هل ينبغي أن أعرف؟
نعم، الأصل هو: نعم، ينبغي أن أعرف، فالإنسانُ بِلا مَعرِفَةٍ طامَّةٌ على مجتمعه، وقد قال أمير المؤمنين (عليه السلام): “ما من حركةٍ إلَّا وانتَ محتاجٌ فيها إلى معرفة”، ومن أهم أنواع المعرفة معرِفةُ الفعل والإحجام؛ فقد تكون المعرفة الحقَّة في أن لا أعرِف الشيء الكذائي، أو أن أُعرِضَ عن معرفة الأمر الفلاني، وهذا من قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ)، وربَّما كان أيضًا من قول أمير المؤمنين (عليه السلام): “لو تكاشفتم ما تدافنتم”.
ينبغي لنا الالتفات في هذا الباب إلى أنَّ بعض المُفسدِين في الأرض يُقَدِّمُونَ للناس أنواعًا من المعارف لغرض سَوقِهم إلى طريق الانهزام النفسي واليأس من أيِّ تغيير نحو الأفضل، ومن أبرز مصاديق هذه الأنواع ما نشاهده بين كل فترة وأخرى ممَّا يُسمَّى (تسريبات)، وكأنَّ أبوابَ القِلَاعِ وَرَقِيَّةٌ يَتَسَرَّبُ منها كل يومٍ خبرٌ ليطير على صفحات الفضاء فتلتقطه الأجهزة ليستقر في الأذهان حتَّى حين..
تسريباتٌ من البيت الأبيض الأمريكي.. تسريباتٌ من جهاز الاستخبارات الإسرائيلي.. صورٌ مُسرَّبة للتعذيب في سجن أبو غريب.. وثائق مسرَّبة لمخطط الشرق الأوسط الجديد.. مكالمة هاتفية مُسَرَّبة بين فلانٍ وعلَّان..!
نقرأ ونسمع ونشاهد.. ثُمَّ ماذا؟
المخطَّطات والإجراءات ومراحل التنفيذ، كُلُّها كما هي، بل وفي تطور مستمر، وليس للناس أكثر من (النطِّ) على أوتارٍ يحسبونها أوتارَ ثقافةٍ ومعرفةٍ، ولكنَّها في الواقع أوتارٌ تُحقِّقُ أعماقًا انهزامية هائلة في النفوس، وكأنَّ لسان حال الأمر يقول:
هذه التسريبات أيُّها الناس بين أيديكم، وتحت تحليلات عقولكم، وعلى طاولات ندواتكم ومؤتمراتكم، ولن تضرُّوا من سُرِّبِتْ عنه شيئًا..
ثُمَّ، يفرغُ من كلامه، ويُخرِجُ للجميع.. لسانه!
هذه تسريبات (Wikileaks) تطل علينا بين كلِّ فترةٍ وأخرى بجديد صارِخ، فيتقاطر (المُغرِّدون) على الموقع طلبًا للمعرفة، فتُملئ الصفحات بكلمات عربية وغير عربية..
يا إلهي.. ما هذا؟ كم هي معلومات دقيقة! لقد فضحوهم.. آه، وحسرة قلوبنا على ما يجري..
Woow.. My god.. amazing..
ثُمَّ ماذا؟
لا شيء سوى تجذير للشعور بالأسى والعجز عن مواجهة هذه القوى العظمى التي تقف وراء المُسرَّبات.
يعرِفُ المثقفون وغيرُهم الخطوط العريضة لكلِّ ما تَسَرَّبَ عبر هذا الموقع أو ذاك، وهذه المعرفة كافية، والزيادة في الكشف عن التفاصيل لها أضرار بالغة الخطورة على النفسيات والتشكلات الثقافية على مستوى الأفراد والجماعات، ومنها تنشأ انحرافات فكرية يصعب على المحلِّلين في مقام التشخيص إرجاعها إلى أصولها التي منها الاهتمام بمتابعة وتتبع التسريبات في صورها المتعدِّدة (جِدًّا).
أذكر في العام 2003م أنَّني ناقشتُ أحدَ الإخوة العراقيين ناقدًا ظاهرة تعليق البعض في العراق صور الرئيس الأمريكي جورج بوش، فقال لي: لا تنتقد يا سيد، فقد كانت العلامات تشير إلى أنَّ صَدَّام باقٍ لأربعمئة سنة قادِمَة!
لا شكَّ في أنَّه لا يعني هذا العدد من السنوات، ولكنَّه على أيَّة حال تعبير واضح يكشف عن عمق اليأس الذي وصل إليه الكثير من العراقيين في زمن صَدَّام، ومن أهم أسباب هذه الحالة ما كان (يُسرَّب) للناس عن (تفاصيل) جرائم البعث ووحشيته.
نعم، قد يحتاج الباحث إلى مثل هذه المواد في موارد الدراسات وما شابه، وهذا قليلٌ وهو ليس ما نحن فيه، وأقول قاطعًا: لو اقتصرَ الأمر على الباحثين وأصحاب الدراسات لما رأينا تسريبات ولا حتَّى عن (صبَّاب الشاي) لبواب حديقة الحيوان (هناك).
السيد محمَّد علي العلوي
9 جمادى الثانية 1438 هجرية