يَنْعَمُ الإنسانُ بالاستقرار النفسي كلَّما ابتعد عن الهزاهز بين النواقض، وهذا الاستقرار رهين الإلمام والإحاطة بمنظومة الصور العلمية، بحيثُ أن يقِف الفِكرُ على الظواهر وظروفها، فيعي المتناغم المُتَّسِقُ منها فيميزه عن المتشاكس المتنافر.
مثال..
ما هي صِفَةُ الإمامِ الحسين (عليه السلام) في كربلاء قبل الواقعة وفي الواقعة وبعد الواقعة؟
حتَّى نتمكَّن من مقاربة الحقيقة، فنحن في حاجةٍ لفهم الواقع الثقافي في زمن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)، تربويًا واجتماعيًا واقتصاديًا وسياسيًا، وعلينا تتبع أسباب الانقلاب السريع جدًا بعده (صلَّى الله عليه وآله)، وهكذا نلاحظ الأحداث والظروف حتَّى نصِلَ إلى المعاهدة بين الإمام الحسن (عليه السلام) ومعاوية بن أبي سفيان، ونبحث أسبابها، وأبعاد إتلاف معاوية لها.
ثُمَّ ننظر في أحداث المدينة ومكَّة من أوَّل ما أثيرت خلافة يزيد بن معاوية، ونتدبر خروج الإمام الحسين (عليه السلام) ومكوثه في مكَّة، ودور الرسائل التي وصلته من العراق.
ومن بعد ذلك نتأمَّل مواقفه (عليه السلام) بعد دخوله العراق وما دار بينه وبين من التقاه من مختلف الأطياف.. وهكذا حتَّى نصِلَ إلى ظُهْرِ العاشر من المحرَّم سنة 61 من الهجرة..
ونواصل النظر بدقة في أحداث السبي والشام وما نحوها..
كلُّ هذا من باب المقدِّمة الموضوعية للإعمال الفكري في الربط النزيه بين الأحداث ودلالاتها، فنخرج بعدئذ بصورة واضحة ذات عنوان صريح تتفرع عنه منظومة عناوين متناغمة، فلا نقع في مزالق التجزئة والتفسير بالرأي، وهي مزالق سِمَتُها التناقض.. وتبرير التناقض..!
نحتاج أن نفهم.. نريد أن نفهم..
استوقفني حديثٌ دقيقٌ عن الإمام الرضا (عليه السلام) في جواب له على سؤالٍ سأله إياه الصقرُ بن أبي دلف عن الإمام المهدي (أرواحنا فداه)، وكان:
“لِمَ سُمِّيَ القائِمُ؟
قال (عليه السلام): لأنَّه يَقُومُ بَعْدَ مَوتِ ذِكِرِهِ وارْتِدَادِ أكْثَرِ القائلين بإمامته”.
هل قال (عليه السلام): بعد موت ذكره؟!
تساءلتُ..
وكيف يموتُ ذِكرُهُ، والشيعة في إحياءٍ مستمرٍّ لأمر أهل البيت (عليهم السلام)؟
مواليد.. وفيات.. زيارات.. مؤتمرات.. ندوات.. مؤلَّفات..
هل بعد ذلك (يموت ذكره) ويرتد (أكثر القائلين بإمامته)؟
في تصوري القاصر أنَّنا أمام احتمالات، منها:
- ما يقوم به الشيعة اليوم ليس هو الإحياء المقصود في أحاديث أهل البيت (عليهم السلام).
- يأتي زمانٌ على الشيعة يكونون فيه تحت وطأة ضيقٍ شديدٍ بحيثُ لا يتمكنون حتَّى من إظهار تشيعهم، فيعمُّ الباطل بشكل يغطي الآفاق.
- ما يقوم به الشيعة اليوم هو فِعلُ إحياءٍ، ولكنَّ القابليات ضيقة، فلا يعمل الفِعلُ في النفوس بما يتحول منها إلى ثقافات وسلوك.
فلنتأمل الحديث التالي:
عن عبد السلام بن صالح الهروي قال: “سَمِعْتُ أبا الحسنِ علي بن موسى الرضا (عليه السلام) يقول:
رَحِمَ اللهُ عبدًا أحيا أمرنا.
فقلتُ له: وكيف يُحْيِى أمرَكُم؟
قالَ: يتعلَّم علومَنا ويعلمها الناس، فإنَّ الناسَ لو عَلِمُوا مَحَاسِنَ كلامنا لاتَّبَعُونا”.
