أين: امرُر على جَدَثِ الحُسَينِ، مِنْ: (…).. القصيدةُ ثَقَافَةٌ وفِكْرٌ

بواسطة Admin
0 تعليق

يتحدَّثُ الفُقهَاءُ مُعَلِّمين واعِظِين، وعلى إثرهم يرتقي العلماءُ منابِرَ الخِطابة مُوجِّهينَ مُرشِدِين، فيتأثر من يتأثر ممَّن وفِّقَ لإصْلاحِ نفسه ومجتمعه، كما وتتكون حالةً ثقافية معينة تُحدِّدُ العِلاقة في الفِكر الشيعي بين العلماء وعامَّة المؤمنين.

تَبْقَى هَذِهِ العِلاقَةُ مَتينَةً وذاتَ أثَرٍ طَيِّبٍ، ولكنَّها في بُعدِها الفاعِلي تختلف طبيعةً عن مولِّدات الثقافة المستمرة فِعلًا وفاعليةً، مثل برامج القنوات الفضائية، وما يُصاحِبُها من موسيقى وغناء وكلمات شعرية وما نحو ذلك ممَّا يُوكَلُ أمرُ بقائه إلى نفس الجمهور بحفظهم وترديدهم له، ومن هنا يبدأ جانِبٌ من البناء الثقافي في المجتمع بحسب ما تُقدِّمه المواد التثقيفية.

نعم، إنَّ للموعِظة أثرها، ولكنَّ أثر القصيدة أكبر وأسرع، وأثرها إذا لُحِّنت أعظم، فما بالك لو تصدَّى صوتٌ شجي لإلقائها؟ وهل تتصور عظيمَ أثرِها عند ارتباطها بالعاطفة؟

القصيدة المُلحنة لها قوة البناء والهدم، ولها القدرة العجيبة على الإثبات والنفي، بحسب مقامها وما يحيط بها ويتداخل معها من ظروف.

استمعتُ قبيل عاشوراء إلى بعض القصائد التي انشغل شعراءٌ بنظمها وشيَّالةٌ بأدائها، ومهندِّسو صوتٍ بتنميقها وإخراجها، وكم كنتُ أتمناها نواقِلَ ثقافية وفِكرية للعقيدة والسِيرَةِ والمُصيبَة المستوحاة من أحاديث العِترَة الطاهرة وكتب المقاتل المُعتَبَرَة.

كُنتُ أبحثُ عن كِتابٍ قرآني عِترَوي حُسيني كربلائي في قصيدةٍ يهيج لها قلبي وعقلي ووجداني، فأبتني عقيدةً وفِقهًا وأدبًا وفِكرًا من عمقِ الحزن والكآبة على مصيبة لا كمثلها مصيبة.

هناك بلا شكٍّ -إن شاء الله تعالى- من ذلك، غير أنَّ مسامعي قَصُرَتْ عنها، وأتمنى ممَّن قد وقف على شيءٍ منها التفضل بإرسالها لي، فأكون له شاكرًا داعيًا بتوفيق من الباري جلَّ في عُلاه.

ولكن، على ما أجِدُهُ أمامي، أُحَادِثُ الإخوةَ الشُعَرَاءَ والشَيَّالَةَ حَدِيثَ مُذَكِّرٍ لا مُعلِّم، فهم يعرِفون جيِّدًا خطر الموقع الذي وُفِّقوا له، وما له من عُمقٍ عظيم في إحدَاث بناءات ثقافية لها دورها في تحديد مصير المجتمع على مختلف الأصعِدة.

القصيدة -أيُّها الأحِبَّةُ- إحياء، فماذا تحيون بها؟

عن عبد السلام الهروي، عن الرضا (عليه السلام) قال:

“رحم اللهُ عَبْدًا أحيى أمْرَنَا.

قلتُ: كيف يُحيي أمركم؟

قال: يَتَعَلَّم عُلومَنَا، ويُعَلِّمها النَاسَ؛ فإنَّ الناسَ لو عَلِمُوا مَحَاسِنَ كَلامِنَا لاتَّبَعُونا”.

فإذا أراد الشاعِرُ أن يَكتُب، والشيَّال أن يرفع صوته بما كتبه الشاعر، كان عليهما تحرِّي الدِقة في موافقة المكتوب واللحن وطريقة الإلقاء لكليات الثقلين المُقدَّسين في الإطار العام، ولعلوم وإرشادات ومواعظ الأئمة الأطهار (عليهم السلام). وليس من الصحيح، بل هو من الجُرمِ العظيم التسويق لثقافات العناد وتحكيم الأهواء والعقائد الخاصَّة.

لاحظوا أيُّها الأكارم..

ما الذي أبكى الإمام الصادق (عليه السلام)؟

أبكاه أبو هارون المكفوف..

امرُرْ عَلَى جَدَثِ الحُسَينِ … فقُل لأعظمه الزكية

بالله عليكم، هذا بيتٌ واحِدٌ رضي به الإمامُ المعصومُ (عليه السلام)، تعالوا لدراسته، فنرى كم من المعاني نخرج بها..

امرُر: أمرٌ بالمرور، وليس الزيارة أو المكوث أو ما شابه. على جَدَثِ الحُسَين: لا على الحسين، ولكن على القَبر، ممَّا يكشف عن ارتكاز ثقافي في ذاك الزمن، موضوعه الحالة الوجودية الحية لقبر الإمام (عليه السلام). فقل لأعظُمِه الزكية: ولم يقل: قُل لصدره أو رأسه أو قلبه.. بل قال: لأعظمه الزكية..!!

مِثلُ هذه الكلمات العميقة تقتلع الإنسانَ من أعماق الخمول والكسل، وتُطلِقُه بهِمَمٍ عالية نحو البناء والتغيير.

وفي المقابل، نسمع كلماتٍ (…) لا تولِّدُ غير العناد والتأزيم والانحصار في دوائر ضيقة تُضيِّقُ الحُسَينَ (عليه السلام) في عشرة أيَّام، وربَّما في يوم واحد، بل في جزءٍ من يوم واحد!

ليست القصيدة نظم أبيات على وزن وقافية، وليست مجرَّد تصويرات وخيالات..

القصيدةُ عِلمٌ تُجلِّله مشاعِرُ النُبلِ، فتنهال بيتًا يتلوه بيتٌ في بناء يبقى في الوجدان الفِكري مُصحِّحًا لمسارات الإنسان متى ما قصدها مُتعلِّمًا..

ليتنا نسمعُ شِعرًا يُنتِّجُ فِكرًا..

 

السيد محمَّد علي العلوي

الثاني من المُحرَّم 1438 هجرية

مقالات مشابهة

اترك تعليق


The reCAPTCHA verification period has expired. Please reload the page.