وعدتُ في المقال السابق بمناقشة ملاحظات أحد الأخوين اللذَين شرَّفاني بملاحظاتهما الوازنة، وهذا نصُّ ما تفضَّل بإرساله:
“ ١/ أتصور أنَّ تمامَ الفِكرَةِ يتوقف على مراعاة جهتين:
الجهة الأولى: الواقع الثقافي لزمن المعصوم، وهي الجهة الملحوظة في المقال كما هو واضح.
الجهة الثانية: دخالةُ الزمن والتطور العلمي في فهم النصوص.
فهنالك قَدَرٌ من الفهم موجودٌ في زمننا -كما أتصور- لم يصل إليه الفقهاءُ المعاصرون للمعصوم، نعم، إنَّ مناشئ الفهم والمعرفة مختلفة بالنسبة للمعاصرين للمعصوم وغيرهم، فيتفوّق المعاصرون بأنَّ منشأ الفهم هو الثقافة التي تسودهم برعاية المعصوم، ولكنَّنا نتفوّقُ بجهةٍ أخرى، بل بجهات:
منها: معرفة أحوال الرواة وأحوال المعصومين وأقوالهم وغير ذلك على نحو المجموع، فلنا إحاطةٌ بالروايات وظروفها من حيثُ الامتداد الزمني لجميع المعصومين وظروفهم، فزرارة لم يشهد كلَّ المعصومين واختلاف أحوالهم وظروفهم، واختلاف الروايات وأحوالها.
ومنها: أنَّنا لا نستند إلى الثقافة الموجودة في ذلك الزمن للفهم، لكنَّنا نتميّزُ بالموروث العلمي من علمائنا الذي بتراكمه وتكاثره تظهر كثير من الجهات التي غُفِلَ عنها.
ومنها: أنَّنا نتميز زمانيًا من حيث تهيئة كل المعصومين لزماننا.
ومنها: السعة المعرفية وتعدد العلوم والانفتاح على الثقافات المتعدِّدة، إذ رغم ضرره الكثير على الأفهام وكونه بابًا من أبواب الضلال، إلَّا أنَّه بالالتزام بالمعتقد ومحاولة التوصل إلى الثقافة التي يريدها أهل البيت (ع) يعطي الإنسان سعةً في نفسه لفهم طبيعة الإنسان وتجربته العلمية وغيرها بمقارنةِ الحقِّ بكلِّ ما يخالفهُ ويُضادُهُ، فالمنهج السياسي -إن صحَّ التعبير- أو المنهج الاقتصادي الذي اتَّبعه المعصومون يمكن لنا فهمه بالمقارنة، بل لعلَّ منشأ توجهنا له هو المقابل”.
المناقشة:
لا أرى حاجة للثناء على هذه الملاحظات الراقية وما تعكسه من رؤية علمية ماكِنة يتمتَّع بها صاحبها، فهي ناطقة بذلك مصرحة به، فكلُّ الشكر والامتنان لأخي العزيز.
أقول: تُفهمُ الأمور على مستويين، المستوى الأفقي، وهو ما تدورُ الملاحظاتُ حوله، والمستوى الرأسي (العمق)، وهو ما يدور كلامي حوله، دون معارضة بين المستويين، بل تكامل وتقاطع بين المدارين الرأسي والأفقي.
ذكرتِ الملاحظات الكريمة أنَّنا اليوم نتميز عن السابقين بسعة الإحاطة بسيَر المعصومين (عليهم السلام) وبعلوم تمكننا من فهم المقاصد للنصوص الواردة بمختلف أنواعها، وهذا كلام صحيح، ولكنَّه يتناول الجانب الأفقي الذي قد يكون أداة للتعمق.
إنَّنا نجتهد اليوم في تنقيح العلوم المدونة، وتدوين علوم جديدة بحثًا عن القرب من إصابة المدلولات المقصودة، وللتوضيح أضرب مثالًا بفعل الأمر (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا)، والجملة الفعلية الإخبارية في مقام الإنشاء كما عن أبي بصير قال: “سألتُه عن الرجلِ يغتسِلُ بالمدينةِ لإحرامِهِ، أيجزئه ذلك من غسل ذي الحليفة؟ قال: نعم.
فأتاه رجلٌ وأنا عنده، فقال: اغتسل بعضُ أصحابِنا فعرضت له حاجةٌ حتَّى أمسى؟ قال: يُعيدُ الغُسلَ، يغتسل نهارًا ليومه ذلك وليلًا لليلته”.
في الأول قال: (أقم)، و(أقم) فعل أمرٍ، ولكن هل يفيد الوجوب والإلزام واستحقاق العقاب على المخالفة؟
وفي الثاني قال: (يعيد)، و(يعيد) فعل مضارع لا بعث فيه ولا إرسال كما في فعل الأمر.
