الدليل، فيبقى في النفس قويًّا حاضِرًا ما لم يرِد عليه دليلٌ ناقِضٌ، ولنَقُل أنَّ القناعةَ ممَّا يَتَمَسُّك به العاقل الحكيم بنسبة تزيد عن 70%، ولا تصِلُ إلى 100%، وإلَّا ارتفعت إلى ما لا يقبل النقضَ مُطْلَقًا.

الثالث: الثابِتَة: وهي الأمر الذي يقومُ عليه البرهانُ، فيتمنِعُ زوالُه مِنَ النَفْسِ ما دَامَ العَقْلُ، ولا يقول بجواز زوالها إلَّا من لا يفهم الفرقَ بين الاستحسان والدليل والبرهان، ولن تكون حينها ثابتة.

نَقَعُ كَثِيرًا في خطأ ضعفِ، أو عَدَمِ التَفريق بين المُنْطَلَقَاتِ الثلاثة، فنجد من يدافع باستماتة عن (فِكْرَةٍ)، ومن يَتَمَنَّع بِقوة عن تبني ما يُفضي إليه دليلٌ ينقضُ قناعة من قناعاته؛ حذرًا وخوفًا من أن يُتَّهم بالتناقض والتذبذب، والحال أنَّ ما هو عليه (قناعة) قد تَزُولُ بِورُودِ دِليلٍ يَنقُضُ دَليلَهَا، ونرى من يعدل من دِينٍ إلى آخر، والحال أنَّ الدِينَ (بالمعنى الاصطلاحي) لا يُقال له دين ما لم يقم على البرهان، والبرهان لا يُنقَضُ حتَّى لو حصل ودخل الجملُ سمَّ الخياط!

تضعفُ الهِممُ عن سلوك طريق البرهان؛ فهو طريق يحتاج من جهةٍ إلى صبرٍ، ومن جهةٍ أخرى إلى قابلية قوية في ترك ما لا يُقيُمه إلى ما دون درجة الثابتة، ومع ضعفها فإنَّ النفس تذهب بصاحبها للتمسك بالأفكار، فضلًا عن القناعات، تمسُّك العاقل الحكيم بالثوابت، ومن هنا تَعْتَمِلُ في النفوس بواعِثُ التنازع خوفًا من زوال قناعة أو فِكرة!

عندما نتمكَّنُ مِنَ التمييز بين محاور الفِكر الصحيح، نتمكَّنُ حينها من ضبط ردُود أفعالِنا ومواقفنا بحسب ما تستدعيه طبيعة الأمر، فإن كان من الثوابت فهي لن تزول، ولا داعي عندئذ لا لعصبية ولا لتوتر، وإن كانت قناعة فالدفاع عنها ينبغي أن يكون قويًّا وحذِرًا؛ إذ أنَّ الآخر يملك في قبالها مساحات للمشاغبات والمغالطات، ومع القوة في الدفاع والحذر في المناقشات والحوار، لا بدُّ لصاحب القناعة أن يكون مُستَعِدًّا استعدادًا علميًّا للعدول عنها أو تصحيحها، فهي في نهاية الأمر قناعة، واحتمال خطئها وارد. كما وينبغي أن يكون ذا نباهة عالية؛ فقد يقوم البرهان عليها وتنتقل من مستوى القناعة إلى مستوى الثابتة.

وأمَّا إذا كانت فِكرة، فالأمر حينها يحتاج إلى انفتاح واعٍ على طرق الاستدلال ومن بعده البرهان، فيضع الفِكرة على أكثر من اختبار؛ ليقف على حالها، فإمَّا ان ترتفع إلى درجة من درجات القناعة، أو يُرجئ أمرُها إلى حين، وإلَّا فلا غير التخلُّص منها وعدم الانشغال بها، إلى أن يرِدَ ما يستدعي موقِفًا جديدًا.

  • قوَّة النفس:

يتحدَّثُون في بعض العلوم العقلية عن الوجود الذهني للمنتزعات من الخارج، كالمفاهيم والصفات، فمفهوم الإنسان إنمَّا يوجد في الخارج بوجود مصداقه، وإلَّا فلا شيء خارجًا اسمه إنسان لو لا المصداق، والطول من حيث إنَّه صفة لا وجود له في الخارج لو لا وجود معروضه، وكذا العِلم والمعرفة والقوة وغيرها ممَّا يعرِضُ على مِصداق الإنسان ويكون صفةً له.

