الثبوت والإثبات، ورباعية (الكتاب والعِترة) في توليد المعارف -1-

بواسطة Admin
0 تعليق

لمَّا كان البناء الفكري للمسلمين قائمًا على حجية المنقول قرآنًا وحديثًا وفق ضوابط معينة، اتَّجهوا للتعمق في علم الأصول للتمكن من تحقيق أعلى درجات الاستفادة من النصوص الصحيحة، إلَّا أنَّ ذلك لم يُحقِّق لهم العِصمة الكاملة من الضلال كما أطلق رسولُ اللهِ (صلَّى الله عليه وآله) في قولِه: “يا أيُّها الناس، إنِّي تَارِكٌ فِيكُم الثقلين، أمَا إنْ تَمَسَّكْتُم بِهِمَا لَنْ تَضِلُّوا، كِتَابَ اللهِ وعِتْرَتِي أهَل بيتي، فإنَّهُمَا لَنْ يَفْتَرِقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ الحَوضَ”. فإمَّا أنَّهم لم يتمسَّكُوا التمسك العاصم من الضلال، وإلَّا ففي الأمر ما يحتاج لبحث ونظر.

لن أتطرق هنا إلى التمسك ومفهومه وأطراف الفواعِل فِيه، ولكنِّي أبحثُ أمرًا آخر لا يتحقَّقُ التمسك العاصم من الضلال بدونه.

تحدَّث الرسول الأكرم (صلَّى الله عليه وآله) عن تركه فينا الكتاب والعِترة، وأراد مِنَّا التمسك بهما فنُعصم من الضلال. وحتَّى نُحقِّقَ الإحاطة العلمية المؤهلة لسلوك طريق التمسك الصحيح، علينا الإمساك أوَّلًا بأطراف القضية.

أشير هنا إلى أمرٍ مهمٍّ يفيد قبل الاستطراد.

قال الله سبحانه وتعالى: (بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ)، وحكى قول الخِضر (عليه السلام) لنبيه موسى (على نبينا وآله وعليه أفضل الصلاة والسلام) في القصة المعروفة (وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا).

نلاحظ أنَّ الجهل في الآيتين الكريمتين لم يكن بأصل الشيء ووجوده، ولكنَّه كان من جهة الإحاطة به، أي الإحاطة بأطرافه، ويقع هذا أكثر ما يقع في أوساط الفئات التي يتوقع منها المجتمع مُكنةً معرفية تُسنِدُه ويطمئنُ لها في الهزاهز والفِتن.

أرى أنَّ الأطراف الأولية في وصية رسول الله (صلَّى اللهُ عليه وآله) أربعة:

  • الكتاب.
  • العِترة.
  • الأمَّة.
  • المُنكشف بالكتاب والعِترة.

بيان:

عندما يتخاطب[1] الناس فيما بينهم[2] فإنَّ المفردة الخطابية، لفظيةً كانت او غير لفظية، يراد منها الكشف عن معنى خاص يريده مصدرُ الخطاب، وهذا المعنى المدلول للمفردة الخطابية وجودٌ مستقِلٌّ يأخذُ مَكَانَهُ في الذهن بواسطةِ الدالِّ عليه.

مثال:

عندما يُقالُ: هذه طاولة.

تأخذ معاني: الإشارة والموجود الخاص لجسم مسطح على أربع قوائم والمكان والإشغال، وغيرها، مكانها في الذهن، فيتحقَّقُ العِلمُ بها وإمكان معرفتها. ولكنَّ المهم هنا الانتباه إلى وجودها الخاص في عالم اختلفت التعابير عنه، فبعضهم أطلق عليه اسم (الواقع ونفس الأمر) وبعضهم قال (المُثل)، وما يهمنا الآن العِلم بوجود عَالَمٍ للمعاني، وهي المدلولات، يتَّصِلُ بنحو اتصال بعالَمٍ آخر هو عالَم الدوال كالألفاظ والإشارات.

من هنا، فإنَّ المقال القرآني أو العِتروي يراد منه نقل القارئ إلى المعاني المقصودة، وهذا طرفُ (المُنكشف بالكتاب والعِترة)، ولكنَّ الانكشاف لا يتمُّ ما لم يتصل العقل بعالم المعاني بنحوٍ يتحقَّقُ به التوالد العِلمي والمعرفي، فتكون الصورة كالتالي:

يتَّصِلُ العقلُ (وهو ما عبَّر عنه صلَّى الله عليه وآله -كما أرى- بـ: فيكم) بعالم المعاني اتصالًا عِلميًا موضوعيًا، ولكنَّ مفردات المعاني الجزئية الخاصة مجهولة له، ويتصل من جهة أخرى بالثقلين المُقدَّسين كونهما كاشفين عن المعاني في عالَمِهَا، فيتحقق الدورانُ المُولِّدُ للعلوم والمعارف من العقل إلى المعاني عن طريق الثقلين إلى العقل ثانية وأخيرًا.

تطرأ مشكلةٌ هنا، مُلخصها أنَّ في الكثير من الدوال المقالية قرآنًا وعِترةً ما يحتاج إلى قواعِدَ كلية ومقدمات كبرى يقينية تُخرِجنا من إشكالات الحمل الظنِّي، وهذه -بحسب ما أرى- تؤخذ من اتصال تكويني بين العقل وعالم المعاني، وهو ما نُطلِقُ عليه عالم (الثبوت)، أي ثبوت ما فيه يقينًا سواء علمنا به أو لا، وأمَّا عَمَلُنَا الاستدلالي والاحتجاجي فعالَمُه (الإثبات)، وتختلف استعمالات المصطلحين بحسب العِلم، ففي المنطق لهما معنى وفي أصول الفقه معنى وفي الكلام معنى، وبطبيعة الحال ليس الاختلاف إلَّا بحسب المقام، وإلَّا فالاشتراك الجوهري موجود في جميع المقامات.

على أيَّة حال، ما يعنينا هنا معنى الثبوت والإثبات في علم الكلام، وهذا ما نتحدَّث عنه إن شاء الله تعالى في المقال القادم.

أطرح الان بعض الإثارات شحذًا للأذهان..

  • نقول بحاكمية الثبوت على الإثبات، ولكن السؤال: كيف نعلم بالثبوت لنُحَكِّمُهُ على الإثبات؟ وكيف يعمل البرهان (اللمي) في المقام؟
  • بحسب مقامي الثبوت والإثبات كيف نفهم المعاني الحقيقية الحقَّة لآياتٍ من قبيل:
  • (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ)
  • (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى)
  • (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ)

 

السيد محمَّد علي العلوي

22 شعبان 1438 هجرية

 

[1] – الخطاب الأعم من اللفظي وغيره، كالإشارة مثلًا.
[2] – أذهبُ إلى أنَّ التخاطب بين كلِّ الموجودات مطلقًا، وإنَّما تختلف الأنماط الوسائل.

مقالات مشابهة

اترك تعليق


The reCAPTCHA verification period has expired. Please reload the page.