بعد بحوث ومناقشات علمية انتهى علماؤنا إلى (ظهور) فعل الأمر في الوجوب، ولحجية الظهور قيست الصغرى (أقم الصلاة) على الكبرى (كلُّ ظهور حجَّة) فكانت النتيجة: حجية ظهور فعل الأمر في الوجوب.
وفي الجملة الفعلية الخبرية في مقام الإنشاء قالوا بأنَّ المُخبِرَ يُخبِرُ بوقوع مراده مُظهِرًا عدم رضاه ما لم يقع، فيكون تأكيدًا على الوجوب.
ناقش علماؤنا مثل هذه الظهورات باستفاضة طلبًا لمدلولات الصِيَغِ اللفظية، في حين أنَّ السائل في ذاك العصر لم يكن في حاجة إلى أدنى زيادَةٍ في البيان في مثل هذه المحاورات، فهو ينتقل إلى المدلول فيقف على وظيفته أو ما يراد منه بشكل مباشر ودقيق.
لا غنى اليوم عن الكثير من العلوم لإصابة الفهم الذي كان عليه المعاصرون للمعصومين (عليهم السلام).
كيف نبحث قَطْعَ القَطَّاعُ؟ وما هي أدواتنا لفهم التجرِّي؟
نحتاج في البحثين لعلم النفس إن أردنا تعميق البحث الأصولي على طريق التقعيد لما يقاس عليه في مقام استنباط الحكم الشرعي، ولكنَّ هذا كان موجودًا في أفهام المتقدمين من أهل تلك العصور، وقد كان مني حديثٌ في مسألة (تدوين العلوم) انتهيت فيه إلى خطأ الاستطراد في التدوين؛ وذلك لقيام النفس البشرية على كلِّ العلوم بمختلف مسائلها، ولكنَّ الذي يدعو إلى التدوين هو البعد عن النفس الزكية، ولذلك بعث أمير المؤمنين (عليه السلام) أبا الأسود لتدوين علم النحو بعد وقوفه على لحن الناس في القول، وهو بعدٌ عن العمق الثقافي. فتأمل. لا أعارض تدوين العلوم، ولكنَّ كلامي في الداعي لتدوينها، بل أقول بالحاجة دائمًا إلى تدوين بعض العلوم، وكلُّ رجائي من القارئ الكريم عدم الانصراف بالمقال لغير وجهته.
لا شكَّ في أنَّني أبعد ما يكون عن بخس حق الزمن المعاصر في تقدمه وما تحقَّقت فيه من حضارات، ولكنَّني في هذه المقالات بصدد المساهمة في تصحيح بعض المفاهيم التي أراها خاطئة، بل أرى انقلابها إلى فضيلة في حين أنَّها ليست كذلك، وهذا ما سوف يتضح في مقالات قادمة إن شاء الله تعالى.
نحتاج اليوم إلى الفلسفة كعلم وإلى الكلام كعلم، في حين أنَّ هذه الحاجة لم تكن قائمة في زمن الصدر الأوَّل، لا لقلَّة التحديات، ولكن -كما أرى- لعمق الفهم آنذاك، وعندما بدأ الناس بالابتعاد عن العمق الدلالي الذي كان عليه السابقون، احتاجوا إلى ترجمة وتدوين بعض العلوم مثل الفلسفة واستخلاص الكلام منها.
دعوني أطرح السؤال التالي:
لماذا ذهب الرجال في الجاهلية لوأد بناتهم؟
ربَّما يجيب البعض بعصبية ذامِّين لهذا الفعل الشنيع، ولا أختلف أبدًا، ولكنَّني أسأل عن مناشئ هذا افعل، وعن تشخيصاتهم للبنت كـ(موضوع).
فليبحث القارئ الكريم في الأحاديث الواردة عن أهل بيت العصمة (عليهم السلام) في خصوص المرأة، وليقارن بين حلول السماء وحلول الإنسان التي انتهت به إلى ثقافة الوأد.
لا أريد مناقشة هذا الأمر أبدًا، ولكن الغاية هي الإلفات إلى العمق الدلالي الذي كان يتميز به الأوَّلون، وإن تميزنا عنهم اليوم في مستوى الفهم الأفقي.
أذهب في المقالات القادمة إن شاء الله تعالى إلى مناقشة هذا الأمر وتوضيحه ما استطعت، راجيًا من المهتمين إعانتي بملاحظاتهم الموضوعية المتينة.
السيد محمَّد علي العلوي
29 من شهر رمضان 1438 هجرية