بحثَ عُلماءُ العقَائدِ مِنَ الشيعَةِ وغيرِهم مسائل التوحيد، وكان محورُ الشُغلِ في بحوثهم تحقيق الابتعاد بالإيمان عن مزالق الشرك الخفي، فتحدَّثوا في توحيد الذات وتوحيد الصفات وتوحيد الخالقية والفاعلية والتقنين والتشريع وغير ذلك، ولكنِّي في هذا المقال أتناول التوحيدَ من بعدٍ آخر ولَّدَه التساؤل عن أصل فرض التوحيد وعلاقته بتولي الرسول الأكرم والأئمة الأطهار (عليهم السلام)، إذ أنَّ اللهَ تعالى يقول: (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ)[1].
لم ينفرد الإسلامُ بدعوةِ التوحيد، وكذا لم تنفرد الأديانُ السماويَّةُ بها، بل هناك أقوام آمنوا بوجود خالِقٍ واحدٍ أحدٍ، وهناك من آمن بوجود قوى غيبية لها سلطة خارقة على هذا الوجود، ولكنَّ أيًّا من هذه لن تنفع مُعْتَنِقَهَا ما لم يكن له إمامُ هُدىً مِنَ اللهِ تعالى، فعن جابر، قال: سَمِعْتُ أبا جَعْفَرٍ (عليه السلام) يقول: “إنَّمَا يَعْرِفُ اللهَ عَزَّ وجَلَّ ويَعْبُدُهُ مَنْ عَرفَ اللهَ وَعَرفَ إمَامَهُ مِنَّا أهل البيتِ، ومَنْ لا يَعْرِفُ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ وَلا يَعْرِفُ الإمَامَ مِنَّا أهل البيتِ فإنَّمَا يَعْرِفُ ويَعْبُدُ غَيرَ اللهِ، هَكَذا واللهِ ضَلالا”[2].
لا ترتبط القضيةُ بمجرَّد توحيد الله تعالى وعدم الشرك به، فهذا يُمكِنُ إحرازه بمجموعة من المقدمات البرهانية العقلية التي يثبت بها الصانع ووحدانيته، بل وتثبت بها بعض المعاني العميقة لقوله تبارك ذكره (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ)[3].
عندما نلاحظ مجموع الآيات القرآنية والأحاديث الشريفة عن النبي الأكرم وأهل بيته (عليهم السلام) نقف على أنَّ هذا الدين العظيم جاء لصياغة جنَّة في الأرض تكون انعكاسًا لجنَّة الخُلد التي وعد اللهُ بها المتَّقين، وهذا ما قد يُستفادُ من قوله تبارك ذكره: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً)؛ من حيثُ إنَّ الخليفةَ وجودٌ لمن استخلفَهُ، وبالتالي كان تكليف الإنسان في هذه الأرض إقامة أمر الله سبحانه وتعالى في مختلف الميادين مطلقًا، ولذلك قال سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً)[4].
من الواضح أنَّ طاعة الله مطلقة، وطاعة الرسول (صلَّى الله عليه وآله) مطلقة، بدليل: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا)[5]، وقد عُطِفَتْ عليها طاعة أولي الأمر، فهي مثلها، ثُمَّ جاء الأمرُ بالردِّ لله وللرسول (صلَّى الله عليه وآله) في مطلق النزاع بعد الامتثال بالطاعة المطلقة.
لم يُخصِّص اللهُ سبحانه وتعالى موارد الطاعة في العبادات والمعاملات فقط، وتبعًا لذلك لم يُخصِّص موارد النزاع التي يُردُّ فيها الأمر إلى الله والرسول (صلَّى الله عليه وآله) في القضايا الموكلة في عصرنا للمحاكم الجنائية والشرعية، بل هي مطلقة أيضًا، وبالتالي فإنَّ مستقى القواعد والقوانين في مختلف الميادين لا ينبغي أن يخرجَ عن الثقلين المُقدَّسين، الكتاب العزيز والعِترَةِ الطاهرة، وهذا واضح في إطلاق التمسُّك العاصم من الخطأ: “ إنِّي قد تَركتُ فِيكُم أمرين لن تَضلُّوا بعدي ما إنْ تَمَسَّكْتُم بِهما: كتابَ الله وعِترتي أهل بيتي، فإنَّ اللطيفَ الخبيرَ قد عَهِدَ إليَّ أنَّهما لن يفتَرِقَا حتَّى يرِدَا عليَّ الحوض، كهاتين -وجمع بين مِسْبَحَتَيهِ- ولا أقول كهاتين -وجمع بين المِسْبَحَةِ والوسطى- فتَسْبِق إحداهُمَا الأخْرَى، فتَمَسَّكوا بِهِمَا لا تَزِلُّوا ولا تَضِلُّوا، ولا تَقَدَّمُوهم فتَضِلُّوا”[6].
