حرية الفكر ومحذور عقلنة التدمير

بواسطة Admin
0 تعليق
 
IMG_4360
أحاول البحث عن مؤسسات معرفية مدرسية تقوم على عدم التقنين مطلقًا، وكلَّما افترضتُ واحدةً اصطدمت بواقع اعتبارها عدم التقنين قانونًا لها، وبالتالي لا أجد مفرًّا من حملها على النقض الذاتي في جوهر بنائها، وإلَّا فكيف يمكن التوفيق بين الإطلاق واعتبار نفس الإطلاق قيدًا فيه؟
 
هناك محاولات لجعل الإطلاق في ما دون قيد أعلى، فمن جهة هم يقولون بالحرية الفكرية المطلقة بعد تقييدها بعدم قبول القيد، وقد نتنزَّل فنسلم لهذه المحاولة، وهذا إذا ما استقام الإطلاق في مراحل التفكير (المطلق)، ولكنَّ هذا لا يتحقَّق أيضًا؛ إذ أنَّ طبيعة الفكرة قائمة في وجودها على حدود تميِّزها عن غيرها، وهذه القيود مانعة من إطلاق الفكرة من أصل، فنحن نميِّز بين الأعلى والأسفل، واليمين واليسار، والأبيض والأسود، ولو لا حدود كلِّ واحد من هذه الحقائق لما تمكنَّا من التمييز بينها، بل لما تمايزت هي عن بعضها البعض، وهنا اطردوا في محاولة أخرى، وهي الإطلاق في القضايا النسبية، وعدَّوا منها الجمال والصدق والعدالة وما نحو ذلك، وذهب آخرون منهم إلى القول بنسبية ما يُتصور أنَّه ثابت، فقالوا بأنَّ الأعلى للقصير أسفل للطويل، والأقل سوادًا لمن لم يرى بياضًا أبيض، والعدالة بين المجرمين جور عند غيرهم، وهكذا حاولوا التأصيل لنظرياتهم على طريق إطلاق النسبية ونفي الحقائق إدراكًا عند بعض، ومن رأس عند بعض آخر.
 
عندَّما يُفَكِّرُ الإنسانُ في الإطلاق، فهو في الواقع لن يتمكن من معرفته لو لا معرفته بالتقييد؛ فمعرفة الشيء تستبطن معرفة ضدِّه ضرورةً، وبمجرد أن يعرِفَ الإنسانُ شيئًا فهذا كاشفٌ عن معرفة تكوينية مسبقة بضدِّه، ومن ذلك، إذا أدرك افتقاره الذاتي، فهو يدرك ضرورة وجود الغني المقابل، فإذا كان الافتقار مطلقًا، كان الغني مطلقًا، وهكذا..
 
إنَّ لهذه الحقيقة ضروريَّة الوجودِ جوهرٌ إثباتي مُفاده واقعية مشترك الإدراك، وتوضيح ذلك، أنَّ القول بنسبية أيِّ شيء كاشِفٌ عن وجود جهة اشتراك ثابتة تجمع كُلَّ أفراد المفهوم، فهناك جمالٌ حقيقي اختلف الناس في نسبة المُدرَكات له، وكلَّما اقترب الفِكرُ من المفهوم، كلَّما تمكَّن من حِدَّة التشخيص، وبالتالي فما يزعمونه نسبيًّا، هو ليس كذلك؛ ولكنَّ الأمر يرجع إلى مدى إحاطة الفكر بأبعاد وحيثيات الموضوع، ولذا، فإنَّ الحُكمَ على شيءٍ قبل الإحاطةِ بِهِ مُصادرةٌ علمية معرفية تُنتِّجُ دمارًا فكريًا معرفيًا باسم الفكر والمعرفة!
 
يخرجُ الإسلام بالإنسان من شِراكِ هذا التِيه وما فيه من مزالق مُهلِكة، فيحثُّ على التدبر وإعمال الفكر، ولكن في أطر العقل، العقل عِقالٌ، أي قيد يحمي صاحبه من دمار الإطلاقات على غير هدى من الثوابت التكوينية التي أرادها الله سبحانه وتعالى منطلقًا لكل ثقافة وفِكر وإعمال نظر على طريق التكامل، وفي هذا المقام يكفي الرجوع إلى كمِّ وكيف (اللاءات) في القرآن الكريم وحديث أهل البيت (عليهم السلام)، ومنها نفهم معاني التقيُّد في الفكر بقوانين ثابتة، ونعي ضرورة الوقوف في وجه دعوات تضييع الإنسان بتخريب عقاله الفكري.
السيد محمد علي العلوي
17 من ذي القعدة 1437 هجرية
21 أغسطس 2016 ميلادية
 

مقالات مشابهة

اترك تعليق


The reCAPTCHA verification period has expired. Please reload the page.