بنى كثيرون أفهامهم على أنَّ العوارض والصفات ترِدُ من الخارج على ما تعرض عليه، ويلزم من هذا الفهم محذور لا يمكن تجاوزه، وهو طبيعة الوجود (البيني) الذي يربط العارض بالمعروض، والصفة بالموصوف، والحمل بالموضوع!

للخروج من هذا الإشكال، قالوا بذهنية الأمر، فلا يأتي السؤالُ عن الوجود البيني.

لا نُسلِّمُ بصِحَّة هذا التصرُّف؛ خصوصًا وأنَّ فهم الأمر غير متعذِّر، ولا يستدعي الذهاب لمثل هذه المذاهب.

عندما نُدَقِّقُ النظرَ فِي طَبِيعَةِ العلاقَةِ بين الموجُودَاتِ، نقِفُ على الضرورة التكوينية لوجود المعلول في عِلَّته، واستحالة الانفكاك الحقيقي، وليس الأمر فيها وفي الحمل والاتِّصاف والعروض، إلَّا خروج (العارِض) من كُمُونِهِ في عِلَّته أو معروضه أو موصوفه، إلى الظهور والبروز، وقد اتعرَّض إلى إثبات ما أدَّعيه في مقام يناسِبهُ البسط أخذًا وردًّا.

أقول فيما يخصُّ الإنسان:

يمتلك كلُّ إنسانٍ كُلَّ الكمالات في داخله كامِنَةً وظَاهِرَةً عن كمون على نحو الكلِّي المُشكِّك، فكلَّما تركها، كلَّما غارت خامِلَةً ضَعيفَةً، وكلَّما استثارها وسعى إلى إظهارها، كلَّما تحرَّكت وقويت لتظهر عليه واحِدة من تلبساته أو صفاته.

الفقاهة والطبابة والسياسة، وسائر العلوم والمعارف الممكنة للإنسان موجودةٌ داخله وجود كمون حقيقي، والخيار للإنسان وجِدِّه في الخروج بما أراد منها إلى وجود آخر، هو الظهور، وأمَّا ما يتعلَّمه بالقراءة والاستماعِ والتَلَمُّذِ وما نحو ذلك، فهو عملياتٌ مِنَ الاستثارة لما هو موجود في داخله. قال أميرُ المؤمنين (عليه السلام): “فَبَعَثَ فِيهم رُسُلَهُ وَوَاتَرَ إليهِم أنْبِيَاءَهُ، ليَسْتَأدُوهُم مِيثَاقَ فِطْرَتِهِ، ويُذَكِّرُوهُم مَنْسِيَّ نِعْمَتِهِ، وَيَحْتَجُّوا عَليِهم بالتَبْليِغِ، ويُثِيرُوا لهم دَفَائِنَ العُقُولِ”[1].

لذا، فإنَّ من لا يكون همُّه الأكبر تحصيل الكمالات، لن يتمكَّن بين يدي الله تعالى من لوم أحدٍ غير نفسه؛ لأنَّه عاجِزٌ حينها عن مُوَاجَهَةِ الحُجَّة؛ كونها بالغة النفس.

من هنا، نُدرِكُ ما تكشفه عَقليَّةُ التبريرِ للنَّفْسِ وتحميلِ الآخرين أسباب التقصير النفسي والكسل عن السعي والتحصيل من فرارٍ عن المسؤولية تجاه النفس وتزكيتها.

لذا، كان على كلِّ عاقِلٍ أن لا يستقلَّ نَفْسَهُ، ولا يستهينَ بما أودعه اللهُ تعالى فيه من قوى وقدرات. وطالما أنَّ رجلًا قد امتطى ظهرَ أسدٍ يومًا، فكلُّ إنسانٍ قادِرٌ على تكرار ما فعل.

 

السيد محمَّد علي العلوي
18 صفر 1439 هجرية

 

[1] – نهج البلاغة – خطب الإمام علي (ع) – ج 1 – ص 23

مقالات مشابهة

اترك تعليق


The reCAPTCHA verification period has expired. Please reload the page.