لو سلَّمنا بالحيوانية الناطقية حدًّا تامًّا للإنسان، فإنَّنا في مقام التبيين والتوضيح نمتلك مسافة واسعة للتعبير بالتمثيل والمقارنة وما نحو ذلك؛ حيثُ إنَّ نفس الإنسان مجمعٌ للحياة والاختيار والحسِّ والنمو والجسمية، وجوهر، وما يعرض على كلِّ ذلك من كيفيات وما شابه ممَّا يُعطِينَا سَعَةً للتعبير والوصوف، وهكذا لو كان حدُّ الإنسان غير ما هو عليه القول اليوم؛ إذ أنَّ المسألةَ راجِعةٌ إلى المسافة بين الحقيقة الحقَّة، وبين الإدراك البشري.
إذا كانت القدرة على التعبير راجعة إلى تلك المسافة المشار إليها، فإنَّ تقلُّصَها حينئذ متبوعٌ بِتَقَلُّصٍ في خيارات التعبير عن الحقيقة بدوال لفظية مناسبة، ومن هنا قالوا: توضيح الواضحات من أشكل المشكلات، والسبب هو انحصار رجوع العلم والمعرفة مع القرب من الحقيقة إلى البعد الإدراكي في الإنسان من حواسٍّ خمس ظاهرة، وحواس داخلية حاضرة، فيكون الأمر حينها في اتِّجاه العلم الحضوري منتقلًا من الحصولي، فتتلاشى شيئًا فشيئًا خيارات التعبير.
بناء على ما مرَّ، أقول بعدم صحة إخضاع كلِّ شيءٍ للقواعد الصِوَرية، كما أنَّه ليس من الصحيح ترك الأشياء لادعاءاتِ عدم القدرة على إخضاعها للقواعد الصِوَرية، وهذا أمر حِكمي رهين النظر الموضوعي الجيد.
مشهدان، جعلاني أُفكِّرُ مليًّا في ضوابط التحليل المعرفي، وحدود كلٍّ من القياس المنطقي، والحضور القلبي.
المشهد الأوَّل:
كلمة بليغة عبَّرتْ بها امرأةٌ إنجليزية ذهبتْ لزيارة الإمام الحسين (عليه السلام) في الأربعين، إذ قالت: لا يملِك العراقيون شيئًا، ولكنَّهم في هذه الأيام يعطونك كلَّ شيءٍ!
ماذا عَنَتْ؟ هل تعني (كل شيءٍ) عندهم؟ أو (كل شيءٍ) تحتاج أنت كزائر إليه؟
لا أعتقد أنَّ مقصدها كان ما يملك العراقيون، بل هو ما يحتاج إليه الزائرون؛ إذ أنَّ المقامَ مقامُ بيانِ الراحة النفسية العزيزة التي يعيشها الزائر في أجواء الزيارة، ومن أهم عواملها، لا أقول تبجيل، ولكنَّه تقديس من العراقيين له، فهم يخدمونه دون أن يطلب، ويتوسلون إليه بالدعاء لقبول خدماتهم، دون ان يعرفونه لا شخصًا ولا دينًا ولا مذهبًا ولا انتماءً، مادام مع الزوار!
المشهد الثاني:
لا يُدلِّكُ العراقيون أقدام الزوار فحسب، بل رأيتُ مشهدًا مُسجَّلًا لشيبة عراقي يطلب جوارب أحد الزوار ليحتفظ به!! يتوسل إليه أن يقبل!!
تعالوا لنفس هؤلاء خارج وقت الزيارة، هل يقبل أحدهم بتدليك أقدامك مقابل مبلغ من المال، وبعد أن تنظفها وتعطرها؟
لا، ولكنَّه يسعى لها وهي مُتَّسِخَة يغطيها العرق من جرَّاء المشي الطويل، فيقبلها ويُدَلِّكها ويدهنها ويعطرها!
لِمَ يا تُرى؟
هل هناك من أخبره بثواب على ذلك؟ هل يستند في فعله إلى فتوى من مرجع تقليد؟ هل رأى رؤيا؟
أبدًا.. هي حالة وجدانية اقتربت فيها القلوب من حقائق الأمور، فجفت الأقلام على قراطيسها بعد أن عُقِدت الألسن في أفواهها تسليمًا للقلوب التي انحنت أمام مشهدٍ من أعظم المشاهد الحضارية على مرِّ التاريخ.
نعم.. هناك من يُقبِّل قدمَي مَلِكٍ أو كاهنٍ أو عالِم دينٍ.. أو ساحِر أو مُشعبِذٍ أو غير ذلك.. وقد يُقَبِّلُونَ أقدامَ خُدَّام هؤلاء، طلبًا لدنيا أو وجاهة أو رضى، أو ربَّما شفاءٍ من عِلَّة.
ولكنَّ المؤمنين في العراق يقصدون أقدامًا لا يعرفون عنها شيئًا غير أنَّها تسعى للحسين (عليه السلام)، فلا مجال للمقارنة على الإطلاق.
اسمحوا لي، لقد عُقِد اللسان، فهي حقيقة لا أملك أدوات بيانها، وكيف للشمس أن يَدلَّ عليها دليل.
صدق الله العلي العظيم (فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ). بسم الله الرحمن الرحيم…
السيد محمَّد علي العلوي
14 صفر 1439 هجرية