أُبين في السطور التالية ما أذهب إليه في رؤيتي لهذا العالم العصري من حيث التحولات في أطواره العلمية والجهة أو الجهات التي تخلق حالات التحول وتفرضها ثقافة على المجتمع البشري.
أمَّا التحولات فقد أشرت في المقال السابق إلى إيماني بأنَّ التقدم العلمي الصحيح لا يكون كذلك ما لم يتمحور حول القيمة الإنسانية أوَّلًا والطبيعة التكوينية لهذا الوجود من جهة الدور الزمني فيه ثانيًا، فالفصول -مثلًا- أربعة، ولكلِّ فصلٍ منها ظروفه الخاصة ونتاجه المؤطر به، ومن الأخطاء الكارثية -كما أرى- محاولة الإنسان التعدي على المنظومة الإنتاجية التكوينية بمحاولات تسريعها ومدِّها خارج ميزانها الزمني، كَمَدِّ فاكهة البرتقال –مثلًا- عن موسمها الطبيعي لنجدها في الأسواق طوال السنة، ونقل أنواع خاصة من السمك إلى بيئة اصطناعية لغاية مد مواسم تكاثره وبالتالي رفع نسبة وجوده في الأسواق طوال السنة، وهكذا يجري الأمر في الإنسان وقدراته المتناغمة مع طبيعته التكوينية المنسجمة مع الطبيعة العامة للوجود، فيعمل ليلًا كما يعمل في النهار، ويتواصل مع الأبعد كتواصله مع الأقرب، ويرى في الظلمة كما يرى في النور، وبالتالي تلاشت الفروق التي بين اللهُ تعالى بعض أدوارها في كتابه العزيز فقال: (أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاء لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلا * ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا * وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا * وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء طَهُورًا * لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا * وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُورًا)، فإنَّه (وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ)، و(إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ).
يتعرض المجتمع البشري لضغط ثقافي شديد جدًا، لا يكاد الإنسان يتخلص من بعضه إلَّا ووقع تحت شراسة بعض آخر منه، وأعني ثقافة السرعة التي تجاوزت ولا تزال تتجاوز القدرة الطبيعية للإنسان، ومعقد المشكلة استحسانه لهذه الثقافة وجريه وراء الإبداع فيها وتطويرها، وبالرغم من الآثار السيئة التي المت به فردًا وجماعةً، غير أنَّه عاجز عن إدراك كونها السبب الرئيسي لما يعيشه من آلام ومآسي!
فَقَدَ الإنسانُ جزءًا كبيرًا من انسجامه وتناغمه مع نفسه من جهة ومع الطبيعة التكوينية للأشياء من جهة أخرى، وهذا الانسجام أمر تكويني خلق إلهي، ومخالفته مخالفة لذكر الله بالمعنى الأعم من مجرد التلفظ بأسمائه سبحانه وتعالى، وقد قال تبارك ذكره (وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى)، فإنني أعتقد بأنَّ ثقافة السرعة سببًا رئيسًا في استحكام حالة التوتر النفسي والذهني التي يعيشها الإنسان، ولا يمكن له التخفيف منها، ما لم يرجع إلى فطرة الله تعالى التي فطر عليها هذا الوجود بقوانينه وسننه، وإلَّا فقد يتمكن من ذلك إذا ما أوجد حلولًا مُعَوِّضَة، وهي التي أعتقدها قائمة متحققة في مجتمع القيادة العليا لدول العالم.
أعتقد تمامًا بوجود جهة معينة تدير المجتمع البشري بدقة كبيرة، وهذا ما يسميه البعض بنظرية المؤامرة التي يرفضها البعض، ولستُ منهم؛ إذ أنني أؤمن بها إيمانًا قطعيًا، وأُرجعها لحقائق بيَّنها القرآن بكل وضوح في قوله (وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ * وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ * قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ * قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ * قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ * قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ)، فالإنسان إمَّا أن يكون تحت إدارة الله تعالى، وإلَّا فهو في حزب إبليس وتحت إدارة الشياطين، وكلَّما انقياده لقيادة السماء، كلَّما استحكم انقياده لقيادة الشيطان، وهذا ما يعبر عنه المولى تبارك ذكره في كتابه العزيز بالحزب.. حزب الله، وفي قباله حزب الشيطان.
من هنا، فإنَّ نظرية المؤامرة هي مما أقطع بصحته، وإنَّما الكلام في التفاصيل، وليس المقام مقامها.
لو أنَّ هذه الإدارة العالمية العليا تعيش ما نعيش من توترات واضطرابات ترجع في أهم أسبابها إلى ثقافة التسارع المسيطرة بشراسة على المجتمع البشري، لما تمكنت من إدارة العالم بهذه الدقة الكبيرة، ولذا، فهي إمَّا أن تكون خارج هذه الثقافة، وإلَّا فهي قد حققت الحلول المُعَوِّضَة، وهذا الأخير هو ما أرجحه.
أقصد بالحلول المُعَوِّضَة، الحلول التي تُبطِل الآثار الكارثية للتسارع وثقافته، ومنها حماية الإنسان فردًا ومجتمعًا من آفات الحياة سياسيةً واقتصاديةً واجتماعيةً وغير ذلك، مع خلق أجواء معينة تعطي تلك الثلة دافعًا للعمل والإبداع في مشروعها الأكبر، وهذا بعد تأكيد المناهج التربوية الخاصة جدًا.
يبدو ما أقوله مجرد سردٍ تسيطر عليه مجموعة من الأوهام والخيالات، وهو بالفعل كذلك بالنسبة لنا نحن الذين لسنا أكثر من وقود يحترق في دوامة قاهرة فيتحرك آخرون إلى الأعلى كلَّما اشتد احتراقنا.
إنَّه والحال هذه، لا بد ولا مناص من فكرة الحداثة ليأمن الكبار خطر استقرار الفكري البشري على رؤية كونية واضحة لهذا الوجود.. وهو ما كان فعلًا.
السيد محمد علي العلوي
23 جمادى الثانية 1437 هجريَّة
2 إبريل 2016 ميلادية