اقترن التطور بالزمن، حتَّى أصبح تعبيرًا عن السرعة، فيقال (زمن السرعة) ويُسقط على مختلف المدارات المرتبطة بمحورية الإنسان، فأكله (سريع) وتنقله (سريع).. خضع كلُّ شيءٍ إلى السرعة، بما في ذلك القراءة التي تخصَّص لها دورات بعنوان (فن القراءة السريعة)!
من منَّا لا تستهويه السرعة، فيقطع المسافات الهائلة في سويعات، ويتلقى الخبر البعيد في لحيظات، وينشر ما يريد وعلى مستوى العالم في دقائق معدودة؟
كان الأجداد على الدواب يقطعون الفيافي، ومنهم من يضل الطريق، ومنهم من يموت جوعًا بعد انقطاع السبيل، وآخرون يذهبون فرائس لسباع الصحاري والغابات، وأمَّا اليوم فأحفادهم يسافرون في سيارات وطائرات وبواخر مكيفة مريحة، وفي أوقات خيالية بالنسبة للأجداد.. فأيُّ الحالين أفضل؟
كانوا يفرشون الكتب الضخمة على الأرض بحثًا عن معلومة هنا وأخرى هناك، فيلتقطونها بمحبرة وريشة تنجزان عملًا في سنوات، ولكنَّ نفس هذا العمل لا يستغرق اليوم أسابيع قد تطول إلى أشهر.. فأيُّ الحالين أفضل؟
اختصرتِ الآلاتُ والتكنلوجيا السنوات في أيَّام، وكلَّما اشتدَّ الاختصار، كلَّما زادت سعادة الناس بها، وهكذا كنتُ قبل أن أتوقف قليلًا على هضبةِ فكرٍ أراحتني كثيرًا.. دار السؤال التالي في خلدي..
هل ردُّ الفعل الذهني الطبيعي للإنسان قادِرٌ على مساوقة هذه السرعة الهائلة؟
عندما أسافر من بلدي، فأنا في الواقع أقطع طريقًا لا يُقاس قياسًا فيزيائيًا فقط كما هو الحال، بل من الخطأ -كما أرى- أن يكون كذلك، ولكنَّ الذي أعتقده هو أنَّ قطع المسافة الفيزيائية مقترن تمامًا بقطع مسافة ذهنية بقدرها، وهذا أمر راجع للاتصال التكويني بين الخارج والذهن، فالإنسان يتفاعل مع ما يقع في حدود مداراته الفيزيائية، سواء كانت منظورة أو غير منظورة، كالحدث المشهود والصوت العادي والرائحة والجو وكل ما يقع في ظرفه القريب، وعندما يريد الانتقال لحدث أبعد، فهو في حاجة إلى أن يتأثر بآثار الحدث التي تقع في مداراته، ومن بعد ذلك يتحرك نحوه فيستوعبه استيعابًا صحيحًا وينفعل به ويتفاعل معه بشكل صحي.
اخترقت التكنلوجيا الحالة الطبيعية التكوينية اختراقًا تدميريًا غاية في التوحش والشراسة، فانتقال الحوادث يتجاوز سرعة الاستيعاب الذهني بشكل مخيف، ويحول قدرة الالتقاط إلى معيار للاستيعاب، والحقُّ أنَّ الالتقاط الذهني ليس إلَّا مرحلة أولى تتجدَّد مع النقاط المكونة للحدث، فالاستيعاب هو مجموع الالتقاطات التامَّة للحدث، ولكنَّ الذي يحدث مع هذا التسارع الرهيب هو التقاط أولي محدود يتجاوزه الحدث وتتوالى بعده الأحداث، ولذلك فالأنسان اليوم يتميز بحالة متقدَّمة من الالتقاطية والانتقائية المذمومة جدًّا، وهذا ما رفع مستوى الخلافات والتباينات والنزاعات في المجتمعات البشرية.
دعوني أقرب الفكرة بمثال..
أجلس هنا في غرفتي الخاصة، فإذا وقع أمر ما خارج الغرفة، فهو ينتقل إلى صفحات عميقة في ذهني عبر مدارات تقع بيني وبينه، يؤثِّر فيها بحسبه، وهذا الانتقال يجعلني في حالة نفسية وذهنية منسجمة بمستوى معين مع طبيعة الحدث، وإذا علمت به يكون انفعالي في حدود الانفعال البشري الطبيعي، وهذا على خلاف ما لو وقع الأمر مباشرة في مدار حواسي الخمس ولكن دون انتباه مني لمراحل وقوعه، فحينها قد أصعق، وقد تكون النتائج كارثية.
هذا مثال أولي مبسط جدًّا، ولكنَّني أدعو القارئ الكريم لتدبر الفكرة بتجرد عن عاطفة التعلق بالحاضر التكنلوجي، وعن كلِّ ردٍّ بالنقض، فما أطلبه هو استيعاب الفكرة فقط قبل استطرادي في المقال القادم الذي سوف أشير فيه إلى أنَّ الإدارة العليا للعالم تعيش بشكل مختلف تمامًا عن سكان الكرة المعمورة، وهذا ما أفهمه نتيجة التحليل متَّبعًا برهان (الإن) كما يعبِّر الفلاسفة.
نلتقي في الأسبوع القادم إن شاء الله تعالى، وكلِّي أمل أن يكون القارئ قد استوعب الفكرة بهدوء.
السيد محمَّد علي العلوي
9 جمادى الثانية 1437 هجريَّة
19 مارس 2016 ميلادية