لا شَكَّ ولا خِلافَ في أنَّ الحقيقةَ الإنسانيَّةَ واحِدَةٌ موجودةٌ في كلِّ واحدٍ من مصاديق الإنسان، وهي بحسب ما توصل إليه الجهد الفلسفي متعينةٌ في (الحيوانية الناطقية)، وهي من حيثُ هي هي واحِدةٌ في كلِّ إنسان (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)، وقال تبارك ذكره (وَهُوَ الَّذِيَ أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ)، وإنَّما تأتي الفوارق في الأمزجة والطِبَاع وما نحوها عارضةً على الأصل، وذلك من بداية التوارث الجِيني مرورًا وانتهاءً بالظروف المتعاقبة منذ لحظة الولادة استمرارًا على طول خطِّ الحياة الخاصة.
ثُمَّ أنَّه لا شبهةَ في أنَّ العوارض على الذات منها ما هو مطلوب إيجابي يدخل في البناء القويم للشخصية، ومنها ما يدخل تحت عنوان (إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ).
ومن المهم هنا الإشارة إلى أنَّ من العوارض ما لا يدخل في دائرة اقتضاء التغيير والمعالجة بالرغم من سِمَتِهِ السلبية؛ وذلك لأنَّ الناس في نهاية الأمر يتميزون عن بعضهم البعض بأمور، منها الطبائع، من قبيل سرعة الانقباض، أو البطء في الاندماجات الاجتماعية، أو ربَّما بعض العصبية، فهذه وأشباهها عوارض ينبغي قبولها مادامت في مستويات لا تدعو للنفور منها، وهذا لعدم عُقَلائِيَّة مُطَالبةِ الناسِ أنْ يَكونوا على مستوياتٍ سلوكيَّةٍ ومِزَاجِيَّةٍ وَاحِدَةٍ، ولكنَّ هذه العوارض الطبيعية ينبغي ضبطها بدقة حتَّى لا تكون عنوانَ تبريرٍ لمن لا يريد إصلاح نفسه، ومن المهم الالتفات إلى أنَّ إصلاح النفس حَقٌّ للمجتمع على الفرد، قبل أن يكون حقًّا على مستوى الإصلاح الذاتي.
قد يقف الإنسان أمام نفسه لمحاسبتها وتشخيص ما عرض عليها من عناوين، ولكنَّ الصعوبة تأتي إذا كان من تلك العوارض ما يمنعه من الرؤية بوضوح، وربَّما هان ذلك عن العارض الذي يريه الأمور معكوسة، فيكون عنده السيء حكمةً، والحَسَنَ قلة فهم. وهنا تظهر الحاجة إلى كشَّاف صادقٍ يلجأ إليه العقلاء طلبًا لرؤية أوضح وتشخيص أدق، وهذا الكشَّاف يتركب في أرقى صوره من أمرين، هما: كتاب في الحكمة وصديق حكيم.
أمَّا الكتاب فسنامه حديث أهل البيت (عليهم السلام) المُفهِم لكلام الله سبحانه وتعالى، وأمَّا الصديق فبميزان الكتاب، ولن يعمل الاثنان مالم يكن الفاعِلُ لاستنطاقهما مُرَكَّب العقل والعاطفة؛ إذ أنَّ انفراد أحدهما عن الآخر ضلالٌ بلا كلام.
إنَّ الأخذَ بحديثِ أهلِ البيتِ (عليهمُ السلامُ) والصديقِ الحكيمِ واجبٌ لا اختيار فيه؛ فصحة النفس وسلامة التعقلات مطلوبة للفرد من المجتمع الذي يعيش فيه، وليس من المقبول عقلًا أن تُبتلى المجتمعات بنفسيات مُعقَّدة ترفض المراجعات والإصلاحات الذاتية الحكيمة (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ)، ويدفع المحيطون بها فواتير تَعَقُّداتِهَا.
من هنا نبدأ:
من أنا؟ ما هي الظروف التي نشأتُ فيها؟ كيف كانت العلاقة بين أبَوَي، وبين إخواني، وسائر أهلي؟ ما هي الطباع الأسرية السلبية التي أثَّرَتْ وعرضت عليَّ؟
ما هي المشاكل التي مررتُ بها وكان لها حضورها في نفسي؟
وكذا يُمرَّرُ السؤال على مختلف المواقف، ومحاولة التدقيق حتَّى في البسيطة منها؛ إذ أنَّ موقفًا عاديًا قد يكون ذا أثر متعاظم في عروضه على الذات..
ما هي طبيعة الإنسان؟ ما الذي ينبغي أن يُضبطَ فيها؟ ما هي طرق الضبط؟
في الواقع، لن أصِلَ بمفردي لإجابات صحيحة وافية، ولذا، أنا محتاج لكتاب الحكمة والصديق الحكيم، وربَّما احتجتُ لصديق وأصدقاء صادقين مخلصين، نتداول فيما بيننا موضوع الإنسان، فنناقش وننفتح على فكر عميق نسلك به الطريق لإصلاح أنفسنا وتخليصها من العوارض السلبية، وتثبيت وتزكية الإيجابية منها.
السيد محمَّد علي العلوي
7 جمادى الثانية 1438 هجرية