أُقول بكل وضوح: لا أشجِّعُ اليوم وفي مثل مجتمعاتنا على الزواج بثانية فضلًا عن التعدُّد بثالثة ورابعة، ولكنَّني في هذه المقالات أحاول مع القرَّاء الكرام الوقوف على حقيقة الأمر بين تشريع التعدُّد في الإسلام والموقف المجتمع الرافض له، فقد تكون الآية القرآنية خاصَّة بزمن الحروب والغزوات عندَّما كان الترمل سمة من سمات تلك المجتمعات، فجاء الإسلام بفكرة التعدُّد لحلِّ هذه المشكلة الاجتماعية، وبانتفائها تنتفي الحاجة إلى التعدُّد إلَّا في بعض الموارد الضيقة مثل مرض الزوجة أو ما شابه.
ولبحث هذا الفرض علينا أن ننتقل إلى سيرة الأئمة (عليهم السلام) والمتشرِّعة في زمانهم، ثُمَّ الآراء الفقهية على عمومها، لنرى إن كانت تساعد عليه أو لا، غير أنَّني في هذه المقالات أحاول تناول الموضوع من جهة أخرى أشرتُ إلى مبعثها في المقال الأوَّل، وهي ثقافة القرية تجاه تعدُّد الزوجات مقارنة بثقافة المدينة والثقافة العامَّة مع التعليم في المدارس النظامية والجامعات وما شابه، ثُمَّ انتقلتُ في المقال الثالث لمناقشة البُعد النفسي للمرأة من حيث مستوى بروزها المجتمعي تعليمًا وعملًا ومشاركةً، ومع الطرح فإنَّني أُذكِّرُ القارئ العزيز بضرورة التفكير الهادئ والموضوعي لنتشارك في الوصول إلى نتائج أقرب إلى الصحة.
بعد هذه المقدَّمة التي استوجبتها بعض الردود الواردة، أرجو أن تكون الفكرة واضحة، وأن تدور المناقشات حول الإثارات المطروحة بموضوعية مُنتِّجة.
وصلنا في المقال السابق إلى التالي:
“يقال أنَّ المرأة تشعر بالغيرة من أي امرأة أخرى، ولا علاقة للأمر بالزواج، فهي تخشى من كون الأخرى متميزة عليها في شأن نسوي، ولكنَّ هذه الحالة لا تخرج إلى الفعلية إلَّا في ميدان العلاقة الزوجية؛ فالزوجة تنكشف للزوج وتُعرف له قدراتها الثقافية والفكرية والنفسية والجسدية والمادية، فهي (ملِكة) ما لم تطرأ امرأة أخرى يثبت تميزها عنها في بعض العناوين؛ فهي حينها لبؤةٌ تتحرَّك تحت غطاء (المحافظة على الأسرة)!
وبالتالي فإنَّ الزوجة الثانية في نظر الأولى مشروعُ فضحٍ لها وكشف عن نواقصها.
هل هذه الرؤية صحيح؟
إن كانت صحيحة، فمن أين جاءت للمرأة فكرة المقارنة أصلًا؟ إذ أنَّه من الطبيعي أن يتفاوت البشر ثقافيًّا وفكريًّا ونفسيًّا وجسديًّا وماديًا، فماذا تكون هذه الحالة الطبيعية حالة مبارزة ووجود بالنسبة للمرأة؟
هل أنَّ مقولة (الملكية) مجرَّد غطاء للمرأة تتخذه للتستر على خوفها من الدخول الفعلي في مقارنة من أخرى؟
أم أنَّ (الملكية) هي الحاكمة في لمقام، وهي المنشأ الذي يدفع المرأة للخوف من المقارنة كخوف التاجر من المقارنة بينه كمالك وبين غيره من الملَّاك؟”.
إذا صحَّ هذا الفرض، فإنَّ المرأة القروية غير المتعلِّمة كانت أضعف من أن تُظهِر غيرتها من الزوجة الثانية، وبالتالي لا يكون سكوتُها كاشفًا عن رضاها، ولكنَّه بسبب ضعفها عن مواجهة الرجل القوي المالك لزمام أمور معاشها، وعندَّما تعلَّمت وسلكت طريق الاستقلال الشخصي، بل وبدأت بتسجيل الإنجازات في ميادين العلم والعمل، أصبحت ذات شخصية قادرة على إظهار رفضها للتعدُّد، سواء بدافع الغيرة أو غير ذلك، فهي غير مجبرة على الإطلاق أن تعيش مع رجل يفكِّر في غيرها، وإن كان يُحِبُّها.
إذا سلَّمنا بهذا الطرح، فإنَّ سؤالًا آخر يطرأ، وهو:
هل من الصحيح أن تستقل المرأة في شئونها المعيشية، أو أنَّ الصحيح أن تبقى في هذا البُعد تابعة للرجل؟
مسألة (التبعية) وإن كانت مذكورة في بعض المسائل الفقهية كالقصر في الصلاة للمسافرة حتَّى مع عدم قصدها إذا كانت مع زوجها؛ وذاك لتبعيتها له، غير أنَّ إطلاقها أمر غير صحيح في عموم الحياة الاجتماعية بما فيها علاقة الولد بأبيه، وإن صح المصطلح أدبيًّا فالتبعية من الأمور المتحرِّكة بحسب الظروف الموضوعية، فقد يكون الوالد تابعًا لولده في ظرف السفه مثلًا، وقد تكون البنت مستقلَّةً عن والدها إذا حبسها عن الزواج لغير سبب وجيه، وهكذا بين الزوجين، فإنَّه لا يمكن إطلاق التبعية، ولذا ذكرتُ في السؤال قيد: الشئون المعيشية.
حتَّى نتمكَّن من الإحاطة بمسألة (التبعية) فلنطلب معنى القوامة في قوله تعالى (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ).
عن محمد بن سنان، أنَّ أبا الحسن الرضا (عليه السلام) كتب إليه فيما كتب من جواب مسائله علَّة إعطاء النساء نصف ما يُعطى الرجال من الميراث: لأنَّ المرأة إذا تزوجت أخذت والرجل يُعطي؛ فلذلك وفَّر على الرجال، وعلَّةً أخرى في اعطاء الذكر مثلي ما تُعطى الأنثى: لأنَّ الأنثى في عيال الذكر إن احتاجت، وعليه أن يعولها وعليه نفقتها وليس على المرأة أن تعول الرجل، ولا تؤخذ بنفقته إن احتاج، فوفَّر على الرجل لذلك، وذلك قول الله تعالى (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ).
بحسب هذه الرواية فإنَّ قوامةَ الرجل على المرأة قوامةٌ يستوجبها التشريع الذي جعل النفقة عليه فكان بها قائمًا على شؤونها المعيشية، وقد يظهر من قوله (عليه السلام): “إن احتاجت” انتفاء الحكم بانتفاء الحاجة، وهذا يُدخِلُنا في بحث استدلالي لا يناسبه المقام، ولكنَّ المنتهى قد يُفهم من قول السيد الطبائطبائي في تفسير الميزان:
“والمراد بما فضل الله بعضهم على بعض هو ما يفضل و يزيد فيه الرجال بحسب الطبع على النساء، وهو زيادة قوة التعقل فيهم، وما يتفرَّع عليه من شدَّة البأس والقوة والطاقة على الشدائد من الأعمال ونحوها، فإنَّ حياة النساء حياةٌ إحساسية عاطفية مبنية على الرقة واللطافة، والمراد بما أنفقوا من أموالهم ما أنفقوه في مهورهن ونفقاتهن.
وعموم هذه العلَّة يُعطي أنَّ الحكم المبني عليها، أعني قوله: “الرجال قوامون على النساء” غير مقصور على الأزواج بأن يختص القوامية بالرجل على زوجته، بل الحكم مجعول لقبيل الرجال على قبيل النساء في الجهات العامة التي ترتبط بها حياة القبيلين جميعًا، فالجهات العامة الاجتماعية التي ترتبط بفضل الرجال كجهتي الحكومة والقضاء مثلًا اللتين يتوقف عليهما حياة المجتمع، إنَّما يقومان بالتعقل الذي هو في الرجال بالطبع أزيد منه في النساء، وكذا الدفاع الحربي الذي يرتبط بالشدة وقوة التعقل، كل ذلك ممَّا يقوم به الرجال على النساء”.
يظهر ذهاب السيد الطباطبائي إلى أنَّ القوامة الشرعية تابعة للقوامة الطبعية، أو التكوينية للرجل على المرأة، فما أفهمه من كلامه هو أنَّ المرأة ينبغي أن تكون تحت قوامة الرجل، منسجمة في ذلك مع طبعها التكويني.
الآن..
إذا صحَّ ذلك، فإنَّ الاستقلال الذي أعطى المرأة القدرة على رفض التعدُّد يخالف الطبع الذي خُلِق عليه الرجل والمرأة.
فهل هذا صحيح؟
كيف يرى القارئ العزيز مسألة استقلال المرأة بشئون حياتها؟ وكيف يرى ندِّيتها للرجل؟ وهل تؤثِّر مثل هذه الأمور على ثقافة المجتمع بشكل سلبي أو إيجابي؟
نُفكِّرُ حتَّى نلتقي في الأسبوع القادم إن شاء الله تعالى.
السيد محمَّد على العلوي
23 أكتوبر 2016 ميلادية
21 محرَّم 1438 هجرية