يأتي هذا الحديث في نسق جواب الإمام الصادق (عليه السلام) على سؤال أبي الربيع الشامي عن قول الله عَزَّ وجَلَّ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ)، قال (عليه السلام): نزلت في ولاية عليٍّ (عليه السلام).
تتحدَّث الروايات في تظافر ملفت عن محورية (الولاية) في صياغة منظومة الفِكْرِ المستقيم، إلى حدِّ أنَّ عملًا لا يُقبَلُ من كائنٍ من كان، ما لم يرتبط بالعقيدة الراسخة في أهل البيت (عليهم السلام) ولاةً وأئمةً وقادةً تكوينًا من الله سبحانه وتعالى، وقد قال رسولُ اللهِ (صلَّى الله عليه وآله):
“معاشِرَ الناسِ، ما لي إذا ذُكِرَ آلُ إبراهيم تهللت وجُوهُكُم، وإذا ذُكِرَ آلُ مُحَمَّدِ (عليهم السلام) كأنَّما يَفْقَأ فِي وجُوهِكُم حَبُّ الرُمَانِ؟!
فوالذي بعثني بالحقِّ نَبيًا، لو جاء أحدُكُم يَومَ القِيَامَةِ بأعمالٍ كأمثالِ الجِبَالِ، ولم يَجِئ بولاية علي بن أبي طالب (عليه السلام) أكَبَّهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ في النار”.
هذه كلُّها عناوين، ليست ذات أثرٍ ما لم تكن في مقام الربط الحقيقي بين نيات صادقة وأعمال تترجمها، فلا معنى للقول بهذا المقام العالي من العقيدة في ولاية أهل البيت (عليهم السلام) في الوقت الذي لا تكون فيه ثقافاتنا ونظرنا وفكرنا على وفق منطق أهل البيت (عليهم السلام).
الحاصِلُ اليوم -كما أراه- هو إحياءٌ لأفكارنا الخاصة بتجزئة منظومة فكرِ أهل البيت (عليهم السلام)، وهذا واضح لمن يرى كيف أنَّ المتقابلين في الفكر يُدَعِّمُ كلُّ فريقٍ منهم أفكاره بأحاديث ومواقف عن المعصومين (عليهم السلام)، حتَّى رُسِمت صورةٌ مشوَّهة للتشيع في عيون المتتبعين من الموالفين والمخالفين.
يبدو أنَّ السيرةَ العامَّة اليوم سيرةُ إماتة لأمر أهل البيت (عليهم السلام)، والعلَّة في ذلك هذا الكم والكيف من التناقضات التي يستقبلها جمهور الناس، فهذا ينشر (ثورية) الإسلام، وذاك يعارضه بسلميته التامة.. وهذا يرفع شعار مكانة المرأة في العمل وممارسة مختلف أنواع الأنشطة الثقافية والاجتماعية والاقتصادية، ويقابله آخرُ يؤكد على أنَّ الإسلام يريد للمرأة الدار.. الإسلام دين الديموقراطية، وفي قباله إسلام حاكمية الحاكم الشرعي واسترقاق الكافر من دار الحرب ما لم يُسلِم..
وهكذا نشعر وكأنَّ أهل البيت (عليهم السلام) عناوين تبرير لكلِّ من يحمل قناعات خاصة مهما كانت متخالفة حدَّ النقض الصريح، ومن هذا المجال الثقافي تنشأ تيارات الرِدَّة والتكذيب فيموت ذكرُ الإمام (عليه السلام).
تُلِحُّ الحاجةُ اليوم أن تتضاعف الجهود العلمية والفكرية الصادقة في استنباط منهج كوني شامل من أحاديث أهل البيت (عليهم السلام) يستوعب الحياة مهما تغير الزمان والمكان، وهذا يحتاج إلى فهم الكليات وقوانينها، وما تتوقف عليه وما يتوقف عليها، وهو أمرٌ ممكنٌ جدًّا، بل هو جامع المقاصد من إحياء الأمر وخلافة الثقلين.
ولكن..
إذا تصدَّى أحدٌ لهذه المهمة، ولم يكن على مُكْنَةٍ صادقة في التخلص من انتماءاته الحزبية أو التيارية أو ما شابه، فهي حينها نقمة جديدة على رأس الأيتام.. أيتام محمَّد وآل محمَّد.
السيد محمَّد علي العلوي
19 جمادى الثانية 1438 هجرية
(ليلة ذكرى مولد سيدتنا الزهراء عليها السلام)