يُواجِهُ الوعي الفكري معضلةَ تقزُّمِ أفق الإنسان في هذا العالم المحصور في المدركات الحسية، في نفس الوقت الذي يُحكم فيه قيام الحسِّ على الإيمان التام بوجود ما وراء المحسوس، وهو متحقِّق في أصل وجوده حتَّى عند من يُنكر الغيب، أو ما يُعبَّر عنه بالماورائي.
يسعى الباحِثُ حثيثًا طلبًا للحقيقة، ويتوقف عند النقطة التي يعجز الحَسُّ عن تجاوزها، ولإصراره على الالتزام بقانون التجربة الحِسِّيَة، يُقدِم على إنكار ما يقع وراءها، دون دليل أو حجَّة غير عجز التجربة عن إدراكها، وهذا في الواقع مجانِبٌ للعلمية في النفي والإثبات.
لو أنَّنا ندقِّق النظر في هذا الوجود على مستوى التتابع العَلِّي، لانتهينا إلى واقعية الموجودات وراء وجودها المُشَخَّصُ للإدراك، فالإنسان -مثلًا- وجودٌ خارجي نُدرِكُ بعضَ عُمقِهِ من خلال التحليل بتجريده من العوارض المُشَخِّصة له، فنقول: لو جَرَّدْنَا هذا الإنسان من لونه وكثافته وطوله وعرضه وعمقه، فإنَّ هناك أمرًا يبقى معتصمًا عن قدراتنا التجريدية؛ وذاك لاعتصامه عن الانفعال بمشخصاته من لون وكثافة وطول وعرض وعمق وما شابه، فهذه لا علاقة ولا مدخلية لها بإنسانية الإنسان، وإنَّما اقتضتها هذه النشأة الوجودية، وإلَّا فالإنسان أرفع في حقيقة وجوده من هذه العوارض المحكومة بالزمان والمكان، وهكذا كلُّ موجود ممكن سواء أدركه المُدرِكُ بالتجربة أو بغيرها.
ثُمَّ إنَّ حتميةَ وجود صانعٍ لهذا الوجود يلزم منه وجود نفس هذا الوجود المصنوع عِلمًا محضًا عند الصانع تبارك ذكره، وهذا -لتقريب المعنى- من قبيل العلَّة الصورية في سلسلة علل صناعة السيارة -مثلًا-، حيثُ إنَّ السيارة حتَّى توجد في الخارج فلا بدَّ لها من علَّة فاعلية وهي نفس الصانع، وعلَّة مادية وهي مكوناتها، وعلَّة صورية وهي صورتها في ذهن الصانع، وعلَّة غائية هي الغاية التي أنشأت فكرتها.
أُقَرِّبُ المعنى بمثالٍ قد يَكُونُ أكثرَ وضوحًا..
عندما يتزوَّجُ زيدٌ مِنْ لَيلَى وتنتفي موانِعُ الحمل والإنجاب على مدى عشر سنوات -مثلًا-، ويكون القضاء في تقديرات المقاربة بينهما أن يُرْزَقَا بخمسة أولاد، فهما في عالمِ ما وراء هذا العالم متزوجان ولهما خمسة أولاد، ولكنَّ الوجود الدنيوي يتوقف على فعلية المقاربة في هذه الدنيا، وبها وبالحمل والانجاب ينكشف واقعُ وجودهم في عالم آخر.
تنبيه:
يقع الحساب الإلهي على الإنسان المُكلَّف في هذه الدنيا، وأمَّا وجوده في نشآت أعلى فهو أمرٌ لا ندرك منه إلَّا ما يُعيننا على فهم واقعنا الدنيوي، فلا يرِدُ سؤالٌ حول مصير المخلوقات في عالم ما قبل هذه النشأة، كما ولا نتمكَّن من حصر النشآت في اثنتين أو ثلاث أو أربع، فهذا علمه عند الله سبحانه وتعالى، وإنَّما نبحث طولية الوقوع الوجودي للمصنوع فيما بين العلم الإلهي والوجود الدنيوي.
ما نريد الإرجاع إليه في تأسيساتنا الكلامية هو أنَّ الوجودَ الممكن متعدد الصور في نشآت طولية تبدأ من العلم الإلهي نزولًا إلى هذه الدنيا، وفي الأخيرة منها، وهي الدنيا، ينكشف بعضها بفاعليةٍ معكوسةٍ، فاعِلُها نفسُ الموجود الممكن، كما في مثال الزوجين والأولاد.
نأتي إلى محلِّ الكلام:
ثبت في العقيدة ضرورة قيام الأرض بوجود الوتد التكويني، وهو الإمام (عليه السلام)، وهذا وجود علمي ثبوتي منزَّهٌ عن تدخلات المخلوق الممكن، وبالتالي، فإنَّ وجود الوتد في هذه الدنيا أمرٌ مفروغ منه، وإنَّما نبحث عن وفي الكاشف عنه، وترجع أهمية هذا البحث لنفس البناء الفكري الإجرائي عند الإنسان، ولا علاقة له بالتكذيب والتصديق مطلقًا.
إذا اتضح المطلب، فإنَّنا نبين ونستطرد في المقال القادم إن شاء الله تعالى.
السيد محمَّد علي العلوي
17 شوَّال 1438 هجرية