حضارة الجاهلية (5)/ (مرتكز الوعي الدلالي ومقارنة بين العصرين -2-)

بواسطة Admin
0 تعليق

 

تعلمنا في مدارسنا الفكرية أن لا نترك أمرًا إلَّا وحلَّلناه بدقة نادرة، ثُمَّ إنَّنا نناقش عناصره ونحلِّل مناقشاتنا، فننقض ونرد، ونفترض نقوضًا وندفع.. وهذا ممَّا تميزنا به حقًّا عن المدارس الفكرية الأخرى الأعم من الدينية وغيرها.

يتوجه طموحُنا دائمًا نحو إحالة المركبات إلى بسائط ما استطعنا، ولذلك بذل علماؤنا الكثير من الجهد في بحث الجهة التي تتمايز بها العلوم عن بعضها البعض، فمنهم من قال بأنَّها تتمايز بالموضوعات، ومنهم من أرجع تمايزها إلى الغايات؛ وسبب هذا النقاش الإصرار على فرز المسائل والمحافظة على العلوم من التداخل بين مسائلها، وفي تصوري أنَّ منشأ هذه الجهود حالة ثقافية شديدة التمكن من النفس الفِكرية في الشيعة وعلى وجه الخصوص علمائهم.

إنَّ هذا المستوى المتقدم من التدقيق التحليلي في المسائل العلمية مطلوب بلا شك، ولكنَّني أرى أنَّ إطلاقه يصرف الفِكرَ عن الرشد والموضوعية؛ فهناك من الأمور ما تكفي فيها المعرفة التي تؤدي إلى الغرض، دون زيادة.

لاستيعاب الفكرة التي أريد طرحها علينا بالدقة في النظر والتحليل، فلنُدَقِّق جَيِّدًا..

نؤمنُ برجوع كلِّ هذا الوجود في حقيقته إلى علم الله سبحانه وتعالى، فالأشياء قبل خلقها لم تكن أكثر من علمٍ إلهي، وعندما أراد الله تعالى لها التشخص في الخارج الخلقي ركَّبها بحيث أنَّ كلَّ بسيط منها يتركب مع غيره فيظهره، وهكذا تتركب البسائط فتتعدد المظاهر.

مثال:

لو أنَّنا نرفع الناطقية عن الإنسان لعاد حيوانًا، ولو سلبنا الحيوان ما جعله حيوانًا لرجع جسمًا جامدًا، وهكذا، فيتضح أنَّ عروض الحياة على الجسم أظهرته حيوانًا، وعروض الناطقية على الحيوان أظهرته إنسانًا.

إذا اتَّضح ذلك، قلتُ:

ما يهمني في هذا المتشخص في الخارج، إنسانًا كان أو طاولة أو جبلًا أو حصانًا، أو أي شيء آخر، الجهة أو الجهات التي أتكامل معه من خلالها، وللنظم في الخلق لا يمكن أن تكون مخفية متعذرة أو صعبة الإدراك، ولذلك ركب الإنسان الحصان واستعمل الموادَّ في صناعة الطاولة واحتمى بالجبال واستعملها في حروبه وما شابه، دون مبالغة في التحليل والتدقيق.

إنَّنا حينما نحلِّل الموجود ونرجعه إلى عناصره القريبة فالأبعد، فإنَّ هذا متعلق بالعقل النظري، ولا يؤثر على ما ينبغي أن (يُعمل)، وهو شغل العقل العملي، وأمَّا الحاجة للإئتمام بالعقل النظري فغايته التوسع المعرفي من خلال التعمق من العلل إلى المعلولات أو من المعلولات إلى العلل، والانتهاء إلى الكشف عن حقائق جديدة تأخذ مكانها في مختلف البحوث المعرفية.

يقعُ الإشكَالُ -كما أرى- عندما نغفل عن التفريق بين نتائج العقلين، فتتداخل العناوين ونذهب -في الغالب- بعيدًا عن المطلوب، وقد يكون هذا ممَّا قال فيه أبو جعفر الباقر (عليه السلام):

“إنَّ حديثَنا هذا تَشمَئزُّ منه قلوبُ الرِجالِ، فمَن أقرَّ بِهِ فزيدُوه، ومن أنكرَهُ فذرُوه. إنَّه لابُدَّ من أن تكون فِتْنَةٌ يسقط فيها كُلُّ بطانة ووليجة، حتَّى يسقط فيها من كان يشُقُّ الشَعْرَ بشعرتين، حتَّى لا يبقى إلَّا نَحنُ وشيعتُنا”، ومحلُّ الشاهدِ هُوَ: “حتَّى يسقط فيها من كان يشُقُّ الشَعْرَ بشعرتين”؛ فشق الشعرة بشعرتين كناية عن الدقة الكبيرة في تحليل الأمور وتفصيتها من بعضها البعض، وهذا أمر مطلوب من جهة العقلية العلمية الفلسفية، ولكن ينبغي أن تكون مقيدة عند انتقالها إلى الواقع العملي، وإلَّا وقع المحذور، وهو عدم صمود حقيقة ينتهي لها الفكر البشري؛ إذ أنَّها مهزومة بالتحليل والنقض بإمَّا وإمَّا، ولذلك نرى الكثير من الرد والنقض بين المدققين.

أحتاج إلى التكرار:

لا غنى عن التدقيق غاية الجهد، ولكن لا ينبغي الغفلة عن المحافظة على النتائج في مجالها الصحيح، وهو العقل النظري، وانتخاب القيود الحكيمة عند الانتقال بها إلى العقل والواقع العمليين فكرًا وتطبيقًا، وما لم يتمكن المفكر من تحقيق هذا الفرز الدقيق، فإنَّ الخشية حينها أن يقع في مهاوي إنكار الحقائق الحقَّة.

تَمَيَّزَ الناسُ في الصدر الإسلامي الأوَّل بهذه الحِكْمَة في الفكر، فكانوا على مستويات عالية من الاستعداد لاستيعاب وهضم المدلول في المجال العملي بمجرَّد استقبال الدال، أمَّا اليوم، فلا نحن -بشكل عام- كذلك، ولا نحن في عمق التدقيق الذي ينتهي بنا إلى شقِّ الشعرة بشعرتين، ولكنَّنا في حالة ثالثة أتحدَّثُ عنها في المقال القادم إن شاء الله تعالى.

   

السيد محمَّد علي العلوي

30 من شهر رمضان 1438 هجرية

مقالات مشابهة

اترك تعليق


The reCAPTCHA verification period has expired. Please reload the page.