في هذا الحديث الشريف جاء الأمر بالتمسك بهما مطلقًا، والتحذير من التقدم عليهما مطلقًا، فظهر خطر التقدم عليهما في مختلف أمور الحياة.
إنَّ المؤمِنَ قد يوحِدَّ اللهَ تعالى ويؤمن إيمانًا صادقًا بنبوة الرسول الأكرم (صلَّى الله عليه وآله) وبخلافة الأئمة الأطهار من أمير المؤمنين إلى بقية الله (عليهم السلام)، ولكنَّه في مقام العمل السياسي والاجتماعي والاقتصادي والتربوي يتقدَّم الثقلين بنظريات أجنبية عنهما أصلًا وفرعًا، فهو بالرغم من توحيده الله تعالى، إلَّا أنَّه ليس كذلك فيما أُسميه بـ(توحيد الوَلاية)، وهو -في نظري- خلاصة التوحيد وزبدة الإيمان.
قد يقال: الكثير من المؤمنين يمارسون ما أسميتَه بـ(توحيد الولاية)، ولكنَّهم يختلفون في استظهاراتهم واستنباطاتهم وما ينتهون إليه من نتائج في مقام التنظير والتطبيق.
فأقول: يتركُ إسلامنا العظيم مساحات علمية رحبة تستوعب اختلاف الأفهام في أطر مُحدَّدة، وهو ما يُعبِّرُ عنه بعضُ فقهائنا بمبدأ (إطلاق العَنان)، ومن أمثلته أنظمة الحكم في الإسلام بحسب استنباطات الفقهاء، والتي يرجع الأمر فيها كلها يرجع للفقه والفقيه، وأمَّا تعميق الاختلافات بين النظريات الإسلامية إلى نزاعات فهذا من صنيعة الأحزاب، ويعلم الحصيف بخطأ النقض بالمصداق.
أؤكد على أنَّ الأمَّة لن تتمكَّن من إحراز الاكتفاء بالثقلين المُقدَّسين، ولن يُوحد الناسُ الله تعالى (توحيدَ الوَلاية)، إلَّا أن يرجعَ الحديثُ الشريفُ محورًا في المجتمع، فتُقرأ كُتُبُهُ المُعتَبَرَة قِرَاءَةَ غِذَاءٍ وتنمية، فيُفهم بها القرآن الكريم، وتُفهم الحياة..
ولن نفلح..!!
لن نفلح مالم يكن الحديثُ إمامًا لنا، لا مادَّة لشرعنة أفكارنا وتوجهاتنا وميولنا وانتماءاتنا الحزبية وما في حكمها، وهذا يحتاج إلى عملٍ ثقافي جاد، وقد يكون واجبًا لكونه طريقًا لتحقيق (توحيد الوَلاية)، وهو التوحيد الذي يكفل لنا ويؤمننا من الوقوع في مغالطات وتغليطات المصطلحات المَصْلَحِيَّة في السياسة والاجتماع وغير ذلك. ولا أضرب هنا أمثلة؛ فعقولكم محلٌّ لرهانات ناجحة.
قراءة في حديث أهل البيت (عليهم السلام) تلو قراءة، ومع كلِّ رشفة ينتشر نورُ الحِكمة في الصدور، فنُبدِع أنواعَ العلوم والمعارِف حتَّى يرى الآخرون حاجتهم في ترجمة ما نَكتب، وليس هذا إلَّا رهين الإيمان بالثقلين المُقدَّسين وأنَّ الله تعالى ورسوله والأئمة من أهل البيت (عليهم السلام) يرون عملَ العاملين، ولعمري أي فلاح أعظم من ذلك؟
(وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ)[7].
السيد محمَّد علي العلوي
6 من شهر رمضان 1438 هجرية