الموهبة ومعايير الكشف

بواسطة Admin
0 تعليق

قد تكون النظريَّة نتاجَ تجرِبة، وقد تكون نتاجَ تجارِب، ولكنَّها أيضًا تتكون وتتشكَّل وتولد من رحِم التأمل والفكر وعمق النظر، ولذا، فإنَّها ليست مشروطة بعمر أو شهادة أو ما شابه، ومن جهة أخرى فإنَّ النظرية قد تنتشر لخلو الساحة من غيرها، أو لوجود نظريات ضعيفة لا تصمد أمامها، وربَّما كان انتشارها بدفع مقصود من جهة لها غاياتها الخاصة، فانتشار النظرية واشتهار صاحبها لا يدلان على صحتها، كما وأنَّ أخرى قد لا تكون ذات صيت ولا حتَّى ذكر؛ فصاحبها قد يكون في مجتمع لا يؤمن بنفسه ويستقوي باستناده إلى غيره من الشرق والغرب.

دار نقاش حول النجاح ومدى معيارية الموهبة، فذهب بعض إلى ضرورة وجودها كمقدِّمة وجودية للنجاح، وذهب آخرون إلى أنَّ الموهبة موجودةٌ بالقوة في كلِّ إنسان، ثُمَّ يُحَولها التعلُّم والجدُّ والاجتهاد إلى وجود بالفعل، وقد أسنَدَ الفريقُ الأوَّلُ رأيه إلى نظريات لبعض العلماء، وكذا فعل الفريق الثاني؛ إذ أورد آراءً لعلماء أيضًا ولكن على نحو النقض، وعلى أيَّة حال فإنَّني لا أرى هذا الانقسامَ صحيحًا؛ فمع قليلِ نظرٍ نقف على أنَّ التطرف في الفهم هو المُنتِّج للرأيين تَمَثُّلًا.

ما هي الموهبة؟

الموهِبَةُ هي وجود نفسي أعمُّ من الذهني وغيره، يتوافق مع الحضور السلوكي للفرد، ونفس هذا الوجود موجود في كلِّ إنسان، وإنَّما الفرق في حضوره شدَّة وضعفًا.

ولكنَّ الموهبة ليست على نوع واحد، فالموهبة الرياضية تختلف من جهات عن الموهبة الشعرية –مثلًا-، وهذه الأخيرة تختلف من جهات أيضًا عن الموهبة الخطابية، والسرُّ في ذلك اختلاف طبيعة المُخرِجَات؛ فحركة الجسم في حال المراوغة للاعب كرة القدم تختلف طبيعةً عن حركة اللسان في حال المحاججة، وهذا بالرغم من أنَّ جهة التوافق واحدة، وهي الصفحة الأمامية من الذهن، وانتقال الوجود المتوافق، والذي أسموه (موهبة)، من الصفحات الخلفية إلى الصفحات الأمامية معلول لمجموعة من الظروف، منها ما هو تكويني مثل الوراثة، ومنها ما هو كسبي من ظروف وحوادث وما شابه، وأمَّا نقله إلى الصفحة الأمامية تحديدًا فهذا شغل التنمية والممارسة وما نحو ذلك.

إذن، موضوع الإبداع موجود في كلِّ واحد من بني البشر وبمستوى وجودي واحد، ولكنَّ الاختلاف في أمرين:

1- الاستعداد المعلول للظروف تكوينيةً وغيرها.

2- الاستعداد للتنمية.

أمَّا الأمر الأوَّل فقد أشرتُ إليه قبل قليل، وأمَّا الثاني فهو جزء مما أسموه (موهبة)، وهو معلول إلى عوامل نفسية غاية في التعقيد، قد تنتشر في مجموعةِ مُفردات، وقد تتحقق في مفردة واحدة، وعلى أيَّة حال فإنَّ هذا المجموع هو (الموهبة) التي يعمل البعضُ على إنضاجها وصقلها ببعض الأدوات التعليمية والتربوية، ولكنَّ طائفة أخرى تمتلك استعدادات كامنة، وقد تبدو في حياتها فاشلة، وفي عيون الناس، وربمَّا يراها الخبراءُ فاقدةً (للموهبة)، ولكنَّها عند آخرين مشروع إبداعٍ لا يخطر على بال!

قد تكون كلمة تشجيع كفيلة بتغيير الصورة تمامًا، وقد تكون عمليةُ تفكيكٍ مقدِّمةٌ لإنتاج إنسان يُغَيِّر وجه التاريخ، فأصل (الموهبة) موجود في كُلِّ إنسان، ولكنَّ تحولها من القوة إلى الفعل يحتاج لمجموعة عوامل أشرتُ إليها، وتبقى وظيفة عاشقي الإبداع وصناعة الخير صناعة الأمل في الأرض التي يراها الآخرون قاحلة، وهنا جمال التحدِّي.

ثمَّة أمرٌ أشير إليه..

ربَّما تكون المعايير العلمية التي يقرِّرها عالمٌ ألماني أو ياباني لعملية استكشاف (المواهب) نافعةً لمن نشأ في مدارس ومؤسسات تلك المجتمعات خاصَّة، فالإنسان هناك يفتح عينيه على احترام العقل وصقل المواهب وصناعة الإبداع، فإذا كبُر ومل ينجح في اجتياز اختيارات (الموهبة)، فهو حينها أقرب إلى معاناة نفسية معقَّدة تجعل من ظهور مهاراته أمرًا متعذرًا، لا لعدم وجود (الموهبة)، ولكن لشدَّة الأمراض التي تتسبب في ضمورها.

ولذا أقول: من الطبيعية أن لا تكون معاييرُ ضبطِ استعدادات الفرد المهارية في المجتمعات الغربية مناسبة في مجتمعاتنا، والإصرار على ممارستها تسبب ويتسبب في خسارة الكثير من الطاقات الإبداعية الكبيرة، وأكرِّر الدعوة لتقرير مجموعة من من قواعد الفك والتركيب؛ حيث إنَّنا نعاني الكثير من عدم التفات (الخبراء والمتخصصين) إلى أنَّ مشاكلنا ليست عميقة على المستوى النفسي، ولكنَّها عارضة علاها صدأُ وجمود، وفي هذه الحالات تكفي مهارات التفكيك مقدِّمةً لإعادة التأهيل.

 

السيد محمد علي العلوي

13 فبراير 2016 ميلادية

 

مقالات مشابهة

اترك تعليق


The reCAPTCHA verification period has expired. Please reload the page.