في فلسفة الصوم (2) ll سماحة الشيخ مهدي الجمري

بواسطة Admin
0 تعليق

((تغيير الاتجاه و الانقسام الزمني))

نبدأُ من هذا المقال كما أشرنا، أولى المحاولات لتعقل وفهم الصوم وآثاره وكيفية إيصاله للغاية التي دلت عليها الآية الكريمة: (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون).

إنَّ ظرف التكليف بالصوم هو بعد خطابٍ على طوال السنة بالرخصة في الأخذ بالملذات التي أباحها الله سبحانه، فللإنسان أن يأكل ويشرب ما لذَّ له وطاب، بحسب حاجته بل بحسب رغبته، فلا يكتفي برفع الجوع عن نفسه كيفما كان بل فليأكل الطيب من الطعام، كما أن له أن يأتي زوجه متى شاء ورغب.

وهذه الحاجات في المقام الأول والرغبات في المقام الثاني أمورٌ متأصلةٌ في نفس الإنسان ينبعث لها بمحض نفسه وذاته دون حاجة لباعث خارجي، وهي ضروريةٌ ومرتبطةٌ ببقاء نفسه وبقاء نسله، وهي التي تمدهُ بالطاقة والقوة والاستقرار النفسي، والخطابُ الإلهي التشريعي على طوال السنة قد جاء من حيث الأصل موافقًا لحاجة الإنسان ورغبته وانبعاثاته، فأباح له أن يُخرِج انبعاثه من مقام الشعور الداخلي إلى مقام الفعل الخارجي، وفي هذا الظرف الزمني الطويل بالإباحة من جهة واعتياد الإنسان للجري على المباحات من جهة أخرى، يتغير الخطابُ الإلهي مخالفًا لشعور الإنسان الداخلي الذي يطلب الملذات، فيلزمهُ أن يكبتَ شعوره داخل نفسه ولا يخرجه إلى مقام فعله، بأمرٍ منه سبحانه للوصول إلى قربه وتحقيق التقوى في نفسه.

إنَّ هذا الخطاب بالامتناع الذي يعقب الجري المعتاد على المباحات، هو تغييرٌ لاتجاه حركة الإنسان التي اعتادها طوال سنته، فبهلال شهر رمضان يسير عكس الاتِّجاه الذي كان يسيره، لا أكل، لا شرب، لا جماع، لا ملذات في فترة الصيام التي تبدأ بالفجر وتنتهي بالغروب المقترنان بارتفاع صوت الأذان.

إنَّ تغيير الاتِّجاه يعني فيما يعنيه تهيئةً ذهنية ونفسية مستجدة على نفس الإنسان، فأنا كنتُ في فترةٍ تقتضي شيئًا وأنا الآن في فترة أخرى لها خصوصية من حيث حاجاتي وانبعاثاتي وأفعالي وتقتضي لها شيئًا آخر.

إلامَ يفضي هذا التغيير لاتِّجاه الحركة؟

إنه يفضي إلى انقسامٍ و فصلٍ بتجربة الإنسان وممارسته وشعوره بين فترتين زمنيتين متضادتين من حيث التفاعل مع النفس، فبعد أن جرَّب اللذة يجرِّب ألم الانقطاع عنها، وبالضد الشعوري يُعرف الضد الشعوري الآخر من حيث قيمته الشعورية، وتتسع تجربة الإنسان الشعورية، فلا تبقى نفسه بالسعة المعرفية الأولى، فمن جرب الجوع ليس كمن لم يجربه.

وهنا أفرز عناوين تحتاجُ إلى تفلسفٍ أكثر وأعاودُ إلى ما كنتُ بصدده:

  • تغيير الاتِّجاه.
  • التهيئة الذهنية و النفسية المستجدة.
  • السعة المعرفية بالتجربة الشعورية من جهة طبيعة المعرفة المتَّسِعة وآثارها على النفس.
  • فلسفة الانقسام الزمني، وسأتناول ما انقدح في بالي عنه فيما يلي:

إنَّ هذا الانقسام الزمني الذي يفضي إليه تغيير الاتِّجاه يوصل إلى المقارنة بين زمنين: زمن طويل هو زمن الرغبات، ومدة زمنية مؤقتة قصيرة هي زمن الامتناع، وهذه المقارنةُ تقعُ على الواقع المركب المعقد لا على بساطة المبادئ النفسية فقط، ولسان التعقد والتركب أنْ نقول: أنَّ هنالك عبدٌ بل عبيدٌ تتوالى عليهم النعم تترًا من ربهم وخالقهم ومعبودهم بأوصافه المطلقة بطرقٍ ووسائط في حياتهم الدنيوية بعضها اعتياديةٌ وبعضها غيبية، وهم بالعافية التي وهبها لهم وبالطاقة التي جعلها في أبدانهم التي تحرك جوارحهم، والشهوة التي جعلها في أنفسهم لإقامة أبدانهم بجذب الملائم إلى أنفسهم يتنعمون بنعمه يأكلون ويشربون وينكحون، يفعلون ذلك متى ما احتاجوا ورغبوا وشاءوا.

ثمّ إنهم في زمنٍ آخر انقطعوا بمحض إرادتهم وبأمرٍ من بارئهم عن الجري على نعمه التي وهبها لهم تقربًا له وامتثالاً لأمره، وبتجربتهم للانقطاع شعروا باللقمة التي اعتادوا عليها، وبالشربة التي غفلوا عن قيمتها، فمن شأن هذا التكليف أن يُعرِّفهم بقيمة النعمة وعظمة المنعم، فيصلون بدلالة الأثر الشعوري إلى معرفة المؤثر.

إنَّ هذا الاستشعار لقيمة لقمة الطعام وشربة الماء وامتثال الإنسان لملذاته هو شعورٌ بقيمة النعمة وعظمة المنعم الذي وهبهم كل هذه الملذات وأباحها لهم، ولم يحظرها عليهم تشريعًا ورزقهم إياها تكوينًا.

إنَّ الإنسان بسبب اعتياده على هذه الملذات قد يغفل عن قيمتها ويغفل عن منعمها، فيحتاج أن يتغير الاتِّجاه بالنسبة إليه لكي يلتفت مرةً أخرى إليها، فيكونُ منتظرًا لها وفي شوقٍ لإشباع حاجاته بها، وعندئذٍ إذا حمد ربه كان عارفًا بقيمة النعمة وعظمة المنعم.

إنَّ هذه العبادة العظيمة تهيئ لذلك، وهي لا تهيئُ عبدًا واحدًا لاستشعار ذلك بل مجتمعَه بأكمله، فمن شأنها أن توصل إلى اتحاد العبيد في هذا الشعور الخيِّر، إنها فترة زمنية يتحدُ فيها من يقتدرُ على إشباع رغباته ومن لا يقتدر على إشباعها، يتحدُ فيها الفقير والغني من حيث الشعور، ففي وقت واحد يجدُ كل من الطبقتين ألم الجوع والعطش والابتعاد عن الملذات، فهم مكلفون بتكليفٍ واحد، ومشغولون بفعلٍ واحد، وهو تجربة الجوع والعطش تقربًا لخالقهم وامتثالاً لأمره، وفي هذه الفترة الزمنية تنمحي الطبقتين وتكونُ طبقة واحدة من حيث الشعور الواحد.

وما شأنُ هذا الظرف إذا تّمَّ تعقله والتفكر فيه إلَّا أن تتضامن الطبقات مع بعضها البعض، وينشأ العطف العامّ، والتكافل والتعاون، والخصال الحميدة التي تعنى بالمشاركة، فمن شأن هذا التشريع أن يساهم في تحقيق الاتزان المادي في المجتمع، وبانضمامه للمنظومة الإسلامية بأكملها يرتفع الفقر حسب ما نعتقد.

إنَّ تغيير الاتِّجاه يفضي إلى الانقسام الزمني، والانقسام الزمني يوصل إلى المقارنة الشعورية بين القسمين، والمقارنة الشعورية تفضي إلى التقوى فردًا ومجتمعًا.

وكما يفضي تغيير الاتجاه إلى الانقسام الزمني فإنَّه يفضي أيضًا إلى انقسامٍ في بواعث الإنسان، وهذه هي المحاولة القادمة التي سيأتي عليها الكلام في المقال القادم بإذن الله تعالى.

 

مهدي صالح الجمري

مقالات مشابهة

اترك تعليق


The reCAPTCHA verification period has expired. Please reload the page.