حتى في (الركيض)

بواسطة Admin
0 تعليق

IMG_4303

ازدواجية المعايير هي المبادئ التي تتضمن أحكامًا مختلفة لفرد أو مجموعة بالمقارنة مع فرد أو مجموعة أخرى، ومثال ذلك أن يُدانَ شخصٌ على اختلاس مبلغ من المال، ويُكافئُ آخر ارتكب نفس الفعل ولكن أعطي عنوانًا غير عنوان الاختلاس، ومن الواضح أنَّ لهذه الحالة انتشارٌ واسع في مجمل المتجمع البشري وفي مختلف المساحات والمستويات.

ازدواجيةُ المعايير نتاجٌ صريح لعصبيةٍ انتمائيةٍ بالمعنى الواسعِ لها وبحسب تعريف ابن خلدون للعصبية، وفي ما نحن فيه، فإنَّني أقصد بالعصبية إحلال الذات محل الفكرة أو النظرية، عن قناعة أو عن ارتهانٍ ثقافي لها، فينتج عن ذلك اختلالٌ في الموازين يُفرِّخُ ازدواجية المعايير، وعند اكتمال الصورة، فإنَّ عقلية التبرير تبرز فاقعة في أيِّ مناقشة للفكرة حتَّى لو كانت بين المتعصب لها ونفسه.

كنتُ أتابع مسابقة الجري في أولمبياد (ريو 2016م)، وبنظرة ساذجة أوليَّة، فليس العدَّاء أكثر من شخص (يركض) وهدفه الوصول إلى خطِّ النهاية قبل منافسيه ليفوز، وفي أسرع وقت ممكن ليحقق رقمًا شخصيًا أو أولمبيًّا أو عالميًّا جديدًا.. يعني: لا يحتاج الأمر إلى أكثر من (رِكِّيض سريع)!

ذهبتُ للقراءة حول رياضة العدو، فاتضح لي أنَّ الأمر أعقدُ بكثير من مجرَّد (الركض)، فهناك مبادئ خاصة بالقدمين وأيِّ جزء من القدم هو المسؤول عن الدفعة الأولى، كما وهناك مبادئ خاصة بالذراعين والمسافة التي تتحركان فيها، ومثلهما حركة الساقين وزاوية الركبة حين الاندفاع وحين الارتكاز، ناهيك عن ضبط التنفس والتحكم في الشهيق والزفير بحسب خطة السباق بعد دراسة المنافسين من حيث نقاط القوة والضعف عند كل واحد منهم!

ليس هذا فقط، فهناك الكثير جدًّا من القواعد والمهارات والخطط الخاصة التي ينبغي للعداء معرفتها معرفة تامَّة، وإلَّا فاحتمال خسارته كبير حتَّى لو كان متوفِّرًا على أعلى مستويات اللياقة البدنية.

في طريقي وأنا أقرأ عن هذه الرياضة، مررتُ عن طريق الصدفة بصفحات تتحدَّث عن لعبة (Bowling)، ومن الأفضل أن لا أذكر شيئًا عنها، فليس من اللطيف أن يصاب القارئ الكريم بصدمة بعد أن يكتشف مدى تخلُّفه عن فهم تلك القناني التي تطيح بها كرةٌ يقذفها اللاعب!

رميتُ بظهري على مسند كرسي أجلس عليه، ثُمَّ حلقتُ بعيدًا وأنا أتأمَّلُ الإسلام وقد أصبح كما يقول إخواننا في مصر (وكالة بلا بواب)، يدخله كلُّ أحد ليُفَسِّر ويُفتِي وينقض ويصحح أحاديث ويضعف غيرها، ثُمَّ يخرجُ ليلتقط من هنا وهناك، ويعود ثانية ليدخل ويفسِّر ويفلسف ويتفلسف من جديد، وهكذا دون أدنى عناية بتحصيل أقلِّ المقدمات (بالفتح والكسر)، وهو في كلِّ ذلك على حقٍّ؛ فالإسلام للجميع، وقد خاطب الله تعالى به الجميع، وهو واحد والأفهام متعدِّدة، ومن حقِّ أيِّ أحد أن يفهم بحسب ما يمتلك من خلفيات، ولا تثريب عليه ما دام مؤمنًا بأنَّ الله جلَّ في علاه واحد.

هكذا هي سهلة يمتطيها من يشاء ليسبغ شرعية يطلبها المجتمع على ما يحمل من أفكار وثقافات، حتَّى أصبح الإسلام عن العلمانيين علمانيًا، وعند التقدميين تقدميًا.. وواللهِ قد سمعتُ من ملحدٍ أنَّ الإسلام من أكثر المذاهب الإلحادية وعيًا ومرونةً!

يا جماعة الخير.. الطبَّال لا يطبل ويرقص على طبلته الراقصون إلَّا من بعد أن يكون طبَّالًا ذا فنٍّ وخبرةٍ.

إلَّا الإسلام فيقتحمه كلُّ من أراده قميصًا لأفكاره مهما كانت سخيفة تافهة، ومهما تضاربت فيها الأسس والمباني، فقد أمسى الإسلام بغيةً لكلِّ صاحب دنيا، وقد صدق إمامنا الحسين (عليه السلام) إذ قال: “إِنَّ النَّاسَ عَبِيدُ الدُّنْيَا، وَالدِّينُ لَعْقٌ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ يَحُوطُونَهُ مَا دَرَّتْ مَعَايِشُهُمْ، فَإِذَا مُحِّصُوا بِالْبَلَاءِ قَلَّ الدَّيَّانُونَ”.

لم يُتركُ الإسلامُ بلا حرَّاسٍ يحافظون عليه ويذودون عنه، ولكنَّ البلاء كل البلاء إنَّما هو في لا قِيَمِية المنتهكين، وجرأتهم المحمومة على علماء الإسلام، وكلُّنا نشهد بوضوح تلك الهجمة الشرسة التي يقودها دعاةُ الدنيا باسم الدين ضد العلماء والحواضر العلمية وبشكل يكاد أن يكون غيرَ مسبوقٍ في كيفِهِ وتلوناتِه.

ألا يستحق الإسلام أن يُنظر إليه في بعد أدوات فهمه، كما يُنظر إلى العدَّاء في مدى إلمامه بمبادئ وقوانين وقواعد العدو؟

 

السيد محمَّد علي العلوي

10 من ذي القعدة 1437 هجرية

14 أغسطس 2016 ميلادية

مقالات مشابهة

اترك تعليق


The reCAPTCHA verification period has expired. Please reload the page.