((انقسام اليوم))
إنَّ التكليف الإلهي بالصوم هو تكليفٌ مؤقتٌ من حيث عدد الأيام، ومؤقت من حيث ساعات الصيام، ويبدأ التوقيت الأول من هلال رمضان وينتهي بهلال شوال، ويبدأُ التوقيت الثاني من الفجر وينتهي بالغروب، وعَبَّرنا عن الحالة الأولى من التوقيت في المقالات السابقة بالانقسام الزمني وقارنّا بين أشهر الفطر وشهر الصيام من حيث الشعور وتوسع المعرفة، وهنا نقول أنَّه كما يتحقق انقسام زمني يتحقق انقسامٌ في اليوم بين وقت الصيام ووقت الإفطار، وهذا هو موضوعنا في هذه السطور.
يمكنُ أن نقسم المراحل التي تمرُّ بها نفس الإنسان من حيث صدور الفعل عنه إلى مستويات ثلاثة:
المستوى الأول: مستوى الحاجة، كحاجة الطعام والتي تظهر في النفس شعوريًّا بالجوع.
المستوى الثاني: مستوى الانبعاث، كانبعاث نفس الإنسان نحو الطعام وطلب نفسه لذلك، كشهوة الأكل.
المستوى الثالث: مستوى الفعل، وهو جري الإنسان على وفق المستوى الأول برفعه للحاجة، وعلى وفق المستوى الثاني بتحقيق الانبعاث والرغبة إلى فعلٍ خارجي بجوارحه وبدنه.
إنَّ ما يقعُ تحت إرادة الإنسان المباشرة من هذه المستويات هو فعله، فيمكنُ له بحسب إرادته الإقدام والإحجام كيفما شاء، والصائمُ في فترة الصيام يمتنعُ عن الفعل فتبقى الحاجة والرغبة في نفسه.
ثم بعد فترة الصيام يأتيه خطابُ الرخصة بغروب الشمس، وتكونُ الرخصة مستمرة من غروب الشمس إلى طلوع الفجر، ويمكنه في هذه الفترة أن يحقق حاجاته وانبعاثات نفسه الغريزية على مستوى الفعل، وله الحرية في ذلك.
يكون الصائم في فترة الصيام في كبتٍ لبواعثه الغريزية لجهة الخطاب المتوجه إليه من الله بذلك، ولأنَّ التكليف بالصيام مستمرٌ لمدة شهر، فإنَّه يجري على ذلك مدة شهر كامل، ثُمَّ إنَّ فترة الإفطار والرخصة يجري فيها على ذلك نفس المدة.
وما يقعُ في الفترتين (فترة الصيام وفترة الإفطار) هو تنبهٌ من الإنسان لبدايتهما ونهايتهما، فإنَّ صيامه يبدأ من الفجر فعليه أن يلتفت له لكي لا يأتي بالمفطر، وينتهي بالغروب وهو بحسب نفسه منتبهٌ إليه لباعثه الغريزي نحو الملذات.
والتنبهُ الأول هو تنبهٌ عاقلٌ يراعي الباعث الإنساني الذي يحتاجُ الإنسان في مراعاته إلى توجهٍ وتنبهٍ منه، والتنبه الثاني وهو التنبه لوقت الإفطار هو تنبهٌ غريزي.
والملاحظُ أن كلا التنبهين مرتبط بوقتين لهما خصوصيتهما الشرعية، فإنهما مرتبطٌان بارتفاع صوت الأذان وإقامة الصلاة، فأنت في بدايتك للصيام تفتحه بالصلاة، وختامك له تختمه بالصلاة، وبها تبتدأ وقت الإفطار وتختمه أيضًا، وهكذا تدورُ في شهرك هذا المدار.
إذن: إنَّ تعقلك و توجهك إلى باعثك الإنساني مرتبط ومقترن بوقت الصلاة وارتفاع صوت الأذان، بمعنى أن تنبهك لأول وقت الصيام هو تنبهٌ منشؤه الباعث الإنساني وهو مقترن بالصلاة، ثم إنَّ جريان نفسك على الباعث الغريزي وانتظارك لآخر وقت الصيام مرتبطٌ ومقترن بوقت الصلاة وارتفاع صوت الأذان.
ومن هنا نقول إننا نقرنُ كلا الباعثين بالصلاة والعبادة والأذان (الذي هو عبارةٌ عن رمز ذي معانٍ سامية يرمز إلى دخول وقت الصلاة).
وبين هذين التنبهين من الصائم، التنبه لبداية الصيام ونهايته يجرِّب خلال اليوم الواحد الامتناع والرخصة، أي أنَّه يجرِّب شعوريًّا الضدين، وتجربته الضدين موجهةٌ على نحوٍ يكون في فترة الصيام غير منبعثٍ نحو انبعاثاته الغريزية لغاية طاعة الله والوصول إلى مصلحة هذه العبادة وهي التقوى فيقفُ منتصرًا لكفة البواعث الإنسانية، فيحاول خلال هذه الفترة أن يعلم نفسهُ بهذه الطاعة (التجربة) أن يلتزم بما تبعثه فطرته وعقله وروحه نحوه.
ثُمَّ يأتيه خطابُ الرخصة (وقت الإفطار)، وهو عندئذٍ يجرِّب نفسه من حيث موازنته بين بواعثه الغريزية والإنسانية، ففي هذا الشهر تَدْخُلُ نفسك في تجربتين تنتصر في إحداهما للباعث الإنساني (وقت الصيام)، وفي التجربة الأخرى (وقت الإفطار) تُخلَّى عن التكاليف فترى ميول نفسك إلامَ تميل؟ وفي الدوران بين الصيام والإفطار ظرف يهيئ الإنسان لكي يعود إلى الأشهر الأخرى على نحو يوازن بين بواعث نفسه.
إذن: هذا ظرفٌ مهيئٌ للإنسان لقياس مقدار تعقله بين هذين الطرفين الزمنيين من التكليف والترخيص، فهلُ تتوافق حالة إفطاره مع حالة صيامه من حيث إنَّ الصيام قد كان لتقوية الباعث الإنساني فيه، هل يطلق العنان لغريزته مرةً أخرى دون مراعاة للباعث الإنساني؟
إنَّ المؤمن يجرِّب ذلك طوال الشهر، بين هاتين الفترتين، إنَّه قبل أن يصل إلى زمن الإباحة المطلقة للملذات وهي الأشهر التي بعد شهر رمضان يجرب في هذا الشهر الذي تغلُّ فيه الشياطين نفسهُ هل هي ميّالةٌ للخير؟ هل يمكنُه أن يديرها إدارةً توصلهُ إلى كماله؟ ما هو مقدار تعقله؟ هل يمكنه في فترة الإفطار أن يوازن بين باعثه الغريزي وبين باعثه الإنساني؟
وبتعبير آخر: هل ينسجم صيامه مع إفطاره؟
وهذا الظرف يقضي على الإنسان العاقل أن يتنبه إلى نفسه في فترات صومه وإفطاره ويغير من نفسه في كل يومِ جديد يمر عليه خلال شهر رمضان.
فالحاصل: إنَّ المقصود من انقسام اليوم هو أن تجربة الإنسان وممارسته تكون على قسمين: قسمُ الصيام وقسم الإفطار، ويبتدأُ القسم الأول وينتهي بالصلاة والأذان، وكذلك القسم الثاني، وهذا يمثل أجواء هذين القسمين، فيكون انتظار المؤمن وتنبههُ في يومه مرتبطٌ دائمًا بالطاعة والعبادة.
وخلال القسمين يجربُ بواعثه النفسية عمومًا (أعم من الباعث الغريزي والباعث الإنساني) ولكن تختلفُ تجربته في كلا القسمين، ومجموع هذه التجربة تهيؤه للمستقبل وما يأتي من الأشهر بعد الشهر الكريم.
في المقال القادم بإذن الله تعالى سنُأسس تأسيسًا جديدًا لنبني عليه، وعنوانه: ((التجربة الشعورية وانتزاع الكلي)).
مهدي صالح